بيروت ـ وكالات
انتوني شديد صحافي لبناني الأصل من بلدة مرجعيون الجنوبية، كان مراسلاً لجريدة «نيويورك تايمز» في الشرق الأوسط، وهو غطى معظم الأحداث التي شهدتها المنطقة في العقود الثلاثة الأخيرة، قبل ان يلقى حتفه خلال تغطيته للانتفاضة السورية في العام 2012. في كتاب صدر له بالإنكليزية قبل عام من وفاته بعنوان «بيت من حجر» (صدرت ترجمته العربية عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر- بيروت)، يروي شديد قصة ترميمه لبيت العائلة في بلدته مرجعيون. لكن الكاتب حوّل كتابه الى مزيج من المذكرات الممزوجة بتاريخ لبنان ومنطقة الشرق الأوسط، منطلقاً من حدث راهن ليعود بالذاكرة الى التاريخ اللبناني والعثماني ثم الى الحاضر، فنجد انفسنا امام كتاب في التاريخ. ثم يعرّج على العلاقات الاجتماعية في بلدته ومحيطها، ويسلط الضوء على العادات والتقاليد، ما انقرض منها وما استمر، فيبدو كتابه في خانة علم الاجتماع. وخلال السرد، يقدم لوحات أدبية بالغة الحساسية وغنية بالوصف للطبيعة اللبنانية، بحيث يبدو الكتاب كأنه نص أدبي. ولا ينسى ان يشير الى الحرب اللبنانية، الأهلية منها او المتصلة بالصراع مع إسرائيل، خصوصاً ان وجوده صادف اندلاع حرب تموز(يوليو) عام 2006. هكذا يقدم أنتوني شديد مجموعة كتب ولوحات في كتاب واحد، انطلاقاً من الحديث عن بيت العائلة في بلدته، ليصير كتابه «بيت من حجر» غوصاً في اعماق البشر وحياتهم.
يتجاوز منزل عائلة أنتوني شديد الإطار المحلي ليتخذ طابعاً كوزموبوليتياً بحيث يقول: «يخبر المكان المبني على تلة، عن امور مشرقية وعن اسلوب الحياة ... وهو يذكر بحقبة ضائعة من الانفتاح، سبقت سقوط الأمبراطورية العثمانية، جالت فيها كل الأصناف عبر ديار يتشارك فيها الجميع. يقع المنزل في حي السراي، وهو حي يتساوى بأناقته مع اي حي آخر في المنطقة، جيب من حجارة الجير والقناطر المحددة والأسقف القرميدية الحمراء. وقد استورد القرميد من مرسيليا في أعوام 1800، ما يوحي بالروابط الدولية والأناقة الكوزموبوليتية. وهو رمز للأسلوب المشرقي على غرار الطربوش الذي اعتمره السادة العثمانيون الذين اقاموا في الحي، حيث تلمّع الفضة باستمرار وتشرب القهوة في الغالب في فترات بعد الظهر». من هذا الوصف ينتقل الى الإضاءة على الهجرة اللبنانية الى اميركا، ويقدم تفاصيل عن عائلته وعن العادات والتقاليد السائدة، بما فيها الحكايات والأساطير الموروثة. يشير الى ان التاريخ يكتب أحياناً «دعماً للأساطير التي يستند اليها تصورنا لهوياتنا. وكثيراً ما تدور اساطير مرجعيون وتأسيسها حول روايات من الهروب المتواصل. وغالباً ما تشير اخبار الحرب والهجرة، التي رويت وأعيدت روايتها على مدى ثمانية عشر قرناً، الى احد السدود التي أثرت الصحراء في ما مضى وإلى ثلاثة طيور أرشد احدها مجموعة خائفة من التائهين الى ما سيصبح موطن عائلتي وفق الملاحم التي يستمر الرواة في اخبارها»
ولأن بلدته مرجعيون تتملك مشاعره كلها، يستفيض في وصف مظاهر الحياة المادية والاجتماعية فيها. «فلا يمكن لأي بيت في مرجعيون ان يدعي العظمة من دون القوس الثلاثي الذي تحكم ضم أجزائه زخرفة خشبية دقيقة أحضرها البناؤون من الجبال. اما من اين استوحيت القناطر، فذلك جدل استمر وقتاً طويلاً. اوحى بعضهم بأن هذا الأسلوب مصدره البندقية، وهو من تأثير التبادل التجاري الذي امتد قروناً سابقة... الا ان القناطر شكلت ابتكاراً محلياً بالقدر نفسه الذي تأثر فيه طابعه بالثقافات الأخرى». والحديث عن بيوت مرجعيون يفتح على الحديث عن زيتونها المنتشر في البلدة وكل ارجاء المنطقة المحيطة. فالأشجار «التي تتوهج في ضوء الغسق الزهري، مستوحدة بقدر ما هي قوية البنية، وربما دفنت قرون في جذوعها الكثيرة العقد. هذه شجرة مباركة» على ما يقول. لكن ما لا يقبله انتوني هو هذه «العدوانية» مع شجرة الزيتون خصوصاً عند قطاف الموسم،. احتلت الحرب الأهلية موقعاً في كتاب انتوني شديد، فيقدم وصفاً لطبيعة الصراع الذي شهده البلد خصوصاً في النصف الثاني من القرن الماضي، حيث «تصارع لبنان لفترة طويلة جداً مع مسائل الهوية الأساسية: هل ان سكانه عرب أولاً او لبنانيون فوق كل شيء، وهل ينتمون الى الشرق ام الى الغرب، وهل انهم مرتبطون بقدر يتجاوز حدوده كثيراً - العالم الإسلامي على سبيل المثل- او انهم جزء من ارث استثنائي كاستثناء تاريخ فينيقيا القديمة». وعلى رغم التنوع في الفكر السياسي والقوى الحزبية والعلاقات المشتركة التي سادت بين المجموعات اللبنانية، الا ان ذلك لم يمنع اندلاع الحروب الأهلية التي افتتحت نهاية السبعينات، واختتمت نظرياً أواخر الثمانينات، لكن نارها لم تنطفئ، وظلت الحرب مارة بأشكال مختلفة، منها الساخن ومنها البارد.
صادف مجيء انتوني شديد لترميم منزل العائلة اندلاع حرب تموز في العام 2006، ما جعله ينخرط في مهنته الى الحد الأقصى لتغطية هذه الحرب من كل جوانبها. اكثر ما آلمه تلك المشاهد المؤثرة التي اعقبت مجزرة قانا. يكتب قائلاً: «شاهدت بوصولي الى قانا، شبكات من الأسلاك المتدلية على امتداد ما يوحي بأنه شارع(...). اختنق معظم القتلى بالغبار المتطاير وغير ذلك من الركام. واحتــــفظت جثثهم السليمة بآخر حركاتهم: يد مرفوعة تطلب المساعدة، عجوز يرفع سرواله، وحسين هاشم، ابن الثانية عشرة، وقد انطوى في وضعية الجنين، وبدا فمه وكأنه تقيأ التراب. وجلس محمد شلهوب على الأرض وقد كسرت يده اليمنى. ماتت زوجته خديجة ووالدته حسنى، وكذلك ابنتاه حوراء وزهراء وهما في الثانية عشرة وفي الثانية من العمر. وكذلك حال ابنائه: علي ابن العاشرة، ويحي ابن التاسعة، وعاصم ابن السابعة. قال الوالد الفجوع : «وددت لو ان الله ترك لي طفلاً واحداً فحسب».
لم ينج أنتوني شديد من الفكر المؤامراتي الذي يتقنه اللبنانيون في تفسير الظواهر، فقد طاولته تهمة التجسس للنظام الأميركي، وأنه عميل سري، على غرار ما عرفه المشرق العربي من لورانس وكيم فيلبي وغيرهما. «ازعجني ما اسر به إلي من كلام على العشاء. قال ان خمسة اشخاص زاروه ليكشفوا له انني جاسوس اميركي وأن السفارة الأميركية تدفع ثمن ترميم منزلي. (وفي رواية اخرى، وفّر الرئيس حورج بوش نفسه التمويل). ونصحوه بأن ينتبه الى ما يقوله. وازداد غضبه وهو يخبر القصة». لم يقتصر على الاتهام بالتجسس، بل طال الأمر جمع تفاصيل عن عائلة شديد وأصدقائه ومعارفه ومجمل نشاطه. لقد جاءه جواب من احد اصدقائه:» انها لعنة مرجعيون، التي عانت ما عانته من السرية والفضول، مع عنصر أساسي من العين الشريرة».
كتاب انتوني شديد ممتع في قراءته، تساعد التفاصيل الواسعة التي يدرجها في سياق احاديثه على الولوج الى عوالم متعددة ومتنوعة، تمتد من المحلي في القرية، الى الفضاء اللبناني الوسع، الى العالم العربي والشرق الأوسط، وصولاً إلى الفضاء العالمي بكل تشعباته وهمومه وقضاياه.
أرسل تعليقك