بعد نحو سبعة قرون من اضطرار رؤساء الجامعات الأوروبية في العصور الوسطى - من أكسفورد في إنجلترا إلى بادوا في إيطاليا - إلى إغلاق مؤسساتهم خلال الموت الأسود، والإشراف على خفض كم ونوعية البحث العلمي الذي استمر طوال عقود، يأمل خلفاؤهم في تراجع أي أوجه تشابه محتملة بين ما حدث يومذاك، والجائحة الآن.
في الوقت الحالي، يركز الأكاديميون في المئات من مؤسسات التعليم العالي في جميع أنحاء العالم على الاستجابة لاضطراب قصير المدى ناجم عن الوباء، في الحفاظ على رفاهية الموظفين والطلاب بإغلاق الجامعات وتكييف التدريس والامتحانات عبر الإنترنت.
يخشى كثير من الناس من اضطرابات أوسع وإعادة الهيكلة بل حتى الإغلاق، وهو أمر يتوقعه النقاد منذ فترة طويلة. يسهم الأثر الاقتصادي والاجتماعي للوباء في تسريع التغيرات في القبول والدخل وممارسات العمل، ومن هنا توقع تحول شكل التعليم العالي في جميع الجوانب - من كيفية تمويله إلى كيفية التدريس.
يقول فنسنت برايس، رئيس جامعة ديوك في الولايات المتحدة: "حتى قبل أن نواجه فيروس كورونا كان التعليم العالي يتعرض لضغط ملحوظ، ما يدعو إلى اتخاذ قرارات ذات تأثير بعيد المدى. لقد كانت هناك مؤسسات تكافح في الأصل وستجد أنه عبء ثقيل للغاية ولا يمكن تحمله".
الأنظمة الجامعية الكبيرة الموجهة نحو السوق في الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وكندا معرضة للتداعيات بشكل خاص، حيث إنها زادت الرسوم الدراسية، واقترضت بشدة للاستثمار في المرافق الرياضية وأماكن الإقامة لجذب وإيواء الطلاب.
وقد تم ضمان ذلك من خلال الإيمان بالنمو المستمر في عدد الطلاب الأجانب - الذين يزيد عددهم حاليا على خمسة ملايين في جميع أنحاء العالم - والذين يدفعون عادة رسوما أعلى من نظرائهم المحليين.
أصبح قطاع التعليم في بريطانيا معتمدا على السوق الخارجية لدرجة أن هيئة جامعات بريطانيا تتوقع أن يضخ الطلاب الأجانب سبعة مليارات جنيه استرليني - أي ثلث الرسوم خلال العام الدراسي المقبل. كما طالبت بمبلغ ملياري جنيه استرليني من الدعم الحكومي الإضافي للبحوث.
أما المؤسسة الموازية لها في أستراليا فترى أن جامعاتها ستخسر عائدات تصل إلى 4.6 مليار دولار أسترالي هذا العام - نحو 14 في المائة من الإجمالي.
تقول كاتريونا جاكسون، الرئيسة التنفيذية للمؤسسة: "هذا سيعرض 21 ألف وظيفة للخطر في الأشهر الستة المقبلة، ومزيد من الوظائف بعد ذلك. تعمل الجامعات الفردية منذ الآن على خفض التكاليف في جميع المجالات مع خفض كبير للغاية في الإنفاق التشغيلي، وتأجيل الأعمال الرأسمالية الحيوية، وخفض مرتبات كبار الموظفين. ومع ذلك، لن يكون هذا كافيا ولو من بعيد".
حزب العمال المعارض في بريطانيا كان قد دعا إلى تمويل طارئ من الحكومة. تقول تانيا بليبرسيك، المتحدثة باسم الحزب لشؤون التعليم: "لا يمكن لأستراليا أن تترك جامعاتنا تتراجع بسرعة لتصبح أقل نجاحا. إذا فشلت الحكومة الفيدرالية في التحرك الآن، فقد تنهار بعض الجامعات، ما من شأنه تخفيض البحوث الحيوية، وفقدان آلاف الوظائف وترك الطلاب معلقين في منتصف الدرجات".
على الرغم من أن الجامعات تستعد منذ الآن من أجل انخفاض كبير في الرسوم الدراسية - حتى الآن أكبر حصة من معظم عائدات المؤسسات - من الطلاب الأجانب، إلا أن النطاق الكامل لا يزال غير واضح.
في الأعوام الأخيرة، أدت الطبقة الوسطى المتنامية في الأسواق الناشئة، خاصة الصين، إلى زيادة في معدلات القبول. نحو مليون طالب صيني يدرسون الآن خارج الصين.
من المتوقع أن تنخفض هذه الأرقام بشكل حاد هذا العام. لم يعد كثير من الطلاب إلى كلياتهم منذ العام الصيني الجديد في كانون الثاني (يناير) الماضي. حتى مع بدء رفع القيود المفروضة على السفر في الأشهر المقبلة، هناك آثار ثانوية بسبب التأخير في الامتحانات المحلية واختبارات اللغة الإنجليزية المطلوبة للدراسة في الخارج، وإلغاء أحداث التسويق وتأخر تسيير معاملات التأشيرات.
يقول مارتن باركنسون، الرئيس الأعلى لجامعة ماكواري وكبير موظفي الخدمة المدنية في أستراليا سابقا: "بعض الجامعات خاطرت فوق الحد من حيث تعريض نفسها إلى السوق الصينية. قد تجد أن النمو في عدد الطلاب الأجانب يتباطأ بشكل ملحوظ لأنه لا أحد يريد في الواقع مغادرة المنزل. في نهاية هذه العملية، ستضطر الجامعات إلى تنفيذ تغيرات كبيرة في نماذج أعمالها".
على المدى المتوسط، من المتوقع أن يتأثر الطلب أكثر من خلال المخاوف الصحية العالقة، وعدم قدرة العائلات على دفع الرسوم خلال فترة الركود الاقتصادي.
هناك دراسة استقصائية أجريت على 11 ألف طالب بواسطة وكالة التصنيف التعليمية، أشارت إلى أن نحو نصف الطلاب الذين كانوا يعتزمون الدراسة في الخارج يخططون الآن للتأجيل.
وقال إن نسبة أخرى تبلغ خمس الطلاب إنهم سيغيرون وجهتهم المقررة أو سيتخلون عن خططهم للسفر إلى الخارج.
يجادل سايمون مارجينسون، أستاذ التعليم العالي في جامعة أكسفورد بأن الدول المضيفة الرائدة الناطقة باللغة الإنجليزية للطلاب الأجانب - أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة - استحدثت ضوابط متأخرة نسبيا ومنخفضة المستوى استجابة لفيروس كورونا.
وقد يثبط هذا الاهتمام الصيني في وقت تستثمر فيه بلدان آسيوية مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة، وتعزز سمعتها وجاذبيتها للطلاب في جميع أنحاء المنطقة.
وهو يجادل بأنه سيكون هناك تحول من سوق البائعين إلى سوق المشترين، حيث يكون الطلاب الصينيون أقل رغبة في السفر، كما سيؤثر الركود على القدرة على الدفع في دول ناشئة أخرى مثل الهند ونيجيريا، التي تشكل جزءا كبيرا من الطلب المتبقي.
يقول البروفيسور مارجينسون: "سيكون الوضع فوضيا. الصينيون لا يريدون المجيء ولن يتمكنوا الهنود من المجيء".
سيتفاقم هذا الاتجاه نتيجة الضغوط الديمغرافية المحلية. في كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، هناك تراجع حاليا في عدد المستعدين لدخول الجامعة أواخر أعوام المراهقة.
بالنسبة إلى الطلاب من الأسر ذات الدخل المنخفض، فإن الصعوبات الاقتصادية الجديدة يمكن أن تبطل التقدم الأخير في تحسين الوصول إلى التعليم العالي.
الدخل من مصادر أخرى تحت التهديد أيضا. يواجه كثير من الجامعات مطالبات بخفض الرسوم من الطلاب المحبطين من فقدان التدريس وجها لوجه، منذ تفشي الوباء. وهي تخسر الإيرادات من أماكن الإقامة والمؤتمرات والبرامج التدريبية، إضافة إلى الدخل الاستثماري بالنسبة إلى قلة الجامعات ذات الأوقاف.
وكالة موديز للتصنيف الائتماني خفضت نظرتها للجامعات الأمريكية العامة إلى "سلبية". وحذرت في نيسان (أبريل) الجاري، من أن التمويل المقدم للجامعات الحكومية الأمريكية - التي تتلقى نحو ربع دخلها من الهيئات التشريعية في الولايات - كان ضعيفا بشكل خاص مع انخفاض عائدات الضرائب.
وقالت الوكالة: "الجامعات الحكومية في خطر أكبر من انخفاض التمويل من الحكومة مقارنة بنظرائها من الجامعات الدولية، حيث يشكل التمويل من الولايات نحو 25 في المائة من الإيرادات. قد تؤدي هذه الضغوط إلى خفض في تمويل الجامعات في الوقت الذي توجه فيه الولايات مواردها نحو خدمات أكثر أهمية، مثل الرعاية الصحية".
تقول ريبيكا وينثروب، من معهد بروكينجز في الولايات المتحدة: "إذا لم يتسبب هذا في حدوث تغيرات واسعة في التعليم، فأنا لست متأكدة من الشيء الذي سيتسبب في ذلك. لا أعرف ما إذا كانت ستكون حادثة مؤقتة، إلا أنه في 2020 سيكون لها تأثير كبير. هناك سؤال هائل حول ما ستفعله الحكومة الفيدرالية الأمريكية لدعم التعليم العالي".
إلى جانب الرسوم الدراسية، يؤثر ضغط التمويل في الوظيفة الأساسية الأخرى للتعليم العالي: الأبحاث، وهي مسألة سمعة مركزية في التصنيف الدولي للجامعات، بدورها تساعد على جذب الطلاب والأكاديميين على حد سواء.
وحيث إن رسوم الدراسة للطلاب المحليين وتمويل الأبحاث أقل من التكاليف التشغيلية لكثير من المؤسسات، فإن رسوم الطلاب الأجانب التي كانت تقدم دعما إضافيا أصبحت الآن تحت التهديد.
تقول أليس جاست، رئيسة إمبريال كوليدج لندن التي كانت في طليعة نمذجة آثار الفيروس، إن الحكومات بحاجة إلى التوقف عن الاعتماد على دخل آخر مثل رسوم الطلاب الأجانب، لضمان توفير التكاليف الكاملة للعمل الأكاديمي المهم: "نحن بحاجة كمجتمع إلى دعم الأبحاث. هذه الأزمة جعلت ذلك واضحا جدا. سيجعلنا ذلك نفكر في كيفية دعمنا للأبحاث، والتأكد من أننا لا نعتمد على الإعانات الإضافية".
الممول الرسمي الرئيس للأبحاث في بريطانيا هيئة UKRI مددت المواعيد النهائية للمشاريع لمدة ستة أشهر، ما يوفر شريان حياة قصير الأجل لكثير من الباحثين في الدراسات العليا.
الأمر غير المؤكد هو إلى أي مدى ستكون الحكومة قادرة ومستعدة للوفاء بتعهداتها الأكثر طموحا لزيادة الدعم للبحث والتطوير، وذلك جزئيا للتعويض عن الانسحاب بعد خروج بريطانيا من صندوق هورايزون أوروبا بقيمة 94 مليار يورو من أجل البحث العلمي.
كما تم تقويض مصادر الدخل الأخرى. يقول ليسزيك بوريسيفيكز، رئيس مؤسسة مؤسسة كانسر الخيرية، إن منظمته قلصت حتى الآن 43 مليون جنيه استرليني من ميزانيتها هذا العام نتيجة لفيروس كورونا، وإن المؤسسات الخيرية الأخرى التي تدعم البحث الأكاديمي ستعاني، سواء من انخفاض دخل الاستثمار أو التبرعات من حملات جمع الأموال.
وسط الكآبة، يشير بيتر ماثيسون، نائب رئيس جامعة إدنبره إلى اعتراف جديد بأهمية التعليم العالي ويقول: "مدى استماع حكوماتنا إلى المشورة العلمية المتخصصة أمر مرحب به للغاية. أصبح من الواضح جدا كيف تسهم الجامعات في الاستجابة من خلال البحث الاستثنائي وبسرعة لا تصدق".
ويستشهد بزملائه في إدنبره الذين يعملون في أبحاث الأدوية والممارسات السريرية المتعلقة بالفيروس. تبرعت جامعات أخرى بمعدات وقائية، وأطلقت وحدات اختبار الفيروسات، وأنشأت مراكز معالجة لمزيد من المرضى لخدمة الصحة الوطنية.
لن يكون شكل المؤسسات هو الذي سيتغير بسبب الوباء فحسب، بل أيضا محتوى التعليم العالي، كما يقول ليون بوتستاين، رئيس كلية بارد، وهي مؤسسة للآداب الحرة في نيويورك.
يجادل بأن التحولات التي أحدثها فيروس كورونا يمكن أن تزيد الطلب على التعليم العالي بشكل عام، وعلى كل من العلوم الإنسانية والمواضيع التطبيقية مثل الرعاية الصحية.
ويقول: "المشكلة أكبر بكثير من كونها انهيارا ماليا. إنها صدمة ثقافية بشأن نوع المجتمع الذي نعيش فيه. هناك إدراك بأن التعليم هو ما يوجد الثروة، وليس تبرعات الرعاية الاجتماعية".
بالنسبة إلى ديفيد فان زاندت، رئيس المدرسة الجديدة في نيويورك، كما هو الحال بالنسبة إلى كثير من أقرانه، فإن القلق هو ما إذا كان الطلاب المحليون والأجانب سيعودون للعام الدراسي المقبل.
"بالنسبة إلى معظم الأماكن، فالخريف المقبل هو الحد الفاصل بين النجاح الرائع أو الفشل التام. لا نعرف ما إذا كان سيعود العمل كالمعتاد أم سنفتح جزئيا. الفيروس عامل تسريع، مثل البنزين الذي يلقى على الجمر المحترق. سيؤدي ذلك إلى إحداث كثير من التغيرات في التعليم العالي ربما كانت تحتاج إليها".
من المرجح أن تشمل هذه التغيرات تخفيضات وعمليات اندماج وربما الإغلاق في قطاع نما بسرعة كبيرة في الأعوام القليلة الماضية، ولكن ربما تستطيع بعض الجامعات أن تشعر بالاطمئنان من إرث أسلافها.
في كامبريدج، على سبيل المثال، تحول الاهتمام بعد الموت الأسود من اللاهوت إلى مزيد من الموضوعات التطبيقية مثل الطب، وأدت إعادة توزيع الثروة إلى زيادة الأوقاف وإنشاء كليات جديدة.
يقول السير ليسزيك، نائب سابق للرئيس الأعلى لجامعة كامبريدج: "يغلب على الأوبئة أن تترك علامة كبيرة. لدى الناس متطلبات مختلفة منها تطوير أنظمة كاملة. تاريخيا اجتازت الجامعات المحن، لأنها تكيفت مع التغيرات في المجتمع". بيد أن التعلم عبر الإنترنت: هل هو إصلاح قصير الأجل أم تهديد للرسوم المستقبلية؟
سيكون أحد الأسئلة المهمة للجامعات في الأشهر المقبلة هو إلى أي مدى يمكنها توظيف التدريس عبر الإنترنت، للالتفاف على عمليات الإغلاق التي تبقي الملايين من الطلاب خارج قاعات المحاضرات في جميع أنحاء العالم. وما إذا كانت إمكانية الوصول إلى عدد أكبر من الناس عن بعد ستقابلها ضغوط لخفض الرسوم الدراسية.
يرى البعض التغيير القسري على أنه فرصة لتقديم التعلم عن بعد وتقليص السفر غير الضروري في الوقت نفسه.
يقول ستيف سميث نائب الرئيس الأعلى لجامعة إكستر في بريطانيا: "نحن ندرس العمل بطرق مختلفة. أجبرنا الفيروس على التفكير بسرعة أكبر وأكثر متانة في قيمة التدريس وجها لوجه مقابل الإنترنت".
نجحت المؤسسات مثل جامعة ولاية أريزونا في الولايات المتحدة، في بناء أنظمة لزيادة المحاضرات عبر الإنترنت لأعداد كبيرة من الطلاب - وبالتالي تقديم التعليم بأسعار أقل وأكثر مرونة من الدرجة التقليدية التي تحتاج إلى دوام كامل لمدة ثلاثة أو أربعة أعوام.
يقول سانتياجو إنييجويز دو أونزونيو، رئيس جامعة في إسبانيا تستثمر منذ فترة طويلة في التدريس عبر الإنترنت: "إنها توطد وتعزز الشعور بالهوية للفصل الدراسي، وتجعل المشاركين أكثر ارتباطا وتطور مهارات ليس من السهل ممارستها وجها لوجه"، لكنه يحذر من أنه لكي تتم هذه الإطارات التعليمية بشكل جيد، يجب ألا تنفذ بشكل رخيص، وأن تعمل بشكل أفضل عند "مزجها" مع التدريس المستمر وجها لوجه.
في دول أخرى، تشير جوانا نيومان، رئيسة رابطة جامعات الكومنولث إلى إمكانات شبكات مثل الشراكة من أجل التعلم المعزز والمختلط، لربط جامعات ومؤسسات شرقي إفريقيا وغيرها لتوفير محتوى وتدريس ومؤهلات مشتركة.
وتقول: "الأغلبية العظمى من الطلاب الذين سيستفيدون من ذلك لا يقدرون على تكاليف الذهاب إلى أي مكان. وهذا يساعد على تطوير المقاطعات حيث يوجد طلب هائل ولا يوجد عرض كاف".
يضيف ثيو فاريل مساعد نائب الرئيس الأعلى لجامعة وولونجونج في أستراليا: "نحن نشهد أسرع تحول في تقديم الخدمات للتعليم الجامعي في التاريخ، وليست هناك رجعة عن ذلك حتى عندما تنتهي الأزمة".
قد يهمك ايضـــًا :
حظر التصفيق في جامعة أكسفورد بعد أن صوت الطلاب لصالح هذا القرار
جامعة أكسفورد البريطانية تتلقى تبرع بـ150 مليون جنيه إسترليني
أرسل تعليقك