منح الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، خلال الأسبوع الجاري، وسام زايد الثاني من الطبقة الأولى لـ 21 من المسؤولين الدوليين تقديراً لمساهماتهم في العمل المناخي العالمي، وجهودهم لتعزيز التوافق الدولي وإقرار "اتفاق الإمارات" التاريخي وتنفيذ خطة عمل رئاسة مؤتمر الأطراف COP28، ولكن غاب عن المراسم أحد أبرز المكرَّمين، وهو البروفيسور الراحل سليم الحق، الذي كانت أسرته حاضرة لتلقي وسامه.
كان الدكتور سليم الحق رمزاً عالمياً للعمل المناخي، حيث بذل جهوداً استثنائية على مدار عقود لدعم الدول والمجتمعات محدودة الدخل الأكثر تضرراً من تداعيات تغير المناخ، وشارك في 27 مؤتمراً للأطراف كما كان عضواً فعالاً في اللجنة الاستشارية لرئاسة COP28 حتى وافته المنية عن 71 عاماً في 28 أكتوبر 2023، قبل انطلاق المؤتمر بنحو شهر.
وكان لنبأ وفاة سليم الحق صدى عالميٌ من الحزن والمواساة، وأقر كثير من الشخصيات البارزة في مجال العمل المناخي بإنجازاته وبصمته المهمة على الساحة العالمية، وأعرب الدكتور سلطان الجابر، وزير الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة الإماراتي، رئيس COP28، عن أسفه لفقدانه، وفي كلمة معاليه الافتتاحية أمام المؤتمر، التي تخللتها دقيقة صمت حداداً على وفاة البروفيسور الراحل، وقال إن الراحل كرَّس مسيرته المهنية لإيجاد وسائل عملية لمعالجة تداعيات تغير المناخ في الدول والمجتمعات الأكثر تضرراً، مشيراً إلى استفادته شخصياً من استشاراته.
الدكتور سليم الحق كان عالماً بريطانياً من أصول بنغلادشية، وأستاذاً بالجامعة المستقلة في بنغلادِش، واختير ضمن أهم 10 علماء في تصنيف مجلة نيتشر لعام 2022، كما حصل في العام نفسه على وسام الإمبراطورية البريطانية لعطائه في مجال مواجهة تغير المناخ.
أسس البروفيسور الراحل المركز الدولي لتغير المناخ والتنمية في بنغلادِش عام 2019، ومن خلال منصبه كمدير مؤسس للمركز، أصبح صوتاً رائداً يمثل الدول النامية في مختلف الفعاليات والمناسبات والمفاوضات المناخية، وساهمت جهوده في توافق العالم بعد وفاته على تفعيل وبدء تمويل الصندوق العالمي المختص بالمناخ ومعالجة تداعياته في اليوم الأول لـ COP28، مما أثبت جدية دولة الإمارات في مواجهة هذا التحدي العالمي البارز، وكفاءة رئاسة COP28.
كان سليم الحق من أكثر علماء المناخ احتراماً على المستوى العالمي، ونادى بمسؤولية الدول المتقدمة عن انبعاثات غازات الدفيئة الرئيسة، وأهمية قيامها بتوفير التمويل اللازم للشعوب الأكثر تعرضاً لتداعيات تغير المناخ في الجنوب العالمي، وشارك في إعداد كثير من الدراسات حول تأثيرات المناخ في بنغلادش، وهي من الدول ذات الأراضي المنخفضة التي يهدد ارتفاع مستويات سطح البحر معيشة آلاف من مواطنيها في المناطق الساحلية، وفي هذا الشأن قال الراحل: "يصل كل يوم أكثر من 2,000 نازح بسبب المناخ إلى دكا، سيراً على الأقدام وبالدراجة والقارب والحافلة، ويختفون في أحياء المدينة، حيث لا يعتني أحد بهم، رغم أنهم أجبروا على النزوح بسبب تغير المناخ الناتج عن الممارسات البشرية".
كرسَّ سليم الحق حياته للدفاع عن حقوق المجتمعات الأكثر عرضة لتغير المناخ، ولاقى صعوبات بالغة، منها ضعف التمويل والوعي في الدول النامية، وتراخي الدول المتقدمة في تحمل مسؤوليتها عن الانبعاثات وتغير المناخ ودعمِ الدول النامية في مواجهة تداعياته، وبفضل جهوده استطاعت بنغلادش خفض عدد ضحايا الفيضانات من خلال نهج ساهم فيه المجتمع كله، وركّز على تحسين نظم الإنذار المبكر، وبناء الملاجئ، والتتبع والرصد باستخدام الأقمار الاصطناعية، وتطوير القدرات المادية واللوجستية لأهالي المناطق الساحلية، لتصبح بنغلادش نموذجاً عالمياً في مواجهة تداعيات تغير المناخ، وحماية السكان من الفيضانات والأعاصير.
نجح سليم الحق في وضع نهج أسماه بـ "التكيف التحويلي"، وتطبيقه في مدينة مونغلا ببنغلادش، التي تبنت توصيات المركز الدولي لتغير المناخ والتنمية، وأصبحت نموذجاً لإدارة الكوارث والتكيف والمرونة مع أزمة تغير المناخ، وذلك لتخفيف الضغط على العاصمة دكا وضواحيها، في ظل توجه معظم المهاجرين من القرى إلى دكا، وهي من أسرع المدن الكبرى نمواً في العالم، ومن أقلها ملاءمة للعيش بحسب عدة تصنيفات عالمية.
كان سليم الحق يوصف بأنه صديق الصحفيين، إذ كان أول خبير يقصده الكتاب في مجال تغير المناخ للاستفادة من خبراته وسهولة التواصل معه. وفي حديث لبلومبرغ عقب وفاته، تقول راشيل كايت، مبعوثة الأمم المتحدة السابقة للمناخ، وعميدة مدرسة فليتشر في جامعة تافتس الأميركية، إنه تميز بأسلوبه الرائع في تبسيط الحقائق العلمية وسردها بطريقة يفهمها الجميع، فيما يرى فرحان يامن، وهو محام وخبير قانوني في المجال المناخي شارك الراحل في إعداد كثير من التقارير العلمية، أنه أحد أهم رواد العمل المناخي المهتمين بخدمة البشر وتلبية احتياجاتهم.
وفي رسالة مفتوحة وجهها إلى رئيس COP28، قال سليم الحق إن له هدفاً واحداً، وهو إنشاء وتفعيل صندوق جديد مختص بالمناخ ومعالجة تداعياته خلال COP28. ورغم رحيله قبل تحقق رؤيته، فإن جهوده قبل COP28 ساعدت على تحقيق النتيجة الباهرة التي تم التوصل إليها في اليوم الأول من المؤتمر بتفعيل الصندوق وترتيبات تمويله الذي بلغ مبدئياً 792 مليون دولار من التعهدات الدولية، ضمنها 100 مليون دولار من دولة الإمارات.
ويشكِّل التقدم في موضوع "معالجة الخسائر والأضرار" ضرورة ملحة للعمل المناخي حتى في حال نجاح العالم في تحقيق أهداف التخفيف من الانبعاثات، وذلك بسبب المستوى الحالي للاحتباس الحراري الذي يؤدي لاستمرار معاناة المجتمعات المهددة بسبب التداعيات الشديدة لتغير المناخ مثل العواصف والفيضانات وانخفاض الإنتاجية الزراعية وارتفاع مستويات سطح البحر، التي وصف سليم الحق سكانها بأنهم "الأكثر احتياجاً والأشد عرضة لتداعيات تغير المناخ على كوكب الأرض".
وفي رسالته الأخيرة للدكتور سلطان الجابر رئيس COP28، أعرب سليم الحق عن ثقته بأن COP28 سيدشن عهداً جديداً للعمل المناخي، بصفته أول مؤتمر للأطراف ينجح في معالجة موضوع "الخسائر والاضرار"، وبالفعل نجحت خطة رئاسة المؤتمر في تخليد جهود سليم الحق، لتمهِّد الطريق أمام تغيير إيجابي جذري في العمل المناخي يدوم أثره ومنافعه في حياة البشرية بأكملها.
قد يهمك أيضــــاً:
رئيسا الإمارات وأنجولا يبحثان علاقات التعاون بين البلدين
رئيس الإمارات يبحث مع رئيسة "وورلد سنترال" تكثيف مساعدات غزة
أرسل تعليقك