القاهرة ـ وكالات
يُطالعنا المبدع عُمر والقاضي برواية خامسة تحمل عنوان ‘الإبحار إلى إيثاكا’ بعد رواياته؛ البرزخ (1996) والطائر في العنق (1998) ورائحة الزمن الميت (2000) والجمرة الصدئة (2007). والتي لم يخرج فيها عن المسار المميز للكتابة الروائية لديه وهي الانشغال بالقضايا السياسية وإشكالية الحرية وحقوق الإنسان والاشتغال على الشخصية الروائية والمكان، واتخاذ السخرية كوسيلة فنية لمواجهة ومقاومة الواقع المنحط.
وتدخل رواية الإبحار إلى إيثاكا في إطار تخييل تجربة الاعتقال التي خلفت تراكماً مهماً، كماً وكيفاً، في السرد المغربي على امتداد العقدين الأخيرين، وبتجليات وأشكال فنية متنوعة. لكن رواية الإبحار إلى إيتاكا تحاول أن تخلق لنفسها خصوصيات تجعلها تنماز عما تراكم من محكيات الاعتقال.
ومما يثير في هذا النص الروائي الجديد لعُمر والقاضي هو أنه يجعل القارئ يستدعي الكثير من النصوص الأدبية المحلية والكونية سواء التي عنيت بتخييل الاعتقال أو غيرها.
نلمس منذ عتبة العنوان تناصاً واضحاً بين الرواية وقصيدة إيثاكا للشاعر اليوناني قسنطين كافافيس، وذلك عبر التفاعل النصي بالمعارضة من خلال عدة تجليات تؤكد ذلك، كحضور الرحلة في النصين، فكل نص يدعو إلى الرحلة، متسلحاً بالعاطفة والحب ومتحدياً الخوف، للقبض على المتعة والفرح.
وتستدعي الرواية نصاّ روائياً مغربياً وهو الساحة الشرفية وتتفاعل معه بالمعارضة أيضاً. فإذا كان بطل رواية الساحة الشرفية يحتمي بالسجن ويفضله على الخارج، فإن بطل رواية الإبحار إلى ايتاكا، متفائل ويؤمن بالمستقبل، وذلك بتغيير طريقة النضال.
كما تختلف الرواية عن كل محكيات الاعتقال التي احتفت بالتعذيب داخل السجون، لأنها أولت الأهمية لما بعد الاعتقال وخيارات الفعل النضالي في المستقبل. إذ يعود السارد البطل المناضل السابق إلى النضال بعد الإفراج عنه، بطريقة جديدة، وهي كتابة تقرير أو سيناريو يهتم بقضايا المجتمع، ويعيد الاعتبار للمواطن البسيط، ويحاول عرضه على المناضلين وما تبقى منهم بالمدن التي زارها، بعد أن اختار العزلة لمدة خمس سنوات، ليعلن رأيه في ما يجري من تحولات كارثية في الوطن كتابة، رافضاً الانسحاب والوقوف متفرجاً مثل كثير من مناضلي اليسار الذين غيّروا جلدتهم.
يبقى السفر كما هو معروف، شكلاً من أشكال التعرف الذي يعمل على تعميق معرفتنا بذواتنا وبالعوالم والأماكن التي نرتحل عبرها وإليها، وأيضاً الأشخاص الذين يصاحبوننا أو نصادفهم في مسار سفرنا. وقد أحسن عمر والقاضي باتخاذه السفر وسيلة فنية لبسط رؤيته الفكرية في روايته الإبحار إلى إيثاكا، وذلك عبر رحلة يقوم بها السارد البطل في الزمان (من طفولة السارد إلى نضاله إلى اعتقاله وخروجه من المعتقل حتى لحظة سفره) وأيضاً في المكان من الدار البيضاء إلى مارتيل، مروراً بعدة مغربية (الرباط والقنيطرة والعرائش وأصيلة وطنجة وتطوان)، مُقدّما ما سمّاه بالسيناريو السلمي الذي قام بكتابته بعد عُزلة اختيارية استغرقت خمس سنوات بعد خروجه من الاعتقال، ويراعي هموم المواطن البسيط الذي ينشد من ورائه التغيير، بهدف تعميمه في كل المدن المغربية، وقد اختار السارد البطل مدن الشمال وجهة لهدفه، مغتنماً فرصة سفره لالتقاط مظاهر الفساد والفقر والتهميش والإقصاء وسوء التدبير فيها، وفْق ما يميز التخييل الروائي الذي لا يهادن المفارقات، كما لا يفوت فرصة رصد مصائر المناضلين المخيبة لكل التوقعات.
الإبحار إلى إيثاكا إذن رحلة في المكان وفي الزمان؛ في الماضي والحاضر من أجل التشخيص والتأمل والنقد والحلم. برصد تحولات الأماكن وتحولات شخوصها، على شكل بورتريهات ساخرة، وخصوصاً المناضلين الذين مسخوا، وكيف تفرّقوا وتشتّتوا ومآلهم وكيف انبطح الكثير منهم وخضعوا للمخزن. ومنهم من تهافت على الامتيازات، وتحول من النقيض إلى النقيض. يقول: ‘بعض رفاق الأمس أصبحوا رأسماليين أو مخبرين أو إخوانيين أو متفرجين، هناك من أسّس حزباً ليبقى في الميدان، رغْم علمه أنه لن يُغيّر شيئاً. ألَمْ يصرح أحد اليساريين بأن المخزن هزمنا؟’ (الرواية، ص.89.) ويستفهم ويستغرب من مواقف من كانوا مناضلين، وتخلّيهم عن المواطن البسيط وهمومه وقضاياه، ليعتبر أنّ زمن النضال كان مجرد حلم وانقضى. يقول: ‘أراح زمن الحلم؟’ (الرواية، ص.70.) كما ينتقد وضع النقابات والأحزاب اليسارية والوضع الذي آل إليه اليسار، ويتساءل عن تقهقره: ‘لماذا يتقهقر اليسار؟’ (الرواية، ص.61.) وكيف رفع كثير من مناضليه الراية البيضاء. ويضع اليد على أشكال الفساد التي تعتري البلد، من فساد القضاء، والتعليمات بالرشوة ونهْب المال العام من غيْر محاسبة، والتلاعب بكل شيء، والاستغلال والنفوذ، والاستباحة لكل شيء والاستحواذ على كل شيء.
ويروم السفر في الرواية تحقيق مجموعة أهداف:
- استعادة السارد لكثير من عاداته القديمة، خلال فترة النضال.
- رصْد التحولات الكارثية للأماكن التي مرّ منها، خلال سفره، باستغراب موسوم بالحسرة. يقول: ‘عجبت من أمر هذا البلد. فبدلاً من أن تتحول القرى إلى مدن جميلة، نجد أن مُدنا عرفت بجمالها ونظافتها وذوق أهاليها تحولت قرى كبيرة بفعل الإهمال..’ (الرواية، ص.114.) ووضع اليد على تحولها إلى الأسوأ. ويحاول تشخيص الأوضاع المزرية بالأماكن التي مرّ منها، والمُتمثلة في الإهمال، وتسريح العمال والغلاء. يقول مثلا عن تطوان: ‘ كانت حمامة بيضاء بياضا حقيقيا، قبل أن يحتلها المهربون من البدو والقوادون وأبناء الزانيات والظلاميون وكل ذلك البلاء الأسود…’ (الرواية، ص.166.(
- التأكيد على سلامته البدنية والشك في اعتقاد الطبيب.
- عرض السيناريو على ما تبقى من المناضلين.
- معاودة الحنين إلى الزمن الجميل بعد المسخ الذي طال المناضلين والانحدار الذي طال الأماكن.
- استحضار ذكرياته بالمدن التي عبرها والتي تعود إلى زمن النضال. مع حسرة على الأخطاء التي ارتكبها اليسار والمناضلون.
هكذا تحاول الرواية تقديم نَقد، موسوم بالسخرية، لتجربة اليسار من داخلها، من خلال تجربة بطلها وسفره في المكان والزمان، عبر نقد مصحوب بالتأمل في التجربة وتحليلها من كل الجوانب والبحث عن أسباب المصير الذي انتهى إليه اليسار ومناضلوه.
هناك أمر مثير لم تلتفت إليه كثير من القراءات التي نشرت حول الرواية؛ ويتمثل في قيام الرواية على خلفية فكرية وهي السخرية، وذلك من خلال إلحاح السارد في كثير من المناسبات على سلمية السيناريو الذي ينم عن نوع من السخرية. يقول: ‘السيناريو الذي أعددته لا يُهدد أحداً ولا يهاجم أحداً ولا يكسر شيئاً. إنه سلمي، لن يُوقف سيارات ولن يسد طرقاً. إنه عمل بسيط، مجرد دعوة سلمية، من أجل هزة سلمية. لا نعلم درجتها. الأمور بخواتمها. هي رجة. السيناريو حلم. لكن له ما يبرره.’ (الرواية، ص.61.) وفيه أيضاً إقرار بهزيمة اليسار واستسلامه لقوة المخزن وشراسته. يقول: ‘كان المخزن شرساً. أطلق الحرية لكلابه. فعلوا ما شاؤوا.. وها نحن مُجرّد رفاق مسالمين محتفظين بكرامتنا.’ (الرواية، ص.66-67.) وفي ذلك سخرية من وضع النضال والمناضلين والمسخ الذي طالهم وطال طرق نضالهم التي آلت إلى الانبطاح.
ومما يقوي هذه السخرية هو أن المدن التي كان سبق أن زارها مُحرضاً على النضال يزورها في رحلته وفْق سيناريو سلمي. وتلك هي المفارقة الساخرة التي تنبني عليها الرواية بين الماضي والحاضر، بين زمنين زمن النضال وزمن الخونة والانتهازيين وما يميزه من المسخ الذي طال الرفاق.
ولتشخيص الوضع المأزوم للواقع وهشاشته أمام تحولاته الكارثية يتوسّل السارد بعدة أساليب وآليات مقاومة منها:
- الحضور الكبير للاستفهام الذي يعكس التوتر الحاصل بين ذات السارد وبين واقعه واندهاشه من تحولاته المتسارعة، وتحولات المناضلين وتفرقهم، ووقع السيناريو وإمكانيات نجاحه، كما أنه يرتبط أيضا بذات السارد، حالته البدنية (المرض) والعاطفية (الحب).
- استحضار الحبيبة التي كانت دعما له على مقاومة.
- استحضار الكثير من النصوص لإبراز الوضع المفارق الذي آل إليه البلد المتنبي، دوستويفسكي، السياب، درويش.
- استحضار الكثير من المناضلين من أزمنة وأمكنة مختلفة؛ أبي ذر الغفاري، غيفارا، ماو، بن زكري، ليستلهم منها القوة لمواصلة النضال.
أرسل تعليقك