الرباط ـ وكالات
تأتي الرواية التاريخية لتملأ الفراغات التي تتخلل سيرورة الأحداث، وهذا ما جعلها جنسا أدبيا ذا حساسية مفرطة، لا من حيث الكتابة ولا من حيث التلقي. لأنها قراءة جديدة للمعطيات التاريخية.
في هذا السياق تأتي رواية " الموريسكي" للمؤرخ المغربي والناطق الرسمي باسم القصر الملكي سابقا حسن أوريد الصادرة عن دار أبي رقراق للطباعة والنشر بترجمة عبد الكريم الجويطي. وقد اعتمد الكاتب كتاب " ناصر الدين على القوم الكافرين" لشهاب الدين أفوقاي ليحبك في حضنه مرويته.
من خلال الإهداء الذي يتصدر الرواية ينتابنا شعور بأننا أمام مسلسل من المأساة التي صنعتها محاكم التفتيش في حق نسيج من البشرية ظلوا على هامش التاريخ منذ أن سالت دماؤهم وأُخرجوا من ديارهم، ولكن هذا الشعور ما يلبث حتى يزايلنا عندما نجتاز الصفحات الأولى من النص. إذ نُلفي أنفسنا أمام سيرة رجل من الموريسكيين هو بيدروـ أحمد شهاب الدين، رجل حالفه الحظ ـ من بين جماهير الموريسكيين ـ فكان من حاشية السلطان المنصور الذهبي، لتسترسل الرواية ـ في سوادها الأعظم ـ في حكي سيرته. وقد كان أبوه يلقنه العربية والفقه خفيةً في الأندلس بينما كانت زهرة ـ شقيقة الراوي ـ تعاني الأمرين من تقمص شخصية غير شخصيتها إذ كانت تظهر المسيحية وتخفي الإسلام، وها هي ذي تسر لأخيها بعدما برمت من لعب هذا الدور: " طيب يا بيدرو أو يا احمد ـ كما تريد ـ أنا متعبة من العيش مسلمة في داخل البيت ومسيحية في الخارج. في يوم ما سيتكشف كل شيء" ص44 ثم يسكت النص عن معاناتها بضع صفحات ليفاجئنا بأنها قتلت في ظروف غامضة وماتت ميتتة بشعة:" دييغو، عثرنا على جثة ابنتك غير بعيد من النهر، وجسدها مشوه تعرض للتمثيل"ص52 ، ثم بعد ذلك بشهور يموت والدها متأثرا بفراقها ليقرر الإبن ـ الراوي الهجرة إلى المغرب تاركا أمه ذات الأصول المسيحية تقضي باقي أيامها في أحد الأديرة " انزوت والدتي في دير للدومينكان. كان حزنها أكبر من كل اعتقاد ديني" ص54.
عدا هذه المشاهد الميلودرامية، نرى أن البيئة الموريسكية، المثخونة بالجراح، لا يتم التعرض لها إلا على استحياء، بينما يتم طمس عتبة النص التي ظلت عالقة في ذهن القارئ وهو يحاول أن يسبر شيئا من أغوار البشاعة التي أتقنتها محاكم التفتيش باسم المسيحية. خاصة عندما يلفظ النص الجزء الأول من الرواية المعنون ب" بلدة الحجر الأحمر في خاصرة جبال البشارات 1585ـ1595" ويشرع في الجزء الثاني المعنون ب" مرلكش 1598ـ 1603" وهكذا يلقي بنا النص في تيه المغامرات التي يخوضها الراوي والتي تحط به في مراكش في كنف السلطان (المنصور الذهبي) ليبتعد بنا النص عن تيمته ويلقي بنا في أتون المؤامرات التي تحاك ضد السلطان والتمزق الذي عرفه حكمه والذي شهده الراوي شهاب الدين. والذي يشفع لورود هذه التفاصيل في ثنايا النص الموريسكي هو أن الأقدار تريد أن تري الراوي ـ رأي العين ـ السبب الرئيس الكامن وراء نكبتهم، ألا وهو صراع الخلفاء الذي أدى إلى انقسام الأندلس إلى مجموعة من الإمارات الصغيرة المتطاحنة والتي سُميت بمماليك الطوائف، وهذا، يمكن اعتباره، نوعا من التجانس مع الحالة التي دفعت إلى نشأة أزمة الموريسكيين. ولكن الكاتب أطنب في تلك التفاصيل حتى توارى الإنسان الموريسكي على مدار صفحات كان الأجدر أن يستدعي فيها عتبة النص التي توارت بدورها.
باعتبار أن الكاتب قد اعتمد على التاريخ والمتخيل،فقد اختار أن تكون شخصية شهاب الدين غير انهزامية، و هذا ما يبرر تنصيبها نموذجا للموريسكيين، فهو لم يركن إلى البكاء على الماضي وإنما راح يستغل قربه من السلطان المغربي ليشرح مظلومية قومه للعالم من خلال هولندا وفرنسا " كلفني السلطام مولاي زيدان بترأس الوفد المتوجه لبعض البلدان الأوربية لإخطارهم بالضرر الذي لحق بالمورسيكيين والتدخل لدى السلطات الإفرنجية لاسترداد ممتلكاتهم التي صادرها القراصنة الإفرنج" ص118 ولكن أية قوة هاته التي تكمن في شخصيته إلى درجة أنه نسي ـ أو تناسىـ أهم فرد من ألائك الذين راح يضرب في الأرض ينتصر لهم؟ فهو لم يتذكر أمه إلا وهو واقف أمام الكعبة في أيامه الأخيرة" ما أن رأيت الكعبة حتى بكيت بدموع حارة، تراءى لي من أحبهم وبكيت، بكيت أهلى الموريسكيين، ضحايا أبشع الفظاعات، بكيت أبي وأمي وأختي زهرة" ص114/115، بل كان معه من الوقت ما يجعله ينسج علاقة غرامية مع امرأة باريسية وهو نفسه يتعجب من نفسه" أي قدر هو قدري! هربت من العقيدة المسيحية وصَغار من يتصرفون باسمها، وآليت على نفسي أن أقوم بمهمة دحضها... وها هي أوجيني تزعزع كل الحجج التي أتسلح بها" ص145. فهل هذه طبيعة بشرية صرف، حتى وإن كان الإنسان يحمل على عاتقه مظلومية شعب بأكمله؟ أم أنه ضرب من ضروب تجسير الهوة بين حلقات السرد؟ أم أنها حقا منطقة رمادية في شخصية شهاب الدين؟
كما أن النص، باعتباره رواية تاريخية تمنح التاريخَ متنفسا من بين ثناياها، لم تكن لها تلك الواقعية التي ينبغي أن يستشعرها القارئ، إذ في كثير من الأحيان نجد ترجيعا وصدى لجملة من الأفكار السياسية المعاصرة كاستعمال الدين للوصول إلى الحكم،" إنها طريقة لاستعمال الدين من أجل أهداف سياسية" ص 175، إلى درجة أنه انفلتَ من الكاتب العنصر الأهم في الرواية، عموم الرواية، ألا وهو عنصر الإيهام، إذ طفق يتهافت، خاصة في الصفحات الأخيرة التي بدت أنها بعيدة تماما عن تيمة النص، ليقول ما أخفق في قوله وهو يزاول عملية السرد.
كما أسلفنا الذكر. لقد كانت الرواية تنهي إلينا تفاصيل عن فترة حكم المنصور الذهبي وشقاق أبنائه حول الحكم بعد مماته. الشيء الذي يوحي لنا أن مادة الكاتب في هذا الصدد كانت شحيحة للغاية، فهو لم يتعرض لنكبات الموريسكيين إلا لماما، بعدما وخز فضول القارئ بشوكة الشوق إلى معرفة مسلسل المجازر الذي ألفه رجال الدين المسيح وأخرجته محاكم التفتيش أبشع إخراج، فها هي إحدى الحلقات الأكثر رحمة وشفقة " أججت النار، ووضعت ....قبعات صفراء على رؤوس المحكوم عليهم وألقيا في النار" ص27. بعد هذا تواصل السرد ينتهز الفرصة تلو الفرصة ليبث حسراته على ما آل إليه الموريسكيون، فها هو رودييس ـ احد الوريسكيين المهجرين ـ يقول لشهاب الدين: " لأنك تحمل جرحنا وستعرف كيف تحافظ على الجذوة" ص 182/183. هكذا كلما أوغلنا في قراءة النص أحسسنا أن تيمته قد استُنفدتْ ولم يبق منها إلا شظايا بكائيات مدسوسة في خبايا النص هنا وهناك. كذلك هو الشأن عندما يحاول رودييس أن يبرر مزاولته لعملية القرصنة فيقول: " إنه الجهاد البحري ضد الكفار وأيضا للإنتقام للموريسكيين الذين طردوا من ديارهم" ص190، لم يكن هذا إلا تحويرا يخدم تيمة النص بشكل ملحوظ ومفضوح ومحاولة لحشو الرواية بالنص الموازي ولو عنوة وقسرا. ولكن ما تلبث الرواية حتى تكاشفنا بالحقيقة الكامنة وراء لجوء رودييس إلى القرصنة حين يؤبنه شهاب الدين في يوم مماته: "أما أخطاؤه فهي وليدة الزمن الذي اضطرب فيه" ص196
إن أزمة الإنسان الموريسكي في أوجها ـ في نطاق الرواية ـ ليستْ إلا ذكرى للبطل شهاب الدين. أما الذين عاشوا اللحظة بمنتهى القسوة إبان انبثاقها فلا شك كانت أكثر دموية وبربرية. فالرواية لم تقدم لنا تقصيا للمأساة، بل مجدر شهادة لا نجد فيها سوى العزاء. وأظن أن كاتبنا قد زل قلمه عندما أقرّ بهذه الحقيقة على لسان الراوي: " وأشعر بواجب الإدلاء بالشهادة حول مأساتهم، مثلما أجد في هذا عزاء لي" ص200
لكنها تظل رواية تُحسب لصاحبها، فالرواية من حيث معالجتها للتاريخ سيكون لها ما بعدها على الرغم من المؤاخذات التي أشرنا إليها آنفا.أما الرسالة المتوخاة من ورائها فقد استطاعت أن تقرع باب التاريخ المسكوت عنه ولو بهدوء قاتل.. فعلى أقل تقدير، استطاع الكاتب أن يضع أصبعه على الجرح الغائر في جسد الأمة، ألا وهو ضياع الأندلس والذي جر في ذيوله نكسة الموريسكيين التي تمخضت عن حيرتهم على مدى النكبات، فها هو ذا شهاب الدين يبث شكواه في الصفحة ما قبل الأخيرة: " كنا بالنسبة للقشتاليين مسيحيين سيئين، ونحن مسلمون سيئون بالنسبة لبعض المورو، ولم يتح لنا، في الحالتين، أن نعبر عن أنفسنا" ص218، إنهم لم يجدوا بساطا يثبتون عليه وجودهم إلا بساط هذه الصفحات، والمشوار مازال طويلا للكتابة في هذه المادة، مع بقاء الفضل للدكتور حسن أوريد الذي أثبت جاهزية الرواية لكي تملأ الفراغ الذي خلفه التاريخ.
أرسل تعليقك