تتمتع السينما في جميع أنحاء العالم بسحر خاص يتجلى في الكثير من التفاصيل التي تتضمنها أفلام الفن السابع خاصة في قدرتها على تحقيق ذلك المزيج الفريد بين الصورة والصوت وما يمتد بينهما من قصص وحكايات تسجله عدسات الكاميرات وتنقله إلى المشاهد بعد سلسلة طويلة من عمليات المونتاج والإخراج التي تزيد هذا العالم جاذبية فيتابع إنتاجه الصغار قبل الكبار منطلقين في رحلة مبهرة من الخيال الذي يتجاوز تلك الدقائق القصيرة من زمن المتعة البصرية التي يمتد إليها الفيلم السينمائي.
وتعد سينما الطفل واحدة من أهم مجالات الإبداع الفني التي أدرك المنتجون أهميتها ومكاسبها منذ وقت طويل ولحقهم التربويون الذين واكبوها بعين الناقد الخبير باعتبارها وسيلة عصرية لنقل القيم التربوية والأخلاقية فيما تسابق الكتاب والمؤلفون على كتابة سيناريوهات أعمال تقترب من الأطفال أكثر وعمل الرسامون والمخرجون على توظيف التقنيات الحديثة لتطوير هذه الصناعة التي تضخ موارد مالية ضخمة إلى عصب الحياة الاقتصادية من خلال المنتجات المستوحاة من هذه الأفلام وتحمل أسماء وصور شخصياتها.
ورغم أن الأطفال يشكلون ما يتجاوز الـ60 بالمائة من عدد السكان في الوطن العربي إلا أن صناعة السينما الخاصة بهم ظلت مجالا يواجهه الغياب لدرجة أن ما أنتجته السينما العربية من أفلام الأطفال منذ انطلاقتها قد لا يعادل إنتاج السينما الأمريكية في عام واحد والتي حققت في عام 2016 إيرادات مالية بقيمة 11.4 مليار دولار أمريكي في أمريكا الشمالية فقط جزء مهم منها تحقق بفضل سينما الطفل التي تشهد نموا وإقبالا كبيرا في جميع أنحاء العالم ومن بينها بالطبع العالم العربي الذي يعيش فيه 290 مليون إنسان.
وتواجه صناعة سينما الطفل في العالم العربي تحديات جمة يعكسها غياب الأفلام الموجهة لهذه الفئة عن شاشات العرض إذا إن جميع ما يعرض من أفلام في دور العرض السينمائية العربية يكاد يقتصر بالدرجة الأولى على الأفلام المنتجة بالولايات المتحدة وبدرجة أقل على تلك التي تنتجها الشركات السينمائية في أوروبا وشرق آسيا ويرجع الخبراء هذا الغياب إلى أسباب كثيرة أهمها التكلفة المرتفعة لإنتاج هذه الأفلام خصوصا التي تعتمد على الرسوم وبالتالي فإن استيراد الأفلام الأجنبية يظل أرخص.
كما أن هناك شبه غياب للكوادر الفنية العربية المتخصصة في صناعة سينما الطفل رغم وجود الكثير من النصوص الجيدة التي يمكن تحويلها إلى أفلام إلى جانب غياب الطفل عن تفكير كبار المنتجين والمخرجين فرغم أن النسبة العظمى من سكان الوطن العربي تقل أعمارهم عن 18 عاما إلا أن هذا الفئة الكبرى مغيبة كليا عن تفكير شركات الإنتاج إضافة إلى أن تفكير السينمائيين ينصب على إيرادات عرض الأفلام فقط ولا يفكرون بالعوائد التي يمكن أن تحققها المنتجات المصاحبة لهذه الأفلام والتي تكون عادة أعلى وأكثر استمرارية.
وشهد العام 2013 أولى مؤشرات التغيير الحقيقي لواقع سينما الطفل في الوطن العربي مع انطلاق الدورة الأولى لمهرجان الشارقة السينمائي الدولي للطفل الذي تنظمه " فن " المؤسسة المتخصصة في تعزيز ودعم الفن الإعلامي للأطفال والناشئة بدولة الإمارات العربية المتحدة برعاية كريمة من قرينة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي رئيس المجلس الأعلى للأسرة.
وتمثل الهدف الرئيسي من المهرجان في الارتقاء بصناعة سينما الطفل بالوطن العربي من خلال تطوير قدرات أصحاب المواهب السينمائية من الأطفال والناشئين والشباب إضافة إلى دعم وتقدير السينمائيين المهتمين بسينما الطفل لتحفيزهم على إنتاج المزيد من الأعمال المميزة مع توفير البيئة الملائمة والإمكانيات المناسبة لتصوير وإنتاج وإخراج وتسويق وعرض هذه الأفلام والتركيز على تقديمها للمضامين المنسجمة مع الهوية العربية والإسلامية والقيم الإنسانية العالمية.
ولعل هذا الاهتمام بسينما الطفل جاء متوافقا مع رؤية سمو الشيخة جواهر بنت محمد القاسمي الداعمة والراعية والمساندة الأولى للأطفال والحريصة دوما على أن تكون المصادر التي يستقي منها الطفل العربي توجهاته الفكرية ومعلوماته الثقافية ومخيلته العلمية و من ضمنها السينما السليمة من كل ما هو دخيل علينا أو بعيد عن اهتماماتنا مدركة في الوقت ذاته أن كثيرا من الاختراعات الحديثة والاكتشافات العلمية ظهرت بداية ضمن أفلام الخيال العلمي قبل أن تتحول إلى وسائل ومنتجات حضارية يستفيد منها العالم.
ولا يقتصر مهرجان الشارقة السينمائي الدولي للطفل على عرض الأفلام وإنما يعتبر مشروعا فنيا متكاملا يعمل ضمن فضاءات متعددة تجمعها السينما فهو يعمل على تنمية وتطوير قدرات الجيل الجديد ليكون قادرا على الإبداع في صناعة السينما خاصة ما يتعلق منها بعالم الطفل ومن جهة أخرى يسهم في تمكين الأطفال والناشئين والشباب من تعزيز قدراتهم في مجال تقييم ونقد الأعمال السينمائية وهذه إضافة مهمة إلى سينما الطفل قد يكون للمهرجان قصب السبق فيها ليس على المستوى العربي فحسب وإنما دوليا فقط.
وإذا كانت الأشكال التقليدية أو النمطية لمهرجانات السينما تقتصر على عرض الأفلام الجديدة خلال مدة إقامة هذه المهرجانات وما تتيحه من تواصل بين نجوم ومشاهير هذه الصناعة فإن مهرجان الشارقة لسينما الطفل تجاوز هذا الدور بكثير فهو حدث يقام لعدة أيام ولكن فعالياته تتواصل على مدار العام من خلال منظومة عمل متكاملة ومستدامة تتضمن تنظيم الورش التدريبية والمخيمات الصيفية ورحلات الاطلاع على التجارب العالمية إضافة إلى الكثير من التجارب العملية المحلية والمشاريع المتعددة.
وقالت الشيخة جواهر بنت عبدالله القاسمي مدير مؤسسة فن ومدير مهرجان الشارقة السينمائي الدولي للطفل " إن أهمية المهرجان تكمن في كونه ينظر إلى السينما باعتبارها وسيلة عصرية لا غنى عنها للتعليم والتثقيف والترفيه بما تتضمنه من تنمية قدرات الطفل والمشاهد في مجال الاكتشاف والخيال والمعرفة لذلك فهو لا يكتفي بدعوة السينمائيين إلى عرض أفلامهم وإنما يعمل أيضا على التعاون معهم في مجال التدريب والتطوير لبناء جيل من الأطفال والشباب الموهوبين والمبدعين في هذا المجال.
وأكدت الشيخة جواهر بنت عبدالله القاسمي أن السينما اليوم وإضافة إلى دورها الترفيهي باتت صناعة قادرة على تحقيق الربح وبالتالي فإنها تشجع الأطفال والناشئين على التعرف أكثر على هذا العالم الممتع والانخراط فيه بشكل أكبر لعله يوفر لهم فرص العمل مستقبلا في مهنة تشهد نموا مستمرا وفي نفس الوقت تتيح لهم التعبير بشكل أفضل عن أفكارهم وآرائهم ونظرتهم إلى العالم المحيط بهم بل وإيصال الرسائل التي يرغبون بها حول واقعهم الحالي وتطلعاتهم المستقبلية وهو أمر يفرض ضرورة وجود اهتمام أكبر بهذه الصناعة.
ومع انتهاء الاستعدادات لتنظيم الدورة الخامسة من مهرجان الشارقة السينمائي الدولي للطفل التي ستقام خلال الفترة من 8 إلى 13 أكتوبر المقبل أعلنت " فن " عن تنظيم برنامج غني بعروض الأفلام وورش العمل المتعلقة بصناعة السينما على مدى أيام المهرجان الستة بالإضافة إلى أنشطة الفنون الإعلامية التي صممت لزيادة تفاعل أطفال وشباب المنطقة مع صناعة السينما بجميع جوانبها إنتاجا وإخراجا وتقييما.
واختار المهرجان الذي يسعى إلى نشر التعليم والإبداع عن طريق فن صناعة الأفلام 124 فيلما من 33 دولة للعرض في دورة هذا العام وذلك من إجمالي 500 فيلم من كافة أنحاء العالم ومن خلال هذه الأفلام يمكن للمشاهدين وخاصة الأطفال من عمر أربعة أعوام إلى 18 عاما اكتشاف المزيد عن ثقافات الشعوب والتعرف على كيفية تعايش جميع الناس بمختلف ثقافاتهم وديانتهم وجنسياتهم في عالم واحد بسلام وتساو.
ويشهد المهرجان منافسة قوية على جوائزه التقديرية التي تتضمن سبع فئات رئيسية هي " أفضل فيلم من صنع الأطفال" و"أفضل فيلم طلابي" و"أفضل فيلم قصير من الخليج" و"أفضل فيلم عالمي قصير" و"أفضل فيلم رسوم متحركة" و"أفضل فيلم وثائقي" و"أفضل فيلم روائي طويل" وستخضع الأعمال الفنية المرشحة للفوز إلى عدد من المعايير مثل فكرة العمل والهدف منه وعناصر الابتكار والإبداع وطريقة العرض والتقنية المستخدمة والتنظيم وغيرها من المعايير .
وإلى جانب الأطفال والشباب الـ37 الذين سيقومون بتقييم واختيار الفيلم الفائز بمهرجان الشارقة السينمائي الدولي للطفل في فئة "أفضل فيلم من صنع الأطفال" ستتولى لجنة تحكيم مكونة من 19 عضوا تقييم الأعمال الفنية المتقدمة للمشاركة ضمن بقية الفئات ومن أبرز أعضاء هذه اللجنة الممثل السعودي إبراهيم الحساوي والفنان الإماراتي مرعي الحليان والكاتب والسيناريست الإماراتي محمد حسن أحمد والفنان الإماراتي أحمد الجسمي والكاتب والمنتج الإماراتي سلطان النيادي والمخرج الإماراتي عبدالله الكعبي والشاعرة والكاتبة والمخرجة الإماراتية نجوم الغانم.
كما تضم لجنة تحكيم الدورة الخامسة أيضا الممثل والمخرج الإماراتي الدكتور حبيب غلوم والإعلامية الأردنية علا الفارس والفنان والمؤلف والمخرج الإماراتي عبدالله صالح والمخرجة الإماراتية نايلة الخاجة ورائد الأعمال والفنان الإماراتي عبدالله الشرهان والمخرج والمنتج السينمائي البحريني بسام محمد الذوادي والمخرج الإماراتي المتخصص في صناعة أفلام الكرتون محمد سعيد حارب والمخرج الإماراتي علي مصطفى والفنان الكويتي الدكتور خالد أمين والمنتج والمخرج السعودي أيمن جمال إضافة إلى الممثلة الأمريكية أنيكا نوني روز والمنتجة والمخرجة الجنوب أفريقية فيردوز بولبوليا.
ولا يقتصر الحضور في المهرجان على الصغار بل يشمل الكبار أيضا الذين يجدونه فرصة لمشاركة أطفالهم عالمهم الجميل كما أن عرض الأفلام في مواقع كثيرة ضمن إمارة الشارقة بما ذلك المراكز التجارية والأماكن العامة يجعل من متابعة الأفلام أمرا أكثر سهولة إلى جانب ما يوفره المهرجان من تفاعل بين مكونات الصناعة السينمائية والمهتمين بها من خلال التواصل مع النجوم والمشاهير والمشاركة في الورش والدورات والندوات المصاحبة وما تتيحه من اهتمام أكبر بالسينما والاقتراب منها أكثر.
وإذا كان توفير احتياجات الطفل بما ذلك التعليم والتثقيف والترفيه يعد حقا أساسيا من حقوقه الإنسانية فإن سينما الطفل في العالم العربي التي تتضمن هذه الاحتياجات الثلاثة تتطلب الكثير من الجهود والميزانيات والأهم من ذلك العقول المبدعة المؤهلة والمنفتحة لتطوير منتج سينمائي يرتقي إلى خيال وفكر الطفل العربي وما مهرجان الشارقة السينمائي الدولي للطفل إلا نافذة عملية جادة وفاعلة في طريق تصحيح وتطوير هذا المسار الذي سينعكس إيجابا على مستقبل أجيال يتجاوز عدد أفرادها عشرات الملايين.
أرسل تعليقك