دمشق - جورج الشامي
روت سيدة سورية تفاصيل مؤلمة عن رحلة هروبها مع عائلتها من جحيم القصف الذي طال قريتها الواقعة في الريف الغربي من مدينة حمص، وسردت السيدة حسناء حمص- أم عبد العزيز تفاصيل مقتل زوجها وطفليها أمام عينيها إثر إصابتهم بشظية أدت إلى بتر قدميها من فوق الركبة أيضًا.
وتعيش السيدة أم عبد العزيز في لبنان الآن على صدى الذكريات الأليمة التي مرت بها بعد أن خسرت أطفالها وزوجها، ولكن رُوحها لا تزال قوية وثورية، كما تقول لأحد مواقع المعارضة السورية، وتؤكد: "سأظل حتى آخر أنفاسي أقول تحيا الحرية وسأرجع يومًا الى بلدي وأُقبِّل تربته النقية".
ولم تكن تعرف أن يوم 31 آذار/ مارس 2012 سيُبدِّل تاريخ حياتها، ويعيد ترتيب أولوياتها من جديد، ولم تكن تتوقّع أن القذيفة التي دفعت ثمنها من جيبها وعلى حساب لقمة أولادها لتكون سلاحًا ضد الأعداء ستغيِّر مسارها لتقضي على فلذتي كبدها الصغيرين (عبدالعزيز وتالين)، اللذين لم يتجاوزا 3 سنوات من عمرهما، ومعهما أبوهما وزوجها (خليف عبد الكريم الحاج).
بل علاوة على ذلك اقتصّت هذه القذيفة الغادرة من ساقيها اللتين تم بترهما من فوق الركبة، وبُترت معها أحلام أسرة كانت تتطلع إلى مستقبل سعيد.
وعن تفاصيل ما جرى ذلك اليوم، تقول السيدة حسناء للموقع المعارض: بعد مرور سنة على اندلاع الثورة وضعت قوات الحكومة السورية حواجز في قريتي "عرجون"، وقام "الشبيحة" باقتحامها وتفتيش بيوتها وقتلوا شابين فيها، لأن هذه القرية كانت تشهد مظاهرات ضد النظام، وكان أكثر شبابها يذهبون إلى مدينة القصير للتظاهر هناك، وفي أواخر شباط/ فبراير العام 2012 اشتدت وتيرة الاشتباكات، وبدأ الجيش الحكومي في قصف القرية بجميع أنواع الأسلحة، فسادت حالة غير طبيعية من الخوف والهلع بين النساء واﻷطفال، الذين بدؤوا يبكون ويتراكضون في كل اتجاه هربًا من القذائف وأصوات الرصاص، واضطررت مع عائلتي للخروج من القرية حيث ركبنا في سيارات مكشوفة وانتقلنا إلى قرية مجاورة، ولكن فور وصولنا إليها بدأ مسلسل القصف من جديد بعد أن جاءت طائرة هليوكوبتر وصوّرت المنطقة، فاضطررنا للهرب ثانية إلى قرية ثالثة بقينا فيها يومين،كنا ننوي الذهاب إلى بلدة حسياء لكن الطريق كانت محفوفة بالمخاطر، فقررنا بدل الهروب العودة إلى قريتنا "عرجون" في آخر لحظة بعد أن بدأ أهل القرية يعودون إليها، ولم نكن نعرف أننا على موعد مع القدر، وطوال الليلة التي سبقت الحادث كان هناك إطلاق نار غير عادي من الحواجز المحيطة بالقرية على بيوتنا، فقرر زوجي أن نهرب بواسطة الدراجة النارية التي يملكها إلى أي مكان في صبيحة اليوم التالي.
وتردف أم عبد العزيز قائلة: كنت متخوفة من هذا القرار وغير مرتاحة له نفسيًا، وحتى قبل أن أجلس خلف زوجي على الدراجة بدأت في البكاء، وكنت أشعر بأن شيئاً ما سيحدث لنا، وعندما وصلنا إلى قرية اسمها "الحميدية" كان الجو هادئاً هدوءًا يشبه ما قبل العاصفة، ولكن فجأة دوّى صوت قوي قطع الأنفاس، وبدأت حينها بالتكبير وكان زوجي يقول لي "قولي الله يرحمنا" رأيت لحظتها كيف مات طفلاي، فابنتي تالين التي تبلغ من العمر سنة وشهر وكنت أحملها في حضني كانت نائمة وبقيت على نومتها، وابني عبد العزيز (3 سنوات) الذي يركب أمام والده كعادته في كل رحلة على الدراجة النارية رأيته وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، كانت عيناه ووجهه مليئان بالدم وقدمه مقطوعة، أما زوجي فكانت حالته صعبة جدًا ويئن من الوجع، وحينها أطلقت صرخة مدويّة : "ماتو ولادي"، ثم سكتت خوفًا من أن يسمع زوجي فتسوء حالته.
وتسترسل أم عبدالعزيز في وصف ما جرى: نظرت إلى قدمي فكانتا بحالة مزرية ورأيت مشط إحداهما مرمياً على الأرض، لم أشعر بألم ولكنني عرفت أنني خسرت قدميّ الاثنتين اللتين كانتا تطيران في الهواء، كل هذا اﻷمر مر بسرعة رهيبة. ولكنه رسم في ذاكرتي لحظات ألم لا تُنسَى.
وتستطرد الأم والزوجة المكلومة: بعد هذه اللحظات الأليمة التي لا أتمناها لعدو بدأت رحلة الإسعاف، حيث حملنا شبان من أهل القرية في سيارة إلى المشفى الميداني، أولادي ماتوا على الفور وظلت جثتاهما في القصير، وسمعت بعدها أنهما دفنا في قريتنا في حديقة الإرشاد الزراعي المجاورة لمنزلنا، أما أنا وزوجي الذي كان يصارع الموت فأخذونا إلى منطقة "جوسية" على الحدود اللبنانية، كنت أنزف بغزارة وأشعر بقشعريرة، لكنني كنت في كامل وعيي، وعندما وصلنا إلى الحدود اللبنانية بدأ زوجي يلفظ أنفاسه الأخيرة إذ كانت أحشاؤه خارج جسده فأدخلنا إلى المشفى الميداني، وتم نقلي لغرفة ثانية غير الغرفة التي وضع فيها زوجي، وبعد دقائق قليلة قالوا لي إن زوجك "أعطاك عمره" فرددت وأنا غير مصدقة: "إنا لله وإنا إليه راجعون" وسألتهم: هل نطق الشهادة، وكنت طوال الوقت أردد عبارة: "أستغفر الله"، وأذكر أن الطبيب الذي أشرف على إسعافي كان يقول للشبان الذين أسعفوني "والله هالمرة حالتها صعبة" كان هناك قصف قوي، فوضعوني على نقالة وحملني أربعة شبان وبدؤوا يركضون بي هرولة "طلعوني تهريب"، وبعدها تم وضعي في سيارة الإسعاف واستمرت رحلة الإسعاف 12ساعة، فقد أصبت الساعة الثالثة عصراً ولكنني وصلت الساعة الرابعة صباح اليوم التالي إلى لبنان، حيث تم إجراء العديد من العمليات الجراحية ومنها 3 عمليات بتر بسبب مضاعفات الالتهاب القوية، لأن القذيفة التي أطلقت علينا كانت "مجرثمة"، وإحدى هذه العمليات تم فيها بتر القدم اليمنى من رجلي إلى ما تحت الركبة لمرتين، ثم أجريت عملية بتر أخرى للقدم اليسرى وعملية تجميل للجرح.
وعن وضعها الصحي بعد مرور سنة ونصف على إصابتها، تقول حسناء حمص: حاليًا وضعي الصحي جيد إلى حدّ ما، والحمد لله ولكنني أجد صعوبة في التأقلم مع الأطراف الصناعية التي قامت جمعية "راف" القطرية بتركيبها لي مشكورة، ومن الناحية النفسية أتعذب بيني وبين نفسي ولكنني أتصرف بشكل طبيعي وكأنني لم أخسر شيئًا، وهذا يسبب لي الضيق فأحاول التنفيس عن هذه الحالة بكتابة الخواطر الشعرية، وأحب أن أنوه هنا أنني كتبت الكثير من النصوص عن مأساتي ومأساة البلد وعن المجازر.. أكتب على السليقة، علمًا أنني تعليمي لم يتجاوز الصف التاسع، ولكني كنت أقرأ بشغف الكثير من الكتب والروايات ودواوين الشعر؛ ولذلك أستعين بالصبر والكتابة على ما أنا فيه من ألم، وأخرج كل ما في قلبي لأستطيع التنفس.. الآن وأنا أكتب أحاول إمساك نفسي عن البكاء فلا أستطيع، وأذكر أنني بتاريخ 20 نيسان/ أبريل 2012 وبعد خروجي من عملية بتر لقدمي، كتبت: "خسرت أطفالي وزوجي وما زالت روحي قوية وسأظل حتى آخر أنفاسي أقول تحيا الحرية وسأرجع يومًا إلى بلدي وأقبل تربته النقية، رغم آلامي وعجزي مازالت روحي ثورية".
وعن وضعها المعيشي في لبنان ومدى الاهتمام بحالتها من قبل المنظمات الإغاثية تقول أم عبد العزيز: في بداية إصابتي كان الاهتمام بي جيدًا ولكن بعد ذلك لم يعد أحد يهتم وبعض الناس أصبحوا يتاجرون بالمآسي للأسف، والكثير من الناشطين وممن يدعون الاهتمام بجرحى الثورة يأتون إلى الجرحى والمصابين ليصوروهم ويجعلونهم "وسيلة للشحادة".
أرسل تعليقك