القاهرة ـ وكالات
'سمراويت'، رواية للكاتب والصحافي الإرتري حجي جابر، صدرت منذ بضعة أشهرعن المركز الثقافي العربي و نالت جائزة الشارقة للإبداع العربي للسنة الماضية. الرواية فيض من الذكريات يغيب عنها التدرج الزمني المنطقي للأحداث فتلتقي النهاية بالبداية وتبدأ القصة من الوسط، أي من قلب أسمرا النابض التي سينطلق منها بطل القصة، عمر، بحثا عن الذات والوطن. بأسلوب بسيط وعميق في ان واحد تتناول 'سمراويت' في ثنايا سردها مأساة شتات الذات المغتربة، وجدلية الإنتماء للوطن المضيف الطارد والوطن الأم الغائب.
لكن ما يميز الرواية قبل كل شيء هوحبكتها التي تتناوب فيها ذاكرتي السعودية وإرتريا على نحو يعكس ثنائية الزمان والمكان، مما يجعل القاريء يتنقل بإستمراربين ضفتي البحر الأحمروهو مشتاق لمعرفة كل تفاصيل الحكاية والنهاية. فيصبح زمن القراءة جزءً من تجربة الإزدواجية حتى الإنشطار ويعيش القارئ والراوي معاً أفراح وأقراح الوطنين المستعصيين وهما يتنقلان بين عالمين يتشابهان في قدمهما وصعوبة الوصول إليهما وإستعصاء الانتماء إليهما.
رحلة البحث عن الإكتمال
'في السعودية لم أعش سعوديا خالصا، ولا إرتريا خالصا. كنت شيئا بينهما'. شيئا يملك نصف انتماء، ونصف حنين، ونصف وطنية .. ونصف انتباه (...) أنصاف لم يكن بمقدورها أن تنمو لتكتمل، ولم يتح لها أن تجد ما يماثلها انتماء و حنينا ووطنية وانتباها'.
بعد ثلاثين عاماً يدرك عمرأنه 'يعيش بنصف قلب ونصف رئـة ونصف عقل'. إنها الذات الضائعة التي يعرفها كل من حُكم عليه أن يولد غريبا في وطن ما ويعيش غريبا عن وطن مكتوب على جبينه و على جواز سفره. هذه هي مأساة عمر، ذلك الشاب الذي وُلد وعاش في جدة، فتنفس هواءها، وتشبع بلهجتها، وشجع نواديها ليصطدم بأجنبيته فيها وهو لم يتجاوز السن السابعة حين أرهقه البحث دون جدوى عن مدرسة تحتضنه.
يفشل الصبي في التمدرس لأنه 'أجنبي' ولأن النسبة المخصصة للأجانب محدودة فيضطر للإلتحاق بمدرسة ليلية لمحو الأمية. لكن الطفل لايستوعب أجنبيته، أو بالأحرى تجنِيبه، ويمضي مصّرا على أن يشبه رفاقه ولو إضطره الأمر الى الكذب كل يوم عند الظهيرة حين يلعب دور التلميذ العائد من المدرسة فيلقي بحقيبته الفارغة ويخرج للعب في الحي مثل أقرانه. ثم يذهب كل مساء متسللا إلى دروس محو الأمية، محملا بحقيبته الثقيلة، ومثقلا بأكاذيب ستستمر لسنتين قبل أن يتسنى له الإلتحاق بالمدرسة.
يكبر عمر و يكبر معه وعيه بأجنبيته حين يتعذر عليه الحصول على منحة لولوج الجامعة وحين يمارس مهنة الصحافة ويطّلع على اراء سعوديين يصبّون نقمتهم على الأجنبي 'الجربوع' المتهم بكل أفات المجتمع من البطالة الى التلوث. عمر يحمِل مأساة جيل عاش في مملكةٍ لا يملك فيها شبرا، وطنٍ مضيف وطارد يُبقي أبناءه في خانة الأجانب.
الوطن الذي لم تكتمل ملامحه بعد
يمر الزمان ويتمادى وطن الولادة في طرد عمر وتتحول إرتريا الى وطن حلم إلى أن يقررالشاب أن يحمل نصفيه، وضياعه، ووجهه المشبع بملامح الغربة إلى الضفة الأخرى من البحر الأحمر حيث الوطن الأم في إنتظاره وأشياء أخرى:
'كثيرة هي الأشياء التي ينبغي البحث عنها في إرتريا، أولها البحث عني، فبمجرد أن يتوقف الشتات، ستبدأ ملامحي في التشكل والاكتمال. سأبدأ في التعرف إليّ، سأتلمس وجهي، أختبر صوتي للمرة الأولى، أصرخ حتى أصاب بالصمم، وحده هذا الفعل، سيزيل أعواما من الغربة بيني وبين صوتي، سيهدم جدران الهمس قائمة.'
مع وصول عمر إلى العاصمة أسمرا تبدأ رحلة البحث عن الإكتمال لتتزامن مع قصة حب تنشأ من أول لقاء له مع سمراويت، فتاة مسيحية مقيمة في باريس من أب إرتري وأم لبنانية. لقاء شابين إرتريين تفرقهما دياناتهما ومحيطهما الإجتماعي و تجمعهما عروبتهما وحبهما لكل شبر من وطن عاشا بعيدان عنه ويرغبان في إكتشاف معالمه. ينمو حبهما بسرعة شديدة رغم حرية مقيدة بتصاريح الدخول و صعوبة التجول في بلد حبيس الماضي تبلغ فيه العزلة قمّتها حين يكتشف عمر أنه لا يستطيع الحصول على شريحة هاتف لأنه مجرد زائر وأنه لايُسمح للمقيمين أن يملكوا أكثر من شريحة واحدة .
يصطحب عمر وسمراويت في رحلة الصيف والوطن 'سعيد' ابن الجارة في جدة الذي رفض الهروب مع أهله الى السودان مفضلا المكوث والقتال من أجل الثورة التي أفقدته ذراعه اليمنى دون أن تفقده إيمانه بالوطن. ينطلق الثلاثة نحو مدينة مصوع التي ينحدر منها أهل عمر الذي يبحث بشغف عن بيتهم في حي ختمية:
'بلغنا ختمية. كان حيّا منهكا، بدت بيوته وقد أعياها الزمن وغياب أصحابها، تداعى معظم البناء وحلّت محله صفائح معدنية صدئة غمرتها الثقوب، تستر جوانب وتعجز عن ستر أخرى'.
إختلاط الفرح والحزن في وجدان عمر وهو يقترب من ذاته بوقوفه على أطلال مسقط رأس والديه ُيفقده توازنه ويدخله في حالة نصف إنتباه تحرك فيه إحساسا قويا بالشجن. إحساس مربك لن يفارقه في رحلته إلى رأس مدر وقرقسم ودهلك قبل أن يعود إلى أسمرا ويستيقظ على خيبة إرتمائه في أحضان الوطن. يجلس عمركالمعتاد في مقهى 'مودرنا' ينتظرعودة سمراويت لتخبره عن قرار أهلها بشأن رغبته في الزواج منها والإكتمال فيها وبها. فتشاء النهاية أن يرفض والدي سمراويت هذا الإرتباط وتنهار أحلام عمر.
هكذا تنتهي رحلة إكتمال الأنصاف ولا يبقى إلاّ عمرالمسلم، الخجول، المحافظ،، الحالم، يُعزّي نفسه المتشظية وقد فشلت في محاولة الإلتحام بذلك النصف العربي، المسيحي، المتحرر، الصاخب، الجريء، المُترف، وصاحب القرار. لكن ما يجعل بُعد هذه الرواية أكثر عمقا من قصة حب يائسة هو كون سمراويت أكثر من إمرأة. إنها الوطن الأم الذي يقول فيه الراوي: 'إرتريا التي قاتلنا من أجلها لم تكتمل ملامحها'. سمراويت، العروس المستحيل، تجسد ذلك الوطن الذي لم تكتمل ملامح وجهه بعد. فلن يعرف القاريء شيئا عن وجه سمراويت الجميلة التي 'ضاعت بعض ملامحها خلف خصلات شعرها المنسدلة'، إذ يكتفي الراوي بالحديث عن سمرتها وابتسامتها ويتجنب الخوض في تفاصيل وجهها.
عروبة إرتريا: وطن فوق الأوطان
ليست سمراويت وحدها من تُحجَب ملامحها عن القاريء بل إن وجوه كل من أحمد ومحمود وسعيد والأم والجدة و النادلة وغيرها من شخصيات هذه الرواية تظل مغيًّبة أيضا رغم كونها تنبض بالحياة. هكذا يكون قلم حجي جابر قد نحا منحى ريشة الإنطباعيين السريعة التي بالكاد توضح ما ترسم فيبدو الإطارالعام واضحاً وتضيع التفاصيل كما تضيع ملامح إرتريا إلا عروبة هذا البلد.
في هذه الرواية التي تستحيل فيها الأوطان وتتلاشى فيها ملامح الأشياء وتحتدم فيها الصراعات الداخلية تبقى الهوية العربية جوهرا ثابتا وسط كل المتغيرات ووطنا فوق كل الأوطان. عروبة الرواية محورية وتفرض نفسها على كل المستويات بدءً بلغتها البليغة التي تنهل من الشعر والنثر والصحافة دون أن تغلّب جنسا على الآخر أو أن تبتعد عن التراث المجازي العربي المعروف بكثافته وخياله ووجدانه.
يٌدخل حجي جابر القارىء في عروبة إرتريا مثلما يقود بطليه عمر وسمراويت إلى قصة حب عبر إعجابهما المتبادل برواية محمّد ناود 'رحلة الشتاء'، أول رواية إرترية مكتوبة باللغة العربية.
'عروبتنا في إرتريا هي مصيبتنا، ولكننا قابلون بها ولا نرضى عنها بديلا. نعتقد أن مسألة العروبة في إرتريا هي الأساس لأنه لولاها لما كانت حاجة للثورة أصلا'، يقول أحد شخصيات هذه الرواية وهو يستحضر ذاكرة وطنه دون أن يغرق في الماضوية.
بالفعل لا يحذو القاريء شك بأن عروبة 'سمراويت' هي الذات والنواة والجوهروالأساس. تتبخر الأوطان وتبقى العروبة وطنا للراوي والرواية. فالمكان لا يعني شيئا للكاتب الذي يحمل وطنه بين طيات الحرف والخيال والذاكرة .
أرسل تعليقك