بكين ـ وكالات
مؤشرات حمراء بدأت تظهر على قطاع العقار الصيني الذي ظل ينمو بلا هوادة طيلة العقد الأخير، وهي مؤشرات من شأنها التأثير السلبي ليس فقط على قطاع العقار الصيني وإنما على كل نواحي الاقتصاد الصيني واقتصاد الدول الآسيوية المرتبطة بالصين، وأيضا على محافظ الاستثمارات الأجنبية المتوجهة إلى شرق آسيا. ويبدو أن نشاط البيع من على الخريطة توقف تماما بعد أن رصدت بعض وسائل الإعلام الأجنبية وجود الكثير من المشروعات الصينية التي لم تستطع بيع أي من وحداتها المعروضة للبيع.
وفي بحث أجرته صحيفة «فايننشيال تايمز» في مدينة ساحلية صينية صغيرة اسمها «وينزهو» وجدت أن مشروعا فاخرا، اسمه لاغران ميسون، يقع على ضفاف نهر ملوث، ومكون من 198 شقة يباع المتر الواحد فيها بنحو 11 ألف دولار، لم تبع منه الشركة سوى شقق معدودة. واعترف أحد العاملين في تسويق المشروع دون أن يفصح عن اسمه أن فريق البيع لديه إرشادات للقول للزبائن إن كل شيء على ما يرام، ولكنه يعترف أن أحدا لا يشتري العقارات في الصين حاليا، لا في مشروع غران ميسون ولا في المشاريع العقارية الأخرى المنتشرة في أنحاء المدينة. وأضاف البحث أن سعر الشقة التي تبلغ مساحتها 150 مترا تستغرق العامل الصيني الذي يحصل على أجر متوسط مدة 350 عاما لكي يجمع ثمنها. أما الفئة التي تستطيع الشراء فهي تلتزم الحذر وتنتظر تراجع الأسعار قبل اتخاذ القرار.
ويتكرر هذا المشهد من العاصمة بيجين إلى المدن الصينية الرئيسية بعد سنوات طويلة من جهود البناء والتعمير في مشروعات جديدة تساهم فيها الحكومات المحلية والممولون من أجل الاستفادة من الطلب المتصاعد على العقار. وقد حاولت الحكومة المركزية في السنوات الأخيرة تهدئة السوق بالكثير من الإجراءات المضادة للمضاربة بما في ذلك الحد من التحويلات المالية لغرض المضاربة على العقار. ويبدو أن هذه الجهود أثمرت عن تحول مفاجئ في سوق العقار الصيني، مع مخاوف من انفجار الفقاعة بانعكاسات كارثية على اقتصاد منطقة شرق آسيا بمجملها.
وتدخل السوق الآن مرحلة الحسومات التي يحاول مطورو العقار من خلالها جذب المستثمر المتردد بخفض الأسعار له. ويؤكد اقتصادي صيني مستقل اسمه أندي زو أن مستويات الأسعار في الصين حاليا لا يمكن الاستمرار عليها وأنها مرشحة للتراجع على مرحلتين خلال السنوات الثلاث المقبلة بنسبة قد تصل إلى 50%.
ويكشف تقرير من بنك كريديه سويس عن حجم الأزمة بالقول: إن موجة التراجع وصلت في التوقيت نفسه الذي تصل فيه إلى الأسواق عشرات المشروعات التي تدخل مرحلة التشطيب، خصوصا في المدن الساحلية الصغيرة التي استفادت أكثر من غيرها من مرحلة الفقاعة.
ويبلغ عدد شركات تطوير العقار في الصين نحو 80 ألف شركة، تملك فيما بينها من الأراضي ما يكفي لبناء نحو مائة مليون شقة. ومع إضافة العقارات الشاغرة الآن إلى هذا المجموع، يستنتج البنك السويسري أن الصين تملك بالفعل ما يسد حاجاتها العقارية لمدة 20 عاما مقبلة.
ويعتمد الاقتصاد الصيني بنسبة كبيرة على قطاع العقار فيه، حيث يمثل قطاع البناء نحو 13% من إجمالي الناتج المحلي. كما يجذب القطاع ربع إجمالي الاستثمارات في الصين. وتعتمد الكثير من الصناعات الصينية على قطاع العقار حيث يبيع قطاع الصلب الصيني 40% من إنتاجه لقطاع العقار المحلي. وتعد الصين أكبر منتج للصلب في العالم ويوازي إنتاجها إنتاج الدول العشر التي تليها على القائمة مجتمعة. ويمثل القطاع مدخلا حيويا للكثير من الصناعات الصينية الأخرى وينعكس القطاع مباشرة على أداء الاقتصاد الصيني ونسبة نموه السنوي.
ويمكن القول: إن القطاع له تأثيرات على الاقتصاد العالمي في وقت يعاني منه هذا الاقتصاد من الكثير من الأزمات. وقد ينعكس تراجع قطاع العقار الصيني سلبيا على اقتصادات الدول المصدرة للمواد الخام والسلع التي شهدت انتعاشا في الأسعار في السنوات الأخيرة بفضل ارتفاع الطلب الصيني على منتجاتها.
وفي لندن يقول الخبير مارك ويليامز من شركة الأبحاث «كابيتال ايكونوميكس» إن النموذج الصيني المبني على البناء كعنصر أساسي في النمو بدأ يفقد فاعليته في الشهور الأخيرة. وعبر عن اعتقاده أن المستثمرين لم يدخلوا في حساباتهم بعد انعكاس هذا الوضع على استثماراتهم، ليس فقط في الصين وإنما في بعض الدول المرتبطة بها اقتصادية مثل أستراليا والبرازيل.
وهناك بعض الانعكاسات الاجتماعية لقطاع العقار داخل الصين نفسها حيث ارتفعت الأسعار إلى معدلات فوق طاقة الأغلبية الساحقة من الصينيين الذين لا يمتلكون عقارات بالفعل. ودفع هذا الوضع الحكومة الصينية إلى فرض قيود على شركات العقار والمستثمرين فيه تشمل فرض مبالغ مقدم عالية قبل الحصول على قروض عقارية ومنع ملكية أكثر من شقة واحدة في كل مدينة صينية. وبدأت هذه الإجراءات تأتي مفعولها في الشهور الأخيرة.
وتشير الإحصاءات الصينية الرسمية، التي يعتقد الخبراء أنها أقل من الواقع، إلى أن أسعار العقارات في الصين تضاعفت خلال السنوات الأربع الأخيرة وأنها زادت بنسبة 150% في المدن الكبرى والعاصمة. ويبلغ سعر الشقة حاليا ما يوازي 10 أضعاف متوسط أجر العامل سنويا، يرتفع إلى نحو 30 ضعفا في العاصمة بيكين.
وبالمقارنة مع الدول الأخرى، تبدو العقارات الصينية أكثر من متضخمة. ففي الولايات المتحدة وصلت العقارات إلى ذروة فقاعتها عند نسبة 5.1 ضعف متوسط الدخل السنوي، وفي لاس فيغاس وصلت إلى 5.6 ضعف الدخل السنوي. أما في بريطانيا فقد بلغت النسبة أقصاها في عام 2007 بنحو 5.8 ضعف الدخل السنوي.
ويؤكد مراقبون للاقتصاد الصيني أن السياسة الحكومية ساهمت إلى حد ما في تكوين الفقاعة العقارية. فكل الأراضي الصينية تملكها الدولة والحكومات المحلية. وهذا يعني أنها تحتكر إمدادات أراضي العقار ويمكنها أن تقرر كيف تستخدم الأراضي وبأي مساحة. وخلال السنوات العشر الأخيرة كانت الحكومات المحلية تعاني عجزا مزمنا في ميزانياتها، ولكنها كانت ممنوعة من إعلان هذا العجز. وكان الحل الوحيد هو بيع الأراضي لشركات تطوير العقار. وفي الصين لا تباع الملكية الخالصة وإنما حق الانتفاع لفترة تصل إلى 70 عاما. وتعتمد الحكومات المحلية بنسبة 40% على بيع الأراضي لسد عجز ميزانياتها.
ويشجع نظام الضرائب الصيني أيضا على المضاربة العقارية حيث لا توجد مجالات أخرى متاحة لاستثمار الأثرياء في الصين بينما البنوك لا تمنح فوائد على الإيداعات تغطي نسبة التضخم. وباستثناء بعض المدن الرئيسية لا تفرض الحكومة ضرائب على صفقات تبادل العقار. ولذلك فإن الأسعار العالية السائدة في الصين الآن ليست بسبب ندرة الأراضي وإنما بسبب المضاربة.
ويعتقد البروفيسور سيان رونغ من أكاديمية الصين للعلوم الاجتماعية أن فقاعة العقار الصينية هي الأكبر في التاريخ، ولكن ضرائب العقارات في الصين ما زالت متدنية وأقل منها في زيمبابوي. ولا تحاول الحكومة الصينية مكافحة المضاربة العقارية فعليا لأنها تعتمد على ارتفاع الأسعار في تسجيل نسب نمو اقتصادي أعلى.
ولكن حتى القطاع المالي الصيني الذي لم يتأثر بالأزمة المالية العالمية يمكن أن يتراجع بفعل أي أزمة عقارية محلية. وتقول مصادر حكومية إن درجة تعرض القطاع المالي إلى العقار من حيث الاستثمار والقروض العقارية لا يزيد عن 20% في الصين، ولكن النسبة الحقيقية قد تكون أعلى.
وتبدو مؤشرات التراجع واضحة حيث هبطت أسعار العقار في مدينة وينزهو بنسبة 5.2% في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي مقارنة بما كانت عليه قبل عام واحد وبنسبة 4.6% مقارنة بالشهر الأسبق. ولم تتأرجح الأسعار بالنسب نفسها في بقية أنحاء الصين ولكن معدلات إتمام الصفقات هبطت بنسب كبيرة بلغت 11.6% في المتوسط وبنسبة أكبر بلغت 39% في مدن الصين الكبرى. كما تراجع معدل شراء الأراضي لأن شركات تطوير العقار أوقفت العمل في المشروعات الجديدة حتى يتم تسويق المخزون المعروض في السوق.
وحتى الآن يبدو أن الحكومة الصينية مصممة على المضي في إجراءات الحد من انتشار الفقاعة العقارية وترفض تخفيف القيود على شراء أكثر من عقار واحد في أي مدينة صينية أو تقديم المزيد من التسهيلات الائتمانية. وكشفت الحكومة الصينية هذا العام عن مشروع هائل لبناء 36 مليون شقة لمحدودي الدخل خلال فترة 3 سنوات. وهي تكلف الحكومات المحلية وشركات العقار بتنفيذ هذا المشروع، على أمل أن يعوض المشروع عن التراجع الواقع في قطاع العقارات التجاري.
ولكن هناك معارضة من الحكومات المحلية التي لا تريد أن تتخلى عن الأراضي المتاحة لديها في مشروعات لا تدر عليها ربحا وفيرا مثل البيع لشركات العقار التجاري. وتعترض شركات العقار أيضا على المشاركة في المشروع لأن هوامش الربح فيه تكاد تكون معدومة. ويقول خبير عقاري محلي إن نوعية هذه العقارات رديئة كما أنها تقع في مناطق سيئة، فالحكومات المحلية ترفض التخلي عن الأراضي الثمينة في المواقع الجيدة لمثل هذه المشروعات الاجتماعية المدعمة. وتعتقد بعض مصادر السوق أن الحكومة الصينية لن تسمح بانهيار قطاع العقار المحلي وأنها سوف تهب لنجدته إذا سقطت الأسعار. ويمكنها تحقيق هذا بإلغاء القيود المفروضة على الاستثمار العقاري حاليا ودفع المزيد من الائتمان نحو القطاع. ولكن خبراء يحذرون من أن مثل هذه الخطوات من شأنها أن تعيد الفقاعة العقارية إلى ما كانت عليه قبل شهور، وهذا يعني احتمالات سقوط أكثر دويا في المستقبل. ويقول تاو ران أستاذ الاقتصاد في جامعة رينمن الصينية إن الحكومة الصينية في موقف حرج، لأنها إذا أدخلت تسهيلات على القطاع العقاري سوف يزداد حجم الفقاعة العقارية وإذا التزمت بالتشدد الحالي فإن الفقاعة قد تنفجر وينعكس ذلك سلبا على الاقتصاد.
أما بالنسبة للمستثمر الأجنبي فقد عمدت الحكومة الصينية إلى إحباط عمليات المضاربة التي كانت تتم بالشراء ثم البيع السريع، وقدمت عدة إجراءات ضريبية من شأنها تعقيد مثل هذه العمليات مما أخرج الكثير من المضاربين من السوق. ولكن حتى في أحوال الاستثمار العادية للمدى البعيد تتضارب أحيانا القوانين العامة مع القوانين المحلية.
* شراء العقار في الصين مجرد «حق انتفاع» لمدة 70 عاما
* لا توجد هناك نوايا في الوقت الحاضر لدى المستثمرين الأجانب لدخول مجال الاستثمار في شراء العقار الصيني.. ولكن في حالات دخول السوق، تبدأ الخطوات بالعثور على العقار المناسب. حيث يتم الاتفاق على السعر وكتابة تعاقد مبدئي، ويدفع المشتري نسبة 10% من الثمن. وتجري العملية القانونية بعد ذلك حتى يتم الاتفاق على تاريخ نقل الملكية الذي تتم فيه تسوية كامل الثمن المتفق عليه. وتدفع في الوقت نفسه كافة الضرائب المستحقة والرسوم التي قد تصل إلى نسبة 10% من الثمن. ولكن النسبة تتغير وفقا لموقع العقار ونوعه والثمن المدفوع فيه.
مما يذكر أن الملكية العقارية في الصين ليست مطلقة وإنما تعتمد على أسلوب حق الانتفاع أو الإيجار طويل الأجل. وفي القطاع السكني تصل مدة التعاقد إلى نحو 70 عاما، وتقل في التعاقدات التجارية إلى 50 عاما، وفي المصانع إلى 40 عاما. ولأن هذا النظام حديث النشأة لا يعرف أحد يقينا ماذا سيحدث بعد هذه الفترات، وهل تتجدد التعاقدات تلقائيا وبأي شروط؟ وتشير الحكومة إلى أنها تدرس تجديد هذه التعاقدات بعد نهاية مداها، بنظام يشبه فئات الملكية في أوروبا.
ويدخل معظم المستثمرين الأجانب السوق الصينية بحثا عن الفرص في قطاع العقار التجاري مثل المكاتب والمنافذ التجارية ذات العوائد العالية. ولكن العقار السكني لم يعد يجذب الاستثمار الأجنبي إلا بغرض التأجير. وتمثل الشقق المفروشة التي تديرها شركات، بالإضافة إلى غرف الفنادق، من أفضل الفرص الاستثمارية العقارية في القطاع السكني الصيني حاليا. ويرتفع الطلب باطراد في هذا القطاع خصوصا في المدن الصينية الرئيسية، وفي الأحياء القريبة من مراكز المال ووسط المدن حيث فرص الإقامة والتسوق.
وفي التحليل الأخير قد يكون من الأفضل للحكومة الصينية أن تضمن تراجعا منظما لقطاع العقار الصيني بحيث تنتهي آثار الفقاعة، وذلك قبل أن تبدأ في تخفيف قيود المضاربة. فقطاع العقار الصيني حديث العهد ولم يشهد الصينيون سوى انتعاش الأسواق على نحو سنوي. وقد حان الوقت لتجربة طعم الكساد العقاري لفترة.
أرسل تعليقك