الخرطوم ت وكالات
عن دار مدارك أصدر الروائي أحمد البشري عمله الجديد "خيانات السيد وقت"، حيث يشي العنوان بالبطل الرئيس إذا أمكن التعبير في العمل، والمتمثل في: الوقت نفسه. فهل تلك الخيانات هي باتجاه الشحصيات، الأمكنة، أم الروائي ذاته، والذي يأتي عمله الثاني بعد روايته "فصل آخر في حياة الأشياء" الصادرة عام 2009، حيث للفاصل الزمني سلطته، هذا ما تقوله الكاتبة السعودية منال العويبيل في قراءتها للرواية التي سنطرحها سردا في الأسطر التالية.
تقول الكاتبة .. "مدخل الرواية يضعك أمام ذاكرتك - خاصة إن كنت من مجايلي الثمانينات - بلطف يستدعي معه فلاشات متتالية تبدأ مع رقم (961) الخاص بخدمة الساعة الناطقة الهاتفية ، والصوت الرخيم الذي كان يحفظ الوقت ويكرره دون ملل، وتذكّر هاجس طفل ما كان يظن ذلك الصوت خلف ذلك الرقم لرجلٍ متفرغ في مؤسسة البرق والبريد والهاتف؛ ليخبرنا عن الساعة فقط، كلما احتجنا إلى ذلك، مبتدئاً بالعبارة الشهيرة: عند الإشارة تكون الساعة.
وفي مقطع من مقدمة الرواية: "كان الوقت يعني بالضرورة المعنى الفيزيائي للساعة الدائرية في صوالين المنازل السعودية، في منتصف الصالة وفي مقابل مدخلها، قبل أن تظهر الساعات الرقمية كان الوقت هامشيًا آنذاك وتنحصر استخداماته في بدء المدرسة والعمل وانتهائهما، وإذا ما كان السعوديون قد تناسوا عمدًا كل الموروث الشعبي والديني الحاثّ على الاستفادة منه بأقصى طاقة ممكنة، فإن ذلك لم يثبط من عزيمة الرجل الكريم الذي ما فتئ يذكّر السعوديين بالوقت وفي أي وقت أو مكان، ورحابة صدره وهو يستقبل الشتائم التي يطلقها الأطفال الذين تعلموا للتو في شوارع المدن السعودية شتائم جديدة ولم يجدوا أحدًا مناسبًا للشتم".
هذا المدخل الذي سيحفز ظنك لرواية تبدأ في إحدى حواري الرياض، زقاق في جدة، أو إحدى طرق الدمام، لكنها تعبر بك الحدود الشمالية باتجاه تركيا.. في خيارٍ لن يستوقفك الاستغراب كثيراً عنده كما قد تتوقع وأنت تمضي في القراءة. وما سيكون فارقاً في حياة أيوب (بطل الرواية) ليس اختلاف البيئة، أو نمط العيش، أو حتى العمل، سيكون "فرق الساعة" بين التوقيت الصيفي والشتوي، والذي لم يكن يتوقع أنه بتلك الأهمية.
الوقت هو عدو أيوب الأول، إذا لم يكن عدونا جميعاً خلال فصول الرواية، فأن تلهث مع منبه يرن في موعده، لكنه ليس كذلك في نفس اللحظة، وأن تطل على شوارع مدينة أنقرة، تسمع صوت الباعة، أبواق السيارات، دمى مصنوعة من البلور الملون، صوت فحيح الحافلة وهي تتوقف ووهي تستعد للمغادرة، هي تفاصيل لا تغشها ذاكرتك من صور بطاقات البريد أو لقطات من الدراما التركية، بل تصنعها لغة الكاتب التي ترفع سقف استحضار خلفية مشهد للأبطال، أو صوت عابر، أو مونولوج يعرّي ذهن شارد للبطلة إيليف، أو بالٍ قلِق لأيوب.
في هذه الرواية يبدو الوقت - أو السيد وقت - حفظاً للألقاب، مرادفاً للموت، ولوصفٍ أكثر دقة لملاكه، حيث اختصر حضوره في ساعة، حيث تبدو أهمية ما وقع فيها من الغلاف، والذي قرر فيه الكاتب أن يلغي الساعة 8 منه.. فما الذي حدث في الساعة الثامنة؟ وما الذي يمكن تلافيه بأقل قدرٍ من الخسائر والأعراض الجانبية للوقت والموت في آنٍ واحد!
يقترب اسم إيليف (البطلة) من مصطلح الألفة في اللغة العربية، الأمر الحقيقي فعلاً وأن تقرأها وصفاً وحدثاً، البطلة التي دخلت حياة أيوب السعودي من جبال الجنوب لتخلق له وطن في بلاد الأناضول، وتحدث فرقاً طفيفاً في حياته المحملة بأسراره التي قدم بها إلى تركيا، وبنيّة مبيـّتة للاستقرار، فرقاً طفيفاً بقدرِ أن تفتح شهيته المسدودة على الحياة.
في مقطع من الرواية يقول: "ما الذي حدث منذ الثامنة التي جاءتْ متأخرة؟ لماذا تأخر عن الثامنة؟ لماذا تأخرتْ الثامنة عنه؟ لماذا فقد موعده مع الأخضر حول عنق إيليف؟ عن القهوة في عيني إيليف؟ كان يأمل أن يلحق بها، تتك بطرف اثنين من أصابعها على ساعته، تقول له وحاجباها مُغضَبان: تأخّرت! كان سيضحك قليلاً، قليلاً فحسب.. ثم يأخذ رائحتها تحت ذراعه..".
الشخصيات كما هو خط السرد تدور بين ماضي أيوب في قريته الجنوبية في السعودية، وبين حاضره في تركيا، حيث تتشكل حياته عملاً وعاطفة، وخط خفي يشي بأنها كردّ فعلٍ على سوابق مما حدث للبطل، حيث تظهر في قريته أبعاد المسافة الزمنية والبيئية لأجواء الريف الجنوبي في بيت والده وزوجته، وتصنع الأحداث مفترقاً يجعل السؤال يلح على القارئ: هل هذا سبب هجرته إلى تركيا؟ ولماذا تحديداً! حتى تظهر الأجوبة. في الجنوب يرسم الكاتب البيئة بشكلها العفوي الذي يخبر عما قد يعرفه القارئ وما لا يعرفه، لكنه استطاع تقديمه بزاوية تعرفك عليه جيداً.
على مستوى البيئة والمكان فالكاتب يحكي بأسلوب بصري يجعل اللغة مجرد ترجمة أسفل شاشة الوصف، تأتي التفاصيل منهمرة وتتكاثف حتى تظن الختام سيكون في أي لحظة، لكن لعبة السرد تجعل القارئ يسحب نفساً طويلاً، ويلتقط خيطاً آخراً من الأحداث يتابعه إلى مفترق آخر، حيث البطل هو الوقت لو رجعنا خطوة إلى الخلف ونظرنا للرواية مرة أخرى. يقول في إحدى المقاطع: "لقد توقّف الوقت آنذاك، ولم يدرك وقتها هل توقف الوقت لأن تلك اللحظة يمكن أن تكون إحدى لحظات السّعادة التي يتوقف عندها الزمن، أم إنّ الوقت توقف لأن هناك شيئًا ما يجب أن يفعله أخيرًا، إذًا فقد توقفت ساعته اليدوية، وساعة السيارة، وماتت الديكة في قريته البعيدة".
الرواية لا تقدم الكثير من الأسباب أو الشرح لذلك الحدث أو الكواليس السابقة والتالية لأقدار تمت، إلا أنها تضع القارئ في وسط الحالة، في قلب ما يحدث مباشرة، وتجعله يحاول التصرف مع الأبطال.
على سبيل الختام: الرواية ممتازة لمن خسروا لياقتهم في القراءة، ستقرأها سريعاً، وبمبالغة حميدة: بالتهامٍ ينتظر الصفحة الأخيرة بشغف، وأمورٍ أخرى ستعرفها - وحدك - وأنت تقرأ.. خذ هذه النصيحة من قارئة بطيئة جداً".
أرسل تعليقك