بيروت - غيث حمّور
(قصة الخلق) ألهمت مخيّلة العديد من الشعراء والأدباء والفنانين على مر العصور، عبر تشكيلات متعددة من المسرح والموسيقى والسينما والشعر والرواية، وآخر هذه التشكيلات هي الرواية التي كتبتها الشاعرة والروائية النيكاراغوية (جيوكوندا بيللي) تحت عنوان (اللامتناهي في راحة اليد)، والتي اتكأت عبرها على قصة الخلق في بنائها الأساسي، مع إطلاق العنان لمخيلتها لتكون المحرك الأساسي لأحداث الرواية.
قصة العنوان والكتاب المقدس
اقتبست، بيللي، عنوان روايتها من عبارة قالها الشاعر الإنكليزي وليام بليك (لترى العالم في حبة رمل، والسماء في زهرة برية، أجمع اللا متناهي في راحة اليد، والأبدية في ساعة واحدة)، وفي مقدمة الكتاب تأتي ملاحظة من المؤلفة "ولدت هذه الرواية من دهشة اكتشاف المجهول في قصة كنت أعتقد، لأنها قديمة، أنها تعرف الحياة كلها".
من خلال قراءتها للكتاب المقدس وبحثها في الأعمال التي عثر عليها في كهوف مصر العليا عام 1944 والموجودة في مكتبة نجع حمادي، بالإضافة لمخطوطات البحر الميت المشهورة التي عُثر عليها في وادي قمران عام 1947، أعادت (بيللي) بناء دراما آدم وحواء في الفردوس المفقود والبراءة المستعادة، وهي كما قالت "تخيل يستند إلى تخيلات كثيرة أخرى وتفسيرات وإعادة تفاسير نسجتها البشرية حول أصولنا منذ أزمنة لا ترقى إليها الذاكرة، إنها، في دهشتها وحيرتها، قصة كل واحد منا".
الرجل الأول والمرأة الأولى
بين الشعر والفلسفة تقدم الروائية (بيللي) للرجل الأول (آدم) في لحظاته الأولى بعد الخلق (وكان.. فجأة، من اللاكينونة صار كائناً يعي مكانه، فتح عينيه، تلمس نفسه وعرف أنه رجل، دون أن يعرف كيف عرف ذلك، رأى الحديقة وأحس أنه مرئي، نظر في الاتجاهات كلها آملاً في أن يرى آخر مثله).
ولقاؤه بالمرأة الأولى حواء بعد استيقاظه في أحد الأيام متسلياً بقدرات ذاكرته بالنسيان والتذكر، يرى امرأة بجانبه (مدّ يده وقرّبت يدها المفتوحة، تلامست راحتاهما، تفحصا التشابهات والاختلافات، وأخذها للتجوال في الحديقة)، هذا اللقاء تبعه تحريض الحية لحواء بأكل ثمرة التين لتتحدى بها إرادة (إلوكيم)، لتقوم حواء بأكل الثمرة لتطرد وآدم خارج الجنة، وتبدأ اكتشافات (آدم وحواء) بدايةً من الجنس إلى الجوع والبرد وقسوة القتل من أجل البقاء ومن ثم التكاثر وأخيراً الموت.
الجنس لأول مرة
أسست (بيللي) للعلاقة الجنسية الأولى التي جمعت (آدم وحواء) بعد أكل الثمرة المحرمة بطريقة ذكية، فلم تستعجل الأحداث، ومارست لعبة التشويق بتأنٍ دون أن تقوم بإقحامات حيث نقرأ (عاد ينظر إليها، كانت تدير ظهرها، وكانت انحناءة خصرها الغائرة تبرز تكور إليتيها، مدّ يده ليلمس الاستدارة المتقنة مذهولاً من أنه لم ينتبه من قبل إلى نعومة بشرتها البديعة، مد يده مجدداً ولمس انحناءة الصدر، كانت المرأة تنظر إليه بثبات، وكانت عيناها مفتوحتين على اتساعهما). وعادت (بيللي) لتصور لقاءهما الأول عبر تعابير بسيطة وعميقة (كرة سيقان وأذرع وأيد وأفواه يطارد بعضها بعضاً وسط تأوهات وضحكات مكبوحة)، حواء التي خلقت من ضلع آدم تعود إلى داخله من جديد (حين صار أحدهما داخل الآخر، وعرفا سحر العودة لأن يكونا جسداً واحداً، عرفا أنهما لن يعرفا الوحدة أبداً طالما هما هكذا)، معظم الروائيين يعمدون إلى إقحام الجنس في أعمالهم الروائية بطرق مختلفة يغلب عليها طابع الابتذال، ولكن (بيللي) نجحت في رصد قيمته السامية المفعمة بالصدق بعيداً عن الابتذال والإقحام.
قسوة الجوع والعطش والقتل من أجل البقاء
أحد العوالم التي خلقتها بيللي في روايتها، هو عالم العطش، عبر تعرف آدم وحواء على الماء، وابتلاعه خوفاً من أن يمزق صدريهما (خفف الماء من جفاف فميهما، ملآ خديهما، لكنهما لم يجرؤا على ابتلاعه، كان بارداً ومخالفاً تماماً للنار، ولكنه يحرق مثلها، بصقاه في آن واحد، خشيا أن يمزق صدريهما)، براعة بيللي في تصوير العطش ظهرت من خلال حرصها على التقدم بتأنّ في سردها الروائي، فلم تقدم آدم وحواء بالصورة النمطية التي نشاهدها ونقرأها في أغلب الأعمال التي قدمت قصة الخلق، بل على العكس نجدها تعود من جديد بالتأسيس لكل خطوة من خطوات بطليها بطريقة بسيطة، تتابع بيللي مع بطليها اكتشاف العوالم الجديدة التي يدخلانها، فبعد أن يأكلا من الأعشاب كما تعودا في الجنة يجدان أن ذلك لا يذهب الجوع الذي يشعران به (كان آدم يجمع كل ما يظن أنه يبعد الجوع، لكن الجوع كان يرجع)، تقدم بيللي اقتراحاً جديداً لبطلها آدم حيث تجعله يراقب الحيوانات كيف تأكل لحم بعضها (راقب الهر، أمسك بضربة من مخلبه أحداً من تلك العصافير وثبته من عنقه بأسنانه، وركض ليختبئ، أطل ليرى ما يفعله، ورأى بعد ذلك كيف أنشب أسنانه وراح يأكل باعتدال)، ليبدأ آدم بقتل الأرانب وأكل لحمها، ويكتشف طريقة شوائها لتصبح ألذ طعماً.
منح الحياة ومهابة الموت
الوصف الذي قدمته بيللي لتصورات حواء حول الأشياء التي ستخرج من بطنها المنتفخة كانت متفردة واستثنائية وعفوية (لم تكن تدري ما الذي يتحرك في داخلها، ولا إذا ما كانت تلك الحالة عابرة أم نهائية ودائمة، كان خوفها الأكبر أن تتقيأ ذات يوم من الأيام مسخاً بحرياً، جنس كائنات جديدة يأكلها هي وآدم كي يسكن تلك الأرض)، ليأتي موعد الولادة ليختبر الزوجان تجربة جديدة في القدرة على منح الحياة للآخر، وتلد حواء التوءم الأول (قايين ولولوا) ومن ثم التوءم الثاني (هابيل وأكليا)، ترافقت معظم أجزاء الرواية مع الخوف من الموت الذي حمله آدم وحواء معهما بعدما أكلا الثمرة المحرمة، وإنزال العقوبة بهم جراء أكلهم لتلك الثمرة، ولكن ذروة هذا الخوف كانت بعد قتل قايين لأخيه هابيل بسبب التنازع حول الزواج من أختهما لولوا الفاتنة، حدوث الموت كان له وقع مرعب في نفوس آدم وحواء، ورصدته بيللي بقولها (كانت دموعها تسيل على خديها، وتنسكب على صدرها، لا توجد طريقة لبكاء هذا الألم، من التراب أنت وإلى التراب تعود)، ختمت بيللي روايتها بالتأسيس للإنسان عبر أكليا التي ولدت تشبه القرود، وبدأت تفقد قدرتها على الكلام تدريجياً، لتأخذها حواء لتعيش بين القردة وقبل أن تتركها تقول لها (تذكري كل ما عشته، في يوم ما ستتكلمين من جديد، والآن اذهبي، اركضي يا ابنتي، اذهبي واستعيدي الفردوس).
استحضار العوالم
رغم أن القصة الأصلية للخلق معروفة وشائعة واستخدمت بكثرة في أغلب الفنون، إلا أن بيللي وصفتها بطريقة مختلفة وجذابة، فبدأت منذ السطر الأول في روايتها باستحضار العوالم المختلفة لأماكن متخلية بطريقة فريدة مراعيةً التفاصيل الدقيقة، تسير مع بطليها من خطواتهما الأولى، ترى بعيونهم، وتحس بأحاسيسهم، عبر لغة ذكية قريبة التناول، وسرد روائي متين شكلاً ومضموناً دون إطلاق الأحكام أو الانحياز لطرف دون الآخر، وتنقلت برشاقة بين الكلمات لتقدم مفاجآت متنوعة تدهش القارئ، دون غياب البعد الفلسفي المتجسد في الحوارات الدائمة بين الحية من جهة وآدم وحواء من جهة أخرى، مؤسسة لثلاثة محاور أساسية طرحتها في روايتها، الجنس، قسوة الجوع والعطش والقتل من أجل البقاء، والقدرة على منح الحياة والخوف من الموت.
الكاتبة في سطور..
بيللي هي شاعرة وروائية معروفة، ولدت في ماناغوا عاصمة نيكاراغوا عام 1948م. وأصدرت دواوين شعرية، منها (على العشب، خط النار، رعود وقوس قزح، حب متمرد، من ضلع حواء، عين المرأة، حشدي الحميم. وغيرها)، تُرجمت روايتها الأولى (المرأة المسكونة)، الصادرة نهاية ثمانينات القرن الماضي، إلى أكثر من عشرين لغة، ولقيت نجاحاً واسعاً، حيث تجاوز عدد نسخها المليون، في أكثر من خمس وعشرين طبعة، ونالت عليها جوائز عدة، ومن رواياتها (صوفيا النبوءات، واسلالا، رقّ الغواية)، ولها كتاب بعنوان (البلاد تحت جلدي)، وهو عبارة عن مذكراتها خلال الثورة الساندينية.
اللامتناهي في راحة اليد، من أحدث أعمالها الروائية، صدرت طبعتها الأولى 2008، باللغة الاسبانية، ونالت عليها جائزة بيبلوتيكا عام 2008، وصدرت طبعتها العربية عام 2009 عن دار المدى للطباعة والنشر، وترجمها للعربية صالح علماني.
يشار إلى أن آخر أعمال الروائية النيكراغوية "بيلي" هو "بلاد النساء" صدر عام 2010.
أرسل تعليقك