المنامة - بنا
قد يكون لافتا أن يجيء احتفال هذا العام بالميثاق الوطني وسط هذه التطورات التي تشهدها المملكة، حيث إعادة بعث الروح الوطنية وإحياء ثوابت الهوية والاحتفاء بأجهزة ومؤسسات الدولة الرائدة التي تستحق الإشادة والثناء لعظم دورها.
لكن الأكثر أهمية في احتفال هذا العام بذكرى الميثاق هو أنه يجيء ليتوج عملية بناء النظام الدستوري والقانوني للدولة، ذلك النظام الذي شهد عدة قفزات نوعية في غضون فترة قصيرة نسبيا لم تتجاوز عدة سنوات في وقت استغرقت عملية البناء تلك في الدول الديمقراطية العقود وربما مئات السنين..
وها هي المملكة مع الاحتفال مجددا بذكرى إقرار الميثاق مقبلة على قفزات نوعية أخرى لا تقل أهمية في تعزيز أركان هذا البناء الراسخ لنظامها الدستوري، قفزات تعكس في مجملها مدى الحيوية التي تتمتع بها الساحة الوطنية، وتؤكد أن المملكة لم ولن تدخر وسعا لترسيخ أركان ودعائم ومؤسسات الدولة القوية ذات الشأن.
ويبدو مهما هنا التأكيد على أن السنوات الماضية من عمر الميثاق الوطني كرست من مقومات الحكم الرشيد في المملكة باعتباره النموذج الأمثل الذي تعارفت عليه الشعوب والدول في ديمقراطية الحكم، وكما أقرته المواثيق العربية والدولية المختلفة، وهو بالإضافة إلى أنه نموذج منشود تتطلع إليه الشعوب الطامحة، وحققت البحرين نتائج جوهرية على مؤشره، فإنه أداة جيدة ليس فقط لتقويم أداء الدولة وأجهزتها ومؤسساتها المختلفة خلال السنوات القليلة الماضية، وإنما باعتباره آلية مهمة لتفنيد المغالطات والمزاعم التي تحاول النيل من سمعة البحرين أو التشكيك في منجزاتها.
بداية، لابد من الإشارة إلى أن مفهوم الحكم الرشيد من المفاهيم السياسية الحديثة التي تم تداولها خلال الفترة الأخيرة، وهو مفهوم يرتبط بالعديد من المصطلحات كالديمقراطية والتنمية المستدامة وغيرها، وقد بات أحد أهم الأدوات التي يمكن أن يقاس بها فعالية منظومة الحكم ككل في أية دولة، ومدى اتساع خيارات الناس المتاحة وفرصهم في الصعود والتطور، وهو على هذا ـ كما تشير تعريفات البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي ـ يعد أساسا جيدا لفهم طريقة عمل المؤسسات المختلفة في الدولة، الرسمية منها وغير الرسمية، ومدى قدرتها على إنجاز الفروض المطلوبة منها، خاصة على صعيد توفير وحماية حريات الناس الاقتصادية والاجتماعية قبل السياسية.
والمدقق في مسار وحركة التطور الشامل التي شهدتها البحرين خلال العقد الماضي، خاصة عقب إقرار الميثاق الوطني الذي حاز على تأييد أغلبية المستفتيين بنسبة 98.4% عام 2001، يستطيع أن يخلص إلى أن البحرين أضحت إحدى الدول الصغيرة الرائدة في المنطقة والعالم في تجسيد نموذج الحكم الرشيد سواء لكل أطرافه أو بكل معاييره المعروفة من مشاركة وشفافية ومساءلة وغيرها، وهو ما يمكن قراءاته بالنظر لمجمل التحولات التي اختبرتها المملكة خلال السنوات الأخيرة.
التطور المؤسسي والوظيفي للدولة
يرتبط نجاح أية دولة بنجاحها في إيجاد المؤسسات الضرورية القادرة على إدارة الموارد العامة بالكفاءة المطلوبة من جهة وتوظيف قدرات الناس أو ما يعرف بالموارد البشرية بالشكل الأمثل من جهة ثانية، فضلا عن استيعاب احتياجاتهم والوفاء بها قدر المستطاع من جهة ثالثة وأخيرة.
وقد نجحت البحرين في تحقيق هذا النجاح على أكثر من مستوى، ولم تدخر أي جهد في استكمال ما نص عليه الميثاق الوطني عند استشرافه للمستقبل بالدعوة إلى ضرورة "تفعيل الأفكار السياسية الواردة فيه"، والتي تطلبت إدخال جملة من الإصلاحات الدستورية التي كانت ولا شك أشبه بلبنات ضروريات في بنيان صرح هذه الدولة المتين..
وتكتسب هذه اللبنات أهميتها من عدة اعتبارات، منها: أنها جاءت متدرجة شملت كافة القطاعات، ووفق خط زمني يتناسب مع التطور المرحلي الذي مرت به الدولة وعاشته، وأنها أتت لتستكمل ما شرع فيه الآباء الأوائل المؤسسون لهذه الدولة ممن وضعوا مقومات الإدارة الحديثة بها وحتى اللحظة، كما أنها لم تتوقف عند سقف معين، بل توالت الخطوات بعد ذلك لإنشاء عدد أكبر من المؤسسات والدوائر ودعم أركانها واستكمال بنيانها، وهي المؤسسات التي يمكن وصفها باعتبارها رائدة بالمقارنة بالدول المجاورة، واستطاعت القيام بالأعباء التي أُنيطت بها على أكمل وجه، خاصة ناحية تطوير البنيان التنظيمي للدولة، وتحديد المصلحة العليا للمجتمع، والعمل من أجل تجسيدها على أرض الواقع.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التعديلات الدستورية الأخيرة التي أقرها المجلس الوطني عام 2013، وكرست من سلطة الدولة ودور مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية في بنية المجتمع، ما هي إلا خطوة ضمن خطوات عديدة اتخذتها القيادة الرشيدة طوال التاريخ المجيد للمملكة لتعزيز أطر وأنظمة الدولة الدستورية والقانونية ومن ثم دعم دورها الوظيفي في خدمة أبناء هذا الوطن الكريم وحماية مصالحهم، بداية من صدور أول قانون مكتوب في البحرين عام 1920 ومرورا بإصدار أول دستور للدولة عام 1973 الذي أقر إنشاء المجلس الوطني وأجرى أول انتخابات تشريعية، وحتى إنشاء مجلس الشورى عام 1992 ثم إقرار الميثاق الوطني في فبراير 2001 وانتهاء بالطبع بإقرار تعديلات عام 2002 الدستورية، والتي تلاها جهود جبارة لتحقيق الحكم الصالح بالمشاركة مع المجتمع ومؤسساته..
وحتى يومنا هذا لم تبخل القيادة الرشيدة بتوجيهات العاهل المفدى الملك حمد بن عيسى وبرعاية كريمة من سمو رئيس الوزراء الأمير خليفة بن سلمان وسمو ولي العهد الأمين الأمير سلمان بن حمد بأي جهد يمكن بذله لتوفير الظروف الملائمة التي تسمح بالانطلاق المؤسسي القادر على أداء الوظائف الحيوية للدولة وبشكل متواصل وبما يلبي حاجات المجتمع وتطلعاته في بيئة آمنة تتوفر بها المقومات اللازمة للعيش الكريم.
مجتمع فاعل قادر على المشاركة
لا يمكن للنظام المؤسسي للدولة أن يقوم ويتفاعل دون مجتمع مدني يمثل عناصره ويعبر عن مفرداته ويكتل قواه وفاعليه ويحركها، كما لا يمكن إرساء البنيان الدستوري للدولة دون صياغة علاقاته وشبكة مصالحه ومراجعيه بالوسط المجتمعي الذي يحيط به ويعمل فيه، فالمجتمع المدني هو الركن الركين للنظام المؤسسي للدولة، وبه تكتمل حيويته وديناميته.
وفي الحقيقة، لم يغفل قادة هذه البلاد ومنذ القدم أهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به المجتمع لتحقيق الآمال المنشودة، وعملوا بكل ما أوتوا من قوة لتوفير الإطار الملائم لهم كي يتفاعلوا ويشاركوا في الخطط والبرامج الطموحة الموضوعة للارتقاء بهذا الوطن والصعود به في مصاف الدول الناهضة، ويمكن تلمس هذا المعنى بالنظر إلى ما يمكن اعتباره المشاركة الشعبية المبكرة في تاريخ البحرين وربما إمارات الخليج العربي بأسره، وذلك خلال أول انتخابات بلدية جرت في البلاد عام 1924 وشاركت فيها المرأة في سابقة هي الأولى من نوعها في المنطقة وربما في أكثر دول العالم ديمقراطية التي لم تعط حق الانتخاب للمرأة إلا مؤخرا.
ولم تقف المشاركة الشعبية عند هذا الحد وكفى، لكنها تطورت مع المناسبات التي مرت بها البحرين، وساهمت إلى حد كبير في بلورة مجتمع مدني واع بدوره، ولعل أبرزها انتخاب الجمعية التأسيسية التي وضعت أول دستور للبلاد في ديسمبر 1972، وهو ما تجدد مع بدء انتخاب أعضاء أول مجلس وطني بحريني في ديسمبر 1973، الأمر ذاته في الاستفتاء على الميثاق، كما أُشير سلفا، ثم في انتخابات مجلس النواب الأول في أكتوبر 2002، والتي استمرت بعد ذلك بوتيرة منتظمة إلى يومنا هذا أعوام 2006 و2010 و2011، هذا بالإضافة للانتخابات البلدية وغيرها، وهو ما عكس قوة المجتمع المدني البحريني وقدرته على المشاركة والتفاعل، فضلا عن ثقله لدى القيادة الرشيدة التي آمنت بأهميته وقواه الفاعلة في اجتياز مراحل البناء التي يتعين على البحرين أن تنخرط فيها وتمر بها للوصول لهدفها في التطوير المنشود.
ومع إقرار الميثاق الوطني وبعد مرور سنوات من العمل به، اكتملت حلقة الفعل ورد الفعل بين الدولة ومؤسساتها من جانب والمجتمع بعناصره وقواه من جانب آخر، وبدا ذلك واضحا في زيادة حيوية المجتمع المدني البحريني وتصاعد قدرته على تأطير وتمثيل المواطنين والتعبير عنهم وعن احتياجاتهم، ولا أدل على ذلك من وصول عدد الجمعيات والمنظمات الأهلية مع نهاية عام 2012 أكثر من 562 جمعية يُنسب لها الفضل في تنظيم أكثر من 4423 ندوة وحلقة نقاشية ونحو 1589 مسيرة واعتصام وتظاهرة منذ مطلع العقد الأول من الألفية الثالثة حتى نهاية يوليو 2013.
الدولة والمجتمع شركاء التنمية
إذا ما حُددت المهام وانيطت المسؤولية بكل جهاز وفرد، لن يبقى غير المبادرة والعمل ليكون النجاح عنوانا، وهو ما أنجزته البحرين فعليا خلال السنوات القليلة الماضية..
ومن السهل قراءة التطور الذي شهدته المملكة هنا وهناك عبر رصد المؤشرات والأرقام وبيان الإحصائيات ومواقف التقارير الدولية المختلفة من الوضع في البحرين خلال العقد ونيف الماضي، والتي تعكس في مجملها قدرا من النجاح لا بأس به شمل كافة القطاعات والمجالات، هذا بالرغم من التحديات والتهديدات التي حاولت تقويض الدولة ودعائم مؤسساتها..
وبدلا من ذلك، يلاحظ مثلا لا حصرا ما تحقق للوطن والمواطنين عبر القنوات الآتية: العناية بالإنسان البحريني وزيادة خياراته والفرص المتاحة أمامه للنماء والتطور، كما يلاحظ الصعود الطبيعي لرأس المال الوطني ممثلا في القطاع الأهلي والخاص، حجم التفاهم والتوافق العام بين الدولة بمؤسساتها والمجتمع بعناصره ومكوناته، القدرة المتزايدة للدولة والمجتمع على حل المشكلات باعتبارها أمرا طبيعيا تعيشه كل الدول، والحوار يقدم نموذجا مهما في هذا الصدد.
ويلاحظ أيضا اتساع هامش الحركة المتاح أمام الرأي العام واستقلاليته، بدليل ما أُشير إليه سلفا من تظاهرات ومسيرات وغير ذلك، وهو ما يتزامن مع اتساع نطاق الحريات، خاصة ما يتعلق منها بالتجمع والتعبير والنشر وتداول المعلومات والمساواة أمام القانون، الأمر الذي انعكس في زيادة مستوى الشفافية في الكثير من القطاعات، ومن ثم مستوى الرقابة والمساءلة على أداء المؤسسات التي يقوم بها الفرد العادي قبل الجهاز المخول بذلك، وهو ما يتم عبر وسائل الإعلام، خاصة الجديدة منها، فضلا عن تمكين الرأي العام بكافة مفرداته وعناصره وعلى كل المستويات من الانخراط في الشأن العام والإدلاء برأيه حولها، وهي الإنجازات التي لا يمكن فصلها عن الاحتفال بذكرى الميثاق الوطني.
أرسل تعليقك