جاء تشكيل الحكومة الفرنسية الجديدة " فالس 2" لتكون بمثابة الفرصة الأخيرة لإنقاذ نظام الرئيس فرنسوا هولاند وآخر أوراقه في معركته لإنقاذ النصف الثاني من ولايته الرئاسية بعدما شهد النصف الأول منها فشلا واضحا في إدارة شؤون البلاد سياسيا واقتصاديا.
وكانت حكومة فالس الأولى قد تقدمت باستقالتها في بداية الأسبوع الماضي بعد الانتقادات التي وجهها وزير الاقتصاد أرنو مونتبورج لبرنامج الحكومة الخاص بتقليل عجز الموازنة واتهامه لها بتبعيتها للقرارات الاقتصادية المعتمَدة من طرف ألمانيا، داعيا أولاند إلى "رفع الصوت" أمام المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وعدم الانصياع للسياسة المتشددة التي تفرضها على فرنسا وأوروبا، وهو ما اعتبره أولاند تجاوزا للخط الأحمر.
وكلف هولاند مانويل فالس بتشكيل فريق حكومي جديد يلتزم بالمواقف التي حددها في التعامل مع مختلف القضايا التي تواجهها البلاد. وتشكلت الحكومة الجديدة بالفعل بعد تغيير عدد محدود من الوزراء كان على رأسهم وزير الاقتصاد أرنو مونتبورج الذي حل محله إيمانويل ماكرون المنتمي إلى الجناح اليميني في الحزب الاشتراكي والذي يعد من مؤيدي إدخال جرعة كبيرة من الليبرالية على السياسة الاقتصادية.
كما تم تغيير كل من وزير التربية بنوا هامون ووزيرة الثقافة أورلي فيليبتي، المحسوبين على الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي ، وحل محلهم كل من نجاة فالو بلقاسم وفلور بيليرين.
والأمر الملاحظ أن الحكومة الجديدة لم تحظى بقبول لدى الرأي العام الفرنسي. فمن ناحية اتفق الكثيرون على أن حكومة فالس 2 أخذت منعطفا ليبراليا يخالف تماما وعود أولاند الانتخابية ، فقد تم استبعاد كافة الممثلين الرئيسيين للخط اليساري الاشتراكي الذين كانوا يدعون إلى سياسات أكثر تحيزا للطبقات الشعبية، وهو ما يؤكد إصرار الرئيس ورئيس حكومته على اعتماد سياسة اقتصادية ليبرالية منفتحة على رجال الأعمال الذين أعطوا امتيازات واسعة لتشجيعهم على خلق فرص عمل جديدة مقتربين بذلك من سياسة المستشارة الألمانية ميركل.
وفي هذا السياق ، يعتبر المراقبون أن تعيين إيمانويل ماكرون على رأس وزارة الاقتصاد والصناعة هو اعتراف رسمي بمدى سيطرة المراكز المالية القوية والمصارف على اقتصاد فرنسا ، معتبرين أن هذا الاختيار لا يخاطب جمهور اليسار وأن الحكومة الحالية أصبحت أقرب إلى "يمينية".
كما يعتبر هذا الفريق أن اختيار نجاة بلوقاسم لوزارة التربية اختيارا خاطئا وذلك لأهمية الوزارة التي تتولاها باعتبارها رمزا من رموز العلمانية الفرنسية، ولكونها تتبنى "أيديولوجية سياسية خطيرة" قد تخلق انقسامات ومشاكل بين فئات المجتمع الفرنسي وذلك حسبما رأى بعض المراقبين.
من ناحية أخرى، يتوقع هؤلاء المراقبين خسارة حكومة فالس للأغلبية البرلمانية التي كانت تتمتع بها وذلك بعد استبعاد التيار اليساري من الحزب الاشتراكي وخروج حزب الخضر الذي رفض الانضمام لحكومة فالس وهو ما قد يضع الأخيرة أمام مأزق بسبب فقدها للمساندة في القرارات الحكومية التي تتخذها ويطرح إمكانية إجراء انتخابات برلمانية مبكرة.
ويبدو المشهد الفرنسي الراهن ملبدا بالغيوم، ففي الوقت الذي لم يمض على حكم أولاند سوى عامين وثلاثة أشهر، تظهر التطورات المتلاحقة على الساحة الفرنسية إخفاقا واضحا للسياسات المتبعة سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي.
ومن الناحية السياسية، خسر اليسار الفرنسي كافة الانتخابات التي خاضها على مدار الـ 27 شهرا من حكم أولاند وهو ما يعكس تخلي جمهوره عنه نتيجة عدم احترامه لوعوده الانتخابية التي ألتزم بها أمام المواطنين.
أما اقتصاديا فقد ألحقت السياسات التقشفية القاسية والإرهاق الضريبي ضررا بالغا بالمواطنين لاسيما الفئات المتوسطة، وجاءت المؤشرات مخالفة لتوقعات الحكومة ، حيث بلغت نسبة البطالة مستويات تاريخية وصلت إلى 3,398 مليون عاطل في يونيو الماضي وهو ما يقارب نسبة العشرة في المائة من الأيدي العاملة، وازداد عدد العاطلين عن العمل بنحو مليونين في فرنسا منذ تولي أولاند الحكم في مايو 2012.
إضافة لذلك لم تتحقق توقعات الحكومة بعودة النمو الاقتصادي وخفض العجز السنوي حيث كشفت البيانات الصادرة عن معهد الإحصاء الحكومة الفرنسية ركود الاقتصاد الفرنسي خلال الربع الثاني من العام الجاري وهي الفترة التي شهدت هبوطا في استثمارات الشركات وعجزا بالتجارة الخارجية أفقد الناتج المحلي 0.1% ،وخلال هذه الفترة ارتفع كل من الإنفاق العام والإنفاق الاستهلاكي بنسبة 0.5% لكل منهما بينما تراجع إنتاج السلع والخدمات بنسبة طفيفة بلغت 0.1% وانكمش إنتاج السلع الصناعية مجددا بقدر 1% بكافة القطاعات الاقتصادية.
ووفقا لهذه البيانات أقرت الحكومة بصعوبة تحقيق أهداف النمو والعجز المستهدفة لعام 2014 مع توقعات بتجاوز العجز العام لفرنسا بنهاية هذا العام نسبة الــ 4% من إجمالي الناتج المحلي.
واتفق الكثيرون على أن الأزمة التي يشهدها النظام الفرنسي في الداخل انعكست على صورة فرنسا الخارجية حيث بدا أولاند بصورة "الرئيس المستضعف" داخل الاتحاد الأوروبي وأصبح مترددا في أخذ قرارات حاسمة فيما يتعلق بسياسات الهجرة أو تطورات منطقة الشرق الأوسط، واختلت شراكته مع ألمانيا وهو ما جعل زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف، مارين لوبن، تصف فرنسا بـ "رجل أوروبا المريض" في الوقت الذي تتفرد فيه ميركل بدور المحرك أو قوة الدفع الرئيسية داخل الاتحاد.
ونتيجة للمشهد السابق تدنت شعبية الرئيس أولاند بصورة لم يشهدها أي رئيس فرنسي من قبل حيث لا يعد يرى سوى عشرة في المائة من الفرنسيين أن أولاند قادر على إخراج فرنسا من أزمتها وذلك حسبما أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة في الوقت الذي هبطت فيه شعبية رئيس الوزراء فالس إلى مستويات متدنية وخسر 10نقاط خلال 5 أشهر منذ تشكيل حكومته الأولى في مارس الماضي.
ويرى عدد كبير من المراقبين أن حكومة فالس 2 الحالية تعد بمثابة الفرصة الاخيرة أمام الرئيس أولاند لإنقاذ السنوات المتبقية من ولايته، وأنه لو لم تنجح تلك الحكومة في إعادة وضع الاقتصاد الفرنسي على سكة النمو والتخفيف من وطأة البطالة فإن ذلك سيعد مؤشرا قويا على هزيمة الحزب الاشتراكي في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2017 وانحصار التنافس بين اليمين المتطرف والاتحاد من أجل الحركة الشعبية.
نقلًا عن "أ.ش.أ"
أرسل تعليقك