أدب الواقع أولى من الخيال ذاك المزيج المميز
آخر تحديث GMT17:04:25
 العرب اليوم -

"أدب الواقع أولى من الخيال" ذاك المزيج المميز

 العرب اليوم -

 العرب اليوم - "أدب الواقع أولى من الخيال" ذاك المزيج المميز

أدب الواقع أولى من الخيال
فاتن صبح - العرب اليوم


قيل عن الكاتب الإسباني حاصد الجوائز أنطونيو مونيوز مولينا: إنه متسكع معاصر، وقد سار على درب مؤلفين من أمثال توماس دي كوينسي وشارل بودلير ووالتر بنجامين، وجاب على غير هدى مدن مدريد وباريس ونيويورك حاملاً دفتر ملاحظاته وقلم رصاص كأداتين لخّص بهما ذاك المزيج المميز لمهابط الحياة وارتفاعاتها.

وقد كتب يوماً يقول: «إن دفق الحياة العادية يحيك جدلياتها وأوجه تشابهها وأصداءها، دون أن نضطر لأن نخترع شيئاً تماماً كما ترتسم تموجات مياه الأنهار». يعتبر مونيوز أن الحياة تتحلل وفق توقيتها الخاص ووفقاً لإيقاعاتها الطبيعية الغامضة. وهكذا فإن «الرواية تكتب نفسها أيضاً».

وتتبدى رواية «كظل متلاشٍ» التي احتلت مكاناً على اللائحة القصيرة لجوائز «مان بوكر» العالمية أشبه بنوع هجين من خيال السيرة الذاتية. ويبدو أن مونيوز من خلال الإغداق البياني والتحريري حول طبيعة الرواية وكأنه يحاول بناء واحدة تكتب ذاتها بذاتها مستقياً من مواد خام من التاريخ ومن حياته الشخصية الخاصة.

ويخلص مونيوز إلى أن «الأدب يوازي الرغبة في احتلال عقل شخص آخر، كما السارق الذي يسطو على المنزل، ويحاول رؤية العالم من منظار الآخر». لكن أحياناً ما يكون الكاتب أشبه بالسارق الذي يصنف محتويات المنزل ويقيّم كلاً منها مستبعداً غير الثمين مكتفياً بالنفيس في جعبته. يصف مونيوز علاقته بأدب الخيال بالمتينة، ويؤكد أنه يقرأ الأعمال ويعيد قراءتها، لكنه يجزم في الوقت عينه بأنه إن لم يشبع ذاك النوع نهمه فإنه يفضل العودة إلى أدب الواقع.

وقد عمد مونيوز إلى حياكة خيوط التاريخ في نسيج قصصي مبهر، كيف لا والتاريخ برأي مولينا يعطي نفحة من القدسية للرواية ويهبها نوعاً من المصداقية والارتباط بعالم الواقع. وتتمخض نظرية مونيوز حول التاريخ بأن أي شيء قد يكشف عن أمر آخر؛ «فليس هناك من مجرد صورةٍ ظلّية أو شخصية إضافية ملحقة في قصص الآخرين»، حسبما يقول.

ومن هذا المنطلق فإنه لا بدّ لكل واقعة أن تسمى، وتوصف وتعدّ لصالح الكشف. ففي النهاية «كلما كانت تفاصيل الموقع والوقت دقيقة ومحددة، بدت بداية القصة ونهايتها أكثر جزماً». ويلتزم مولينا بهذا المبدأ أولاً بأن يعطينا نهاية واحدة يدعوها بـ «النهاية الممكنة إذا نظرنا للرواية عبر مجهر الحقائق المتجهم».

مساحات

ويشكل وصف مونيوز ربما للطريقة التي أفضت لجمع مكونات الرواية الإضاءة الأكبر للعمل. وقد ناقش في حديث له «لتوني ريدينغ ليست» كيف اتخذ القرارات بشأن موضوعات الرواية وطريقة استقاء الشخصيات من الواقع. استناداً إلى أشخاص التقاهم فعلاً، وأماكن قام بزيارتها ذات مرة.

وقد وجد نفسه في بداية الأمر غير قادر على تجميع العناصر إلى أن أدرك الأخطاء التي كان يقترفها. وقال في هذا الصدد: لكني لم أكن أختبئ، بل كانت تلك مجرد أشياء لم أعرفها، أو أعلم بأنها قد تكون ذات أهمية للرواية، وكان خطأي طوال الوقت يكمن في محاولة ملء كل الفراغات بتفاصيل غير ضرورية، وملء المساحات الفارغة عبر الرواية على غرار رسام ذي موهبة متواضعة يغرق لوحته كاملة بالألوان أو موسيقي مدّعٍ لا يترك أي مساحة للصمت. لقد كنت أرسم الشخصيات عموماً عبر التفاصيل الضائعة وكانت الرواية تتفتح أمام ناظريّ كسلسلة ومضات أو ضربات ريشة سريعة في الفراغ.

وقد تمكن من كتابة الجزء الأول من الرواية، قبل أن يصطدم بعائق مفاجئ يمنعه من المواصلة. لكنه توصل إلى أن المخرج الوحيد الممكن الذي يخوله التحرك مجدداً يكمن في الانتقال إلى العاصمة البرتغالية لشبونة بالفعل. أما واقع أن زوجته كانت قد أنجبت مولودهما حديثاً فلم يكن بالنسبة إليه إلا تفصيلاً جانبياً.

ملاذ آمن

لا تعدّ أحدث روايات مونيوز مجرد إعادة سردٍ نموذجية للحظة حاسمة من التاريخ؛ ذلك أن الرواية باتباعها عن كثب مسار راي وحبكه داخل عملية الكتابة إنما تخطّ عملاً يتأرجح بدقة بين سعي الكاتب وراء الحقيقة وبحث المجرم عن ملاذ آمن. ويسبر مونيوز عبر جمل سردية قصيرة لكن مكثفة دهاليز عقل القاتل ويقارنه بعقله، في مساق ينسجم مع ما كتبه حول أن «الرواية حالة ذهنية، وبيئة داخلية دافئة تلوذ بها أثناء الكتابة، شرنقة تحاك من الداخل وتحبسك بين قضبانها فتريك العالم الخارجي من خلال خيوط تجويفها شبه الشفاف. الرواية عمل اعتراف ومخبأ في آن».

ويجري مونيوز ككاتب تحقيقاً مع الذات في روايته كما ينطلق في رحلة استجواب حول المشروع الأدبي الذي شرع العمل عليه، وليس حول المجرم الموجود في القصة. أما مردودات ذلك فجمّة، إذ جاءت «كظل متلاشٍ» تتراوح بين التوظيف المقتّر للتقنيات الروائية واستجواب جنائي لأدب الخيال نفسه. أما نوع القَصّ الماورائي الذي غالباً ما يظهر بطريقة بعيدة عن الاحتراف، فتبلور بأبهى صوره على يد مونيوز.

رومانسية

وتذكِّر رواية «كظل متلاشٍ» القارئ بالأعمال الكبيرة وتؤكد في الوقت عينه تفّردها. وقد سبق للتهجين الذي اعتمده مونيوز أن أوحى بمقارنات مع «ليبرا» التي تناول من خلالها دون دي ليللو هارفي أوزوالد واغتياله لـ«جيه إف كيندي» والتي قاوم فيها على نحو مماثل إضفاء العامل الرومانسي أو التحليل النفسي على بطله، لكن روايته ظلت تفتقر لذاك الطموح الملموس لدى مونيوز.

لم يكن مولينا مهتماً بتحويل قاتل تافه إلى شخصية أسطورية تحيط بها الألغاز، ولا سعى لأن يجعل من نفسه بطل قصته. بل تركز مرماه بشكل جوهري ولمسوغات رائعة، حول إظهار أن معاني القصص الواردة في الرواية، سواءً أكانت حقيقية أم خيالية، أفضل ما تقال عبر السرد.

يعتاش الروائيون بطبيعتهم على الحتات يقول مونيوز، إنهم أشبه بمخلوقات خيار البحر في قعر المحيط، وإن ما يجمع بين الكاتب والقاتل في روايته «كظل متلاشٍ» اتكالهما على الآخرين سواء أكانوا ضحايا أم مادة فنية. وليست كتابة الرواية بالنسبة له سوى فعل استهلاك فني بقدر ما هي عملية خلق إذ يقول: الخيال السردي لا يتغذى على ما هو مختَرَع بل على الماضي.

إضاءة

أنطونيو مونيوز مولينا كاتب إسباني من مواليد أوبيدا في العاشر من يناير 1956، وعضو في الأكاديمية الملكية الإسبانية منذ العام 1996 حاصل على جوائز عدة وتكريمات أبرزها جائزة أمير أستورياس الأدبية. مونيوز حائز على إجازة في تاريخ الفنّ من جامعة غرناطة. صدرت أولى رواياته عام 1986، وبدأت شهرته العالمية مع روايته الثانية «الشتاء في لشبونة» التي تُرجمت إلى لغات عدّة. صدر له أكثر من 30 كتاباً، منها 20 رواية. يعيش متنقلاً بين مدريد ونيويورك، وهو متزوج من الكاتبة إلفيرا ليندو.

«كظل متلاشٍ».. رواية منسوجة بخيوط التاريخ

تجسّد رواية «كظلٍّ متلاشٍ» لأنطونيو مونيوز مولينا عملاً متقن التفاصيل ذا خيوط سردية متداخلة محبوكة. وتسير في آن واحد على خطى قصة جيمس إيرل راي القصيرة والمزرية في لشبونة كهارب من القانون، وسرد كتابي مهووس يدفع المرء لإضفاء طابع درامي على حياة القاتل البائس. ويخبر مونيوز بمزيج من الخيال والمذكرات والسيرة الذاتية قصتين تفصّل الأولى الأيام العشرة التي أمضاها راي في لشبونة فارّاً عقب اغتيال مارتن لوثر كينغ الابن، عام 1968، ورحلة الكاتب البحثية إلى المدينة ذاتها عام 1987، أثناء كتابة روايته الأولى «شتاء في لشبونة».

يعيش بطل القصة، راي تحت أسماء مستعارة ويسافر مستخدماً جواز سفره الكندي إلى لشبونة بالصدفة. ويعيش أيامه كشخص عادي، معتقداً أن إحدى الحركات سترحّب به. وبعد 20 عاماً تقريباً يسافر مونيوز الأب الحديث إلى المدينة ذاتها للمرة الأولى بحثاً عن إلهامٍ أدبي. إلا أن زواجه سرعان ما يتفكك فيتخذ شريكة جديدة ويصبح مهتماً بحكاية راي. تعيد الرواية بناء الماضي بتفاصيل مذهلة، ويحيك مونيوز عدداً من الاحتمالات للحظات بدت فيها تصرفات راي غير أكيدة. فأسفرت النتيجة عن صورة ثنائية ساحرة لكاتب ينظر داخل عقل مجرم مريض.

مزجت رواية «كظلٍ متلاشٍ» بين أدب الخيال والمذكرات والتقرير التاريخي والخيال التأملي معتمدة أساليب ووجهات نظر عدة، بحيث يتشجع القارئ تارة على متابعة سير الأحداث من منظور راي، وينشدّ تارة أخرى عائداً لآراء مونيوز. ويتبدى الفارق واضحاً في طريقة عرض المعلومات، حيث الجمل القصيرة تتخصص في عرض الحقائق تاركة المجال لجمل أكثر طولاً وحدسية مع غوص الكاتب في بحر التأملات.

ويبقى الأمر اللافت أن مونيوز لم ينشغل بمحاولة إضفاء الطابع الإنساني على راي، بما يجلب الطمأنينة لبعض القراء، لكنه ركّز بالمقابل على فهم الرواية كفكرة يمكن أن تتداخل حيثياتها مع حياة أشخاص آخرين أو تخضع للتهجين بما يخلق عملاً قادراً على «إخضاع الحياة نفسها لحدودها الخاصة وأن ينفتح في الوقت عينه على إمكانية سبر أعماق الإنسان».

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أدب الواقع أولى من الخيال ذاك المزيج المميز أدب الواقع أولى من الخيال ذاك المزيج المميز



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 09:16 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أحمد العوضي يتحدث عن المنافسة في رمضان المقبل
 العرب اليوم - أحمد العوضي يتحدث عن المنافسة في رمضان المقبل

GMT 20:21 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تقتل 7 فلسطينيين بمخيم النصيرات في وسط غزة

GMT 16:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

صورة إعلان «النصر» من «جبل الشيخ»

GMT 22:23 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

إصابة روبن دياز لاعب مانشستر سيتي وغيابه لمدة شهر

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 18:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحصل على قرض بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي

GMT 10:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الزمالك يقترب من ضم التونسي علي يوسف لاعب هاكن السويدي

GMT 19:44 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات تضرب منطقة جنوب غرب إيران

GMT 14:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

استشهاد رضيعة فى خيمتها بقطاع غزة بسبب البرد الشديد

GMT 14:09 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

كوليبالي ينفي أنباء رحيله عن الهلال السعودي

GMT 03:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الشرع تُؤكد أن سوريا لن تكون منصة قلق لأي دولة عربية

GMT 20:22 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

الاتحاد الأوروبي يعلن صرف 10 ملايين يورو لوكالة "الأونروا"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab