لقد كان قدر الأميركيين وجيرانهم الكوبيين أن يعيشوا معا ولسنين طويلة تحت وطأة صراع مرير بين أيديلوجيتين متناقضتين تماما؛ ليبرالية يراها ثوريو كوبا متوحشة، امبريالية، طاغية ومتسلطة على ضعفاء العالم وماركسية-لينينية ينظر إليها الأمريكيون بازدراء وامتعاض شديدين ويرون أنها تمثل فلسفة جوفاء في الحكم وتناقض طبيعة الإنسان الميالة نحو الحرية والفردانية. اليوم، ومع رحيل فيدل كاسترو، هم جميعا يعبرون مرحلة أخرى لا أحد يعلم طبيعتها بعد.
ففي وقت متأخر من ليلة الجمعة الأخيرة، توفي زعيم كوبا الثوري فيدل كاسترو لتتقوى بذلك إمكانية إحداث المزيد من التغييرات بهذه الجزيرة والتي بدأت علاقاتها مع الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة تشهد تحسنا ملحوظا وبدأ "الجليد الذي تراكم لعقود على علاقة البلدين يذوب." لقد رحل "الأب كاسترو" وعين الكوبيين على ساكن البيت الأبيض الجديد والمستعد، على ما يبدو، لأكبر المجازفات سياسيا. رحل كاسترو في صمت ليترك أنفاسا محبوسة بكلا البلدين وسؤالا واحدا ينتظر إجابة آنية: هل تملك كوبا راؤول ما يسمح لها بالمناورة أمام "الوحش" اليميني دونالد ترامب؟
كاسترو رحل!
جاء خبر الوفاة في بيان قصير تلاه الرئيس الكوبي راؤول كاسترو عبر التلفزيون الوطني فجر يوم السبت أعلن فيه "وفاة القائد الأعلى للثورة الكوبية" تلاه إعلان مجلس الدولة "الحداد الوطني لتسعة أيام اعتبارا من اليوم السبت وحتى الأحد 4 ديسمبر ". هذا وتباينت ردود فعل الكوبيين تجاه كاسترو. فبينما عم الحزن والصمت سكان العاصمة هافانا لفقدان "زعيم كوبا الأسطوري"، تناقلت وسائل الإعلام الدولية مشاعر الفرح التي أبداها الكثير من الكوبيين المنفيين بولاية فلوريدا الأميركية تحديدا واحتفالاتهم بنبأ الوفاة.
ولد فيدل كاسترو يوم الثالث عشر من شهر أغسطس/آب 1926 بمقاطعة "أورينت"؛ جنوب شرقي كوبا لأب مزارع من أصول إسبانية وأم كانت خادمة في بيت زوجة والده الأولى. تلقى كاسترو تعليمه الإبتدائي في مدارس مسيحية داخلية بمدينة سانتياغو، قبل أن ينتقل إلى العاصمة هافانا لمتابعة تعليمه الثانوي بمدرسة "بيلين" الكاثوليكية ثم لاحقا بكلية الحقوق بجامعة هافانا ليتخرج منها عام 1945 وتبدأ مرحلة جديدة في حياته وحياة الكوبيين انتهت به رئيسا للدولة الكوبية عام 1976.
تبنى الزعيم الكوبي الفكر الشيوعي ومارسه في كل مناحي الحياة الكوبية، فأصلح الزراعة ومنح ملكية الأراضي للفلاحين وأمم الشركات والمصانع والثروات المعدنية. بيد أنه فرض قيودا كبيرة على الحريات السياسية والمدنية وصادر الحقوق الفردية للكوبيين. ويعرف العالم بأسره فيدل كاسترو بمواقفه الصاخبة، والمضحكة أحيانا، وخطاباته المطولة وبزيه العسكري الزيتوني اللون وسيجاره الفاخر ولحيته الأسطورية وبكونه رمز "الكفاح الأول" ضد "الإمبريالية الأميركية". وكان كاسترو قد قاد كفاحا مسلحا ضد سلطات بلاده المتهمة بالفساد والخضوع للولايات المتحدة دام لسنوات قبل أن تحكم قواته الثورية السيطرة نهائيا على الجزيرة الكوبية عام 1959 ليعلن بعد سنتين رسميا "كوبا دولة إشتراكية." وبعد أكثر من أربعة عقود على حكمه المطلق لكوبا وبسبب تدهور حالته الصحية، قرر كسترو يوم التاسع عشر من فبراير 2008 تسليم السلطة لأخيه راؤول كاسترو.
في مخيلة العالم، اسم فيدل كاسترو يقترن بفكرة الثورة أساسا، وبدرجة أقل، عداؤه التاريخي للولايات المتحدة. فمن دوايت آيزنهاور أول رئيس أمريكي يقطع العلاقات الدبلوماسية مع كوبا ويدعم عسكريا جيش الديكتاتور الكوبي فولغينسيو باتيستا في مواجهة ميليشيات كاسترو الثورية، وحتى باراك أوباما الذي سعى جاهدا من أجل تطبيع هذه العلاقات برفع القيود تدريجيا على سفر الكوبيين المنفيين وحرية تنقل الأموال بين البلدين وتوجت أخيرا بفتح سفارتي البلدين في العاصمتين هافانا وواشنطن في يوليو/تموز 2015 وبزيارة أوباما التاريخية إلى كوبا في مارس/أذار 2016، واجه الزعيم الثوري الكوبي فيدل كاسترو 11 رئيسا أميركيا ليواكب بذلك أكثر من نصف قرن من تاريخ الصراع بين البلدين كانت أشد فتراته، إطلاقا، أزمة "خليج الخنازير" في أبريل/نيسان 1961 إبان حكم الرئيس الأمريكي جون إف كنيدي. اليوم وهو يرحل عن هذا العالم المتوتر، وأيام معدودات بعد تغيير حقيقي بالبيت الأبيض وانتخاب دونالد ترامب زعيما جديدا له، لا نملك غير الانتظار لنعرف مآلات الأمور بهذه الجزيرة الصغيرة كوبا.
كوبا خائفة من الوحش ترامب
يبدو أن رياح السياسة الأميركية تأبى إلا أن تأتي بالأخبار السيئة إلا مسامع الكوبيين. فوز ترامب يعني "المشاكل لكوبا" وإنتظار "أوقات عصيبة". فالجميع يعلم هنا، بهذه الجزيرة الصغيرة، كيف كان يهاجم، وبشراسة، دونالد ترامب المجهوذات التي بذلها الرئيس باراك أوباما من أجل تحسين العلاقات بين البلدين وإعادة الأمل إلى قلوب ملايين الناس من الأمريكيين والكوبيين. لقد انتقد ترامب مرارا الإتفاق الذي وقعه أوباما مع النظام الكوبي ووعد بمراجعته، خصوصا في الجانب التجاري منه. ففي مقابلة له شهر أكتوبر الماضي مع القناة التيلفزيونية المحلية "سي بي إس" بميامي؛ ولاية فلوريدا، هاجم ترامب إدارة الرئيس اوباما في سعيها لتطبيع العلاقات مع كوبا ووصف الاتفاق المبرم بين الطرفين "بالضعيف" وإن صرح، في الحقيقة، أن "وجود صفقة ما مع الكوبيين هو أمر جيد".
هذا، وكان ترامب قد صرح لمحاوره بالقناة "جيم ديفدي" أنه سيفعل "كل ما يمكن للحصول على إتفاق قوي مع الكوبيين، حتى لو كان ذلك يعني وقف أو تجميد العلاقات الدبلوماسية المستأنفة مؤخرا بين البلدين." وفي شهر شتنبر الماضي، وخلال اجتماع حاشد بمدينة ميامي، انتقد ترامب مرة أخرى، وبلغة شديدة، التغييرات السياسية في كوبا، وهو ما اعتبره كثيرون تحولا واضحا عن تصريحاته السابقة والتي أيد فيها بقوة إعادة فتح العلاقات الدبلوماسية مع كوبا بعد أكثر من 50 عاما من القطيعة. ففي شهر مارس مثلا، أعرب ترامب عن رغبته في فتح فندق بالجزيرة، وقال لشبكة "سي إن إن" الإعلامية أنه "لا يمانع في جلب كوبا إلى الحظيرة من جديد".
ما كان بالأمس القريب تساؤلا مشروعا حول فلسفة ترامب في التعامل مع النظام الكوبي الغامضة نسبيا، بات اليوم، غداة رحيل كاسترو، أكثر وضوحا وتعبيرا عن توجهات هذا المشاكس الكبير. ففي أول رد فعل رسمي على وفاة كاسترو، دون الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب السبت على موقع "تويتر" تدوينة من ثلاث كلمات جاء فيها "وفاة فيدل كاسترو!" ليصرح لاحقا بأنه سيبذل "كل ما هو ممكن للمساهمة في تأمين حرية الشعب الكوبي بعد وفاة كاسترو" دون أن يعطي أية تفاصيل حول سبل تحقيق هذه الغاية. واعتبر ترامب، الذي سيتسلم منصبه رسميا في 20 يناير/كانون الثاني 2017, أن زعيم الثورة الكوبية كان "ديكتاتوراً وحشياً قمع شعبه" ولا يعتقد المتتبعون لمجريات الأمور بشأن سياسة ترامب تجاه النظام الكوبي أن نظرته القاسية هذه تختلف كثيرا عن نظرته إلى أخيه راؤول كاسترو.
لحظة حساسة
في حديث لشبكة "سي إن إن" غداة وفاة الزعيم الكوبي، قال المحلل السياسي "بيتر كورنبله" أن "رحيل فيديل كاسترو لحظة حساسة جدا في العلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا"، وكيف أن "الكوبيين -مثل العديد من البلدان الأخرى في جميع أنحاء العالم- لا يعلمون حقا ما يمكن توقعه، وأن لديهم مخاوف كبيرة من السياسات المرتقبة لإدارة دونالد ترامب." وأضاف: "برحيل كاسترو، الأخبار الواردة بهذا الخصوص والتصريحات المعلنة بميامي وكل ما يتحدث فيه ترامب الآن أو يصرح به، ستحدد فعلا إذا ما كانت هذه المصالحة والتقارب بين واشنطن وهافانا سيستمران في حقبة ما بعد أوباما ".
في شهر يناير 2015, أفرجت كوبا عن 53 سجينا سياسيا كجزء من صفقة مع الولايات المتحدة لإعادة فتح العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن، والتي تمت بشكل كامل في يوليو 2015 بعد أكثر من خمسة عقود من التوتر والعيش في أجواء الحرب الباردة. فقد باشرت إدارة الرئيس المنتهية ولايته مطلع العام القادم باراك أوباما سلسلة من الخطوات والإجراءات غاية في تخفيف القيود التجارية على المنتجات الكوبية والسماح لمزيد من الشركات الأمريكية ببيع منتجاتها والاستثمار بالجزيرة رغم أن الحصار الأمريكي لم يتم رفعه نهائيا. ويعتقد أوباما أن تطبيع العلاقات مع كوبا قد "يؤدي إلى مزيد من الحريات في المجتمع الكوبي".
بيد أن الرئيس المنتخب دونالد ترامب يحمل رؤية مخالفة تماما ويعتقد أن على "النظام الكوبي الالتزام أولا بتلبية مطالب الكوبيين بالحريات السياسية وإطلاق سراح السجناء السياسيين"، ولا يرى مانعا من مراجعة كل ما قام به أوباما في سبيل إعادة الدفء إلى العلاقة بين البلدين. فخلال تجمع خطابي بولاية فلوريدا شهر شتنبر، صرح ترامب بأن "كل التنازلات التي منحها باراك أوباما لنظام كاسترو تمت بأمر تنفيذي من البيت الأبيض، مما يعني أن الرئيس المقبل يمكنه مراجعة كل هذه القرارات أو إلغاءها، وهذا ما سأقوم به إذا لم يتجاوب نظام كاسترو مع مطالبنا"، وقال ترامب للناخبين أن هذه المطالب "سوف تشمل الحرية الدينية والسياسية للشعب الكوبي وإطلاق سراح سجناء الرأي العام."
هذا وأكد "كورنبله" أنه "يمكن أن نتوقع توترات كبيرة إذا ما أدرك الكوبيون أن إدارة ترامب قد تحاول الاستفادة من حالة عدم الإستقرار بكوبا التي قد تتوقعها هذه الإدارة في أعقاب وفاة فيدل كاسترو أو أننا يمكن أن نتبنى بدل ذلك نهجا أكثر عقلانية وأن يفهم الجميع أن ما حصل لا يجب أن يغير، حقيقة، العلاقة بين الولايات المتحدة وكوبا، وبالتأكيد ألا يغير مستقبل القيادة في المستقبل القريب في كوبا".
من جهته، ذكر خوان كارلوس لوبيز، مراسل "سي إن إن " الناطقة بالإسبانية أن "لا أحد يملك تخمينا معقولا لما يمكن أن يحدث في ظل ترامب"، وأنه "ما زلنا لا نعرف من سيكون وزير خارجيته، ولا نعرف كيف ستكون عليه سياسته تجاه أمريكا اللاتينية عموما". هذا وقال مراسل صحيفة "ميامي هيرالد" إنه "إذا ما تراجع دونالد ترامب عن التغييرات التي أحدثها باراك أوباما، فسوف تعود العلاقات بين الولايات المتحدة وكوبا إلى ما كانت عليه في السنوات الـ50 الماضية."
كوبا كانت تنتظر هيلاري كلينتون
صرح سباستيان أركوس، المدير المساعد للمعهد الكوبي للبحوث بجامعة فلوريدا الدولية لشبكة "سي إن إن" شهر شتنبر "أن الكوبيين يتطلعون إلى المستقبل نتيجة تحسن العلاقات بين هافانا وواشنطن،" وأضاف: "الكوبيون ينظرون إلى هذه التغييرات بتفاؤل كبير." السبب وراء ذلك حسب أركوس أن " الكوبيين قيل لهم أن المشاكل في كوبا سببها الأول هو عداء الولايات المتحدة لبلدهم، وهم الآن يرون كيف تتغير الأمور. فعندما يقول الرئيس: لم يعد هناك أي عداء، فليس لهم إلا أن يكونوا متفائلين حول التغيير."
وقال أركوس إن "الكوبيين كانوا يميلون مبدئيا نحو المرشحة الديمقراطية للرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون أكثر من ميلهم نحو ترامب" وأن هذا الميل راجع بالأساس لكون "هيلاري كلينتون تشارك نفس سياسات أوباما." وأضاف أن "آلة الدعاية الكوبية كانت تروج لصالح هيلاري كلينتون"، وأن "كل ما كانوا يقولونه للكوبيين كان يتم إختياره بعناية. هكذا تتم مخاطبة الناس في العادة." وكانت هيلاري كلينتون أول مرشح للرئاسيات الأمريكية تدافع صراحة وبقوة عن رفع القيود التجارية الأمريكية على كوبا وسبق لها أن طالبت بمدينة ميامي السنة الماضية بضرورة رفع الحصار قائلة أن "هذا الحصار على كوبا يجب أن ينتهي وإلى الأبد."
أرسل تعليقك