القاهرة - أ.ش.أ
وجهت الثقافة المصرية اصبع الاتهام "لزمن التعذيب الأميركي"، وانضم الكاتب الروائي المصري يوسف زيدان بروايته الجديدة "جوانتانامو" لثلة من كبار المثقفين في العالم الذين اسهموا بابداعات وكتابات متعمقة في تعرية النفاق وازدواجية المعايير والتناقض بين الكلمات والأفعال على صعيد قضايا حقوق الانسان.
والرواية الجديدة عن "زمن التعذيب الأمريكي" جزء من ثلاثية عن شاب عشريني وجد نفسه في معتقل جوانتانامو دون ذنب اقترفه فيما يقول يوسف زيدان الثلاثية ككل "تتناول البؤر السوداء في العالم"، معتبرا أن "الزمن يجبر الكاتب على تلك الاختيارات".
وملف التعذيب مستفز وفاضح معا.. فهو مستفز لأنه لا يوجد ما يستفز الذات الحرة أكثر من العدوان على كرامة الإنسان واستحالة شروق الشمس لكابوس، بينما الحياة تتدبر نفسها فى الظلام وأقبية وسجون سرية!.. وهو ملف فاضح بكشافه المسلط على التعذيب بعتمته المخيفة ومعتقلاته وذواته المهشمة وهؤلاء الجلادين وترزية القوانين والرجال الذين يقفون وراء التعذيب.
وقال يوسف زيدان، صاحب روايات "ظل الأفعى"، و"عزازيل"، و"النبطي"، انه ركز في القراءة على الوثائق والمصادر التي تتعلق بمعتقل جوانتانامو حتى يكون بمقدوره انجاز الخلفية العامة للأحداث وضبط الوقائع كما يفعل دائما في كتاباته الروائية، فيما تعد هذه الرواية هي الثانية من ثلاثية بدأت برواية "محال" فيما يزمع أن يتوجها برواية "نور".
ورواية "محال" تتحدث عن شاب مصري يعمل في مجال الارشاد السياحي بأسوان ثم تتقلب به الأحوال حتى اعتقاله على الحدود الباكستانية-الأفغانية في خضم الحرب التي شنتنها الولايات المتحدة على حركة طالبان الأفغانية بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.
اما رواية "جوانتانامو" الصادرة عن دار "الشروق"، فتدور كلها في المعتقل، بينما ستسرد رواية "نور" ما حدث مع الفتاة التي احبها بطل "محال"، كما يوضح يوسف زيدان الحاصل على جائزة بوكر العربية عن روايته "عزازيل" التي كتب نصفها الأول على شاطيء البحر في الأسكندرية وكتب مسودات النصف الثاني منها في دير سمعان العمودي الواقع شمال حلب بسوريا، فيما راجع هذه الرواية المثيرة للجدل في منطقة "جبل النور" بشمال ايطاليا.
وبالاضافة لأعماله الروائية فان للدكتور يوسف زيدان عدة مؤلفات وابحاث في الفكر الاسلامي والتصوف والتراث العربي المخطوط فضلا عن مقالات بالصحف وهو يعشق اعمال الروائي الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس وصاحب "نوبل" الكولومبي جابريل جارسيا ماركيز.
وفي "جوانتانامو" صيحة مثقف مصري ضد التعذيب كما مارسته القوة العظمى التي تردد شعارات حقوق الانسان فيما تبدو الهوة مخيفة بين الأقوال والأفعال بقدر ماتكشف عن مدى النفاق والأكاذيب وازدواجية المعايير.
ولعل الخيال الروائي للكاتب المصري يوسف زيدان في عمله الجديد "جوانتانامو" لم يشطح بعيدا عن الواقع الذي تتردد فيه اسماء مثل "دافيد ادينجتون" ذلك الرجل الذي لم يعرفه حتى الكثير من مواطنيه الأمريكيين رغم انه الرجل الذى وقف وراء التعذيب فى ادارة الرئيس جورج بوش كما يؤكد جاك جولد سميث فى كتابه "رئاسة الارهاب: القانون والقضاء فى ادارة بوش".
وهذا القانوني كان الأكثر قوة فى ادارة بوش كما كان ايضا الرجل الأكثر ابتعادا وميلا للعزلة..انه دافيد ادينجتون الذى كان مستشارا قانونيا لنائب الرئيس الأمريكى ديك تشينى خلال الفترة بين عامى 2001 و2005 ثم انتقل للعمل كرئيس لهيئة العاملين مع نائب الرئيس.
فهذا الرجل الذى لايتحدث للصحافة هو ذاته صاحب الصوت القوى والمؤثر بشدة فى الاجتماعات التى عقدت وراء الأبواب المغلقة حيث قام بمساندة نائب الرئيس الأمريكي حينئذ ديك تشينى بصياغة استراتيجية الادارة حيال مايسمى بالحرب على الارهاب وخاصة فيما يتعلق بأكثر مفاهيمها عدوانية وتوسعا فى استخدام الصلاحيات التنفيذية.
دافيد ادينجتون او رجل تشينى لديه خبرات تراكمت على مدى 20 عاما فى مجال الأمن القومى وعمل كمحام ومستشار قانونى لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية "سى آى ايه" ووزير الدفاع فضلا عن لجنتين بالكونجرس معنيتين بقضايا المخابرات والشؤون الخارجية.
لن يكون من قبيل المبالغة وصف دافيد ادينجتون بأنه رجل خارق للعادة فى مجال عمله ثم انه لايكل ولايمل مع عقل نابه والمعية لاتخطئها العين فى عالم السياسة الأمريكية بل ان ريتشارد شيفرين وكيل ادارة الشؤون القانونية للاستخبارات بوزارة الدفاع "البنتاجون" حتى عام 2003 وصف ادينجتون بأنه "قوة لاتقاوم ولاسبيل لردها".. ومع ذلك فان اغلب الأمريكيين لم يسمعوه ابدا وهو يتحدث او ينبس ببنت شفة!.
هذا المزيج من الصمت والابتعاد عن الأضواء والقوة المخيفة وراء الكواليس جعل من ادينجتون رمزا مناسبا لادارة بوش فيما يتعلق بتوجهها العام حيال مايعرف بالأمن القومى.
فالعديد من اكثر السياسات المثيرة للجدل تبنتها هذه الادارة سرا بتوجيهات دافيد ادينجتون وكثيرا مايحدث ذلك دون تدخل من مكونات اخرى للسلطة التنفيذية ناهيك عن مكونات الافرع الاخرى لنظام الحكم فى الولايات المتحدة بسلطاته التنفيذية والتشريعية والقضائية فضلا عن السلطة الرابعة ممثلة فى الصحافة ووسائل الاعلام.
وهذه السياسات المثيرة للجدل تضمنت مسائل مخيفة مثل اختفاء المعتقلين فى السجون السرية لوكالة المخابرات المركزية الامريكية "سى آى ايه" واستخدام التعذيب لانتزاع المعلومات والتنصت على المكالمات الهاتفية للمواطنين الأمريكيين دون الحصول على اذن قانونى من القاضى المختص.
وعندما بدأ الشعب الأمريكى يعرف طرفا من هذه السياسات بفضل تسريبات من جانب مجهولين داخل ادارة بوش للصحافة واصلت هذه الادارة التذرع بعوامل السرية للحيلولة دون محاسبة هؤلاء الذين انتهكوا القانون.
تلك قضية خطيرة وتشكل هما للانسانية كلها وهاهو بطل الرواية الجديدة ليوسف زيدان "يشعر ببرد البواكير يغزو عظامه ويتمنى لو يعاوده النعاس".
هاهو بطل "جوانتانامو" يقول :" سالت في الخفاء من عيني دموع مااستطعت حبسها" وهاهو يتمدد فوق "قطعة القماش الملقاة فوق الأرض المعدنية" ويبوح :"بقيت متكوما بموضعي حتى عبر حارسان يوزعان طعام منزوع الطعم..وفي اليوم التالي لم ار غير ماكان بالأمس: سكون تام محيط".
ولن ينسى التاريخ للرئيس الأمريكى جورج بوش انه استخدم حق الفيتو لعرقلة اصدار الكونجرس لقانون يمنع اساليب التعذيب مثل الايهام بالاغراق..ومن هنا وصف رجل قانون كبير ولامع مثل جاك جولدسميث مرحلة رئاسة بوش بأنها "رئاسة الارهاب" فيما تتوالى فضائح التجسس حتى على المواطنين الأمريكيين في ظل الادارة الحالية للرئيس باراك اوباما.
واذا كان جاك جولد سميث يشير بأصبع الاتهام فى كتابه الجديد "رئاسة الارهاب" لرجل القانون دافيد ادينجتون كعراب للتعذيب فى ادارة الرئيس الأمريكى جورج بوش فانه من الغريب حقا ان يستمر التعذيب فى القرن الواحد والعشرين وفى بلد مثل الولايات المتحدة يوصف بأنه نموذج الديمقراطية ومابعد الحداثة!.
وفيما تحدث الدكتور يوسف زيدان عن التحديات التي واجهته منذ الجزء الأول لثلاثيته "محال" لأنها المرة الأولى التي يكتب فيها عن مكان لم يعايشه وتداخل الواقع الفعلي بالخيال الروائي فان جيمس يي تناول بدوره فى كتابه "لله والوطن..الدين والوطنية تحت النار" التجربة المريرة لمعتقلى جوانتنامو.
والكابتن جيمس يى خريج اكاديمية وست بوينت العسكرية الأمريكية عام 1990 وهو ضابط امريكى مسلم وشاهد على عذابات معتقلى جوانتنامو بعد ان اختير بحكم ديانته كواعظ فى معتقل "كامب دلتا" الذى خصص لمن وصفوا بأنهم من الارهابيين المنتمين لتنظيم القاعدة وحركة طالبان.
عشرة أشهر قضاها الكابتن يى فى معتقل كامب دلتا بجوانتنامو حتى اعتقل بدوره فى شهر سبتمبر عام 2003 واتهم بالعصيان ومساعدة العدو والتجسس وهى اتهامات تكفى لاعدام اى عسكرى فى حالة الادانة.
"محققون مجهولون" سربوا للصحافة النبأ الخطير!..تنظيم القاعدة اخترق قاعدة جوانتانامو الأمريكية بكوبا عبر الكابتن جيمس يى احد افراد الجيل الثالث لعائلة صينية مهاجرة لأمريكا والضابط الذى اعتنق الاسلام بعد ثلاثة اشهر من تخرجه من اكاديمية وست بوينت العسكرية العريقة.
وعلى حد تعبير الكابتن جيمس يى فان رجال البنتاجون الاتقياء يقولون للمعتقلين الذين لاحول لهم ولاقوة والمكبلين بالاصفاد:"نحن السادة وانتم العبيد..وامريكا هى رب هذا العالم" فيما كان مدير المعتقل فى الفترة التى قضاها الكابتن جيمس يى هو الجنرال جيفرى ميللر الذى ارسل فيما بعد للاشراف على سجن ابو غريب فى العراق.
وسواء فى جوانتنامو او ابو غريب كان التكليف الصريح هو "ضرورة الحصول على معلومات مفيدة من المعتقلين بكل الطرق والوسائل".
وعند اطلاق سراح الكابتن يى حذروه بوضوح من ان قوانين مابعد 11 سبتمبر لن تكفل له اى حماية اذا ادلى بتصريحات من شأنها ان تنال من الولاء والانضباط والروح المعنوية للجيش الأمريكى واستمر "امر التكميم" حتى طرد جيمس يى من الجيش فى مطلع عام 2005 ليروى "الامام المعزول" قصته فى هذا الكتاب.
وحتى بعد ان صدر كتاب "لله والوطن" لم يكف بعض الكتاب المرتبطين بالمؤسسة الحاكمة فى امريكا وتيار المحافظين الجدد عن انتقاد الكابتن يى واعتبروا انه اثار الشبهات بتوسطه مرارا لتحسين معاملة المعتقلين فى جوانتنامو وانه كان يبالغ فى الغضب لطريقة تعامل الحراس مع المصاحف اثناء تفتيش الزنازين او عندما تصر ادارة المعتقل على استجواب بعض المعتقلين وقد كبلوا بالأغلال فى اوقات الصلاة.
"وقع السياط على الظهور اشد من وقع القدر..والحس فى هذا الوجود جريمة لا تغتفر"!!..كأن الشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة قرأت مآساة ابو غريب ببلادها وهى تبدع منذ سنوات بعيدة قصيدتها الباكية "سياط وأصداء"!!
وقالت سابرينا هارمان التى تطوعت بالجيش الأمريكى والتقطت مئات الصور من داخل سجن ابو غريب فى مقابلة مع مجلة نيويوركر ان احدا فى البنتاجون لم يكترث بأن مايحدث من تعذيب داخل هذا السجن الممتد على مساحة 280 فدانا لايتعارض فحسب مع معاهدات جنيف وانما يشكل ايضا انتهاكا جسيما للقانون الأمريكى بل ويتعارض مع الاساس النظرى للعقيدة العسكرية الأمريكية.
فهنا فى هذا السجن الذى تمتد جدرانه على مسافة ميلين ونصف الميل واحيط ب24 برجا للحراسة ارتكبت فظائع ضد آلاف المعتقلين مثل التى شهدتها العصور الوسطى اوالمعتقلات الهتلرية.
سابرينا هارمان اتهمت بارتكاب جرائم تعذيب فى سجن ابو غريب لكنها تؤكد ان الجيش الأمريكى اتهمها ظلما بهذه الجرائم بعد اكتشاف الصور التى التقطتها داخل السجن حيث ترمح الكلاب المسعورة!
تقول سابرينا: ادانتنى محكمة عسكرية فى شهر مايو عام 2005 فى عدة اتهامات من بينها اساءة معاملة المعتقلين وقضيت ستة اشهر فى السجن ومع اننى رأيت بأم عينى محققا بالمخابرات المركزية الأمريكية يقتل امامى معتقلا عراقيا يدعى مناضل الجمادى دون ان يحدث اى شىء لهذا المحقق او ينسب له اى اتهام بينما لوث طبيب السجن شرف المهنة باصدار شهادة يقول فيها ان المعتقل مات منتحرا!.
اما السيرجنت جافال ديفيز بالوحدة 372 التابعة للشرطة العسكرية الأمريكية والتى كلفت بحراسة سجن ابو غريب والذي ادين مثلما ادينت سابرينا هارمان فيقول :"هذا مكان لم يكن يخطر على ذهنى ان نرسل له اى شخص حتى لو كان اسوأ اعدائنا.. ولأول وهلة صدمت عندما رأيت كل المعتقلين عرايا ثم تراجعت الصدمة بفعل صدمات جديدة لأبشع انواع التعذيب التى اودت بأرواح معتقلين".
كان التعذيب سياسة من سياسات الادارة الأمريكية ولم يكن الأمر مجرد اخطاء او تجاوزات فردية..هؤلاء الذين اتهموا بالتعذيب كانوا ينفذون توجيهات رسمية كما يؤكدون..ولأنها سياسة عامة فلن تجد فارقا بين ماحدث فى جوانتنامو وماحدث فى ابو غريب.
وقف القانون عاجزا امام ادارة متهورة تندفع مهتاجة ومتعطشة للانتقام من هجمات 11 سبتمبر 2001 وهى مستعدة للاعتداء على صلاحيات السلطتين التشريعية والقضائية وهذا ماحدث بالفعل..هذا مايخرج به المرء من شهادة جولد سميث فى كتاب "رئاسة الارهاب"..اما "جوانتانامو" المبدع المصري يوسف زيدان فهي مجد جديد لكاتب ينتصر للحرية ويصغي لصوت الضمير.
أرسل تعليقك