يوميات روسيا4

يوميات روسيا..4

يوميات روسيا..4

 العرب اليوم -

يوميات روسيا4

بقلم - يونس الخراشي

حاولنا منذ البداية أن نتأكد من جدية الأمر. لم يعد ليدا وقت نضيعه في مزيد من البحث. غير أننا سرعان ما اصطدمنا بجهل المساعدة، في وكالة الأسفار، باللغة الإنجليزية. ابتسمت، وقالت لنا بلغة الإشارة إن علينا الانتظار لبعض الوقت حتى تفرغ صاحبة الشأن من خدمة سيدة عجوز كانت تستريح بكل جسدها على كرسي، في مكتب قريب منا.
وبينما نحن ننتظر، كنا نسترجع الأنفاس جراء يوم متعب جدا. لم نكن نمنا سوى ساعين أو أقل منذ ثلاثة أيام اقتضتها عملية الاستعداد للسفر، ثم الوصول، والبحث عن تذاكر سفر جديد. وكنا أيضا نحدق في الأشياء من حولنا. هذه وكالة أسفار عجيبة للغاية. عبارة عن غرفة صغيرة جدا، من حوالي 5 أمتار متر مربع، وفي جوف فندق. هناك أشياء كثيرة معلقة على الجدران تشير إلى حضارات متنوعة. وثلاث شابات يشتغلن مع بعضهن. فقط، لا غير. والكثير الكثير من الوثائق، بعضها فوق بعض.
في لحظة ما، اقتربت منا المسؤولة وسألتنا عن مرادنا، كي تدقق. وما أن شرحنا لها مجددا ما نريده، حتى وافقت بحرة من رأسها، وابتسامة. وهنا شعرنا بأن ثقلا أزيح من على ظهورنا. ولو أننا تذكرنا شيئا مهما للغاية، وهو أننا قد نحتاج تحويلا آخر للعملة، وهذا ربما يتطلب وقتا طويلا، بما أننا لم نكن نتوفر على بطاقات بنكية تصلح للغرض.
لاحظنا أن المسؤولة الرئيسية على الوكالة تحدثت بلباقة كبيرة مع السيدة العجوز، وقدرنا أنها طلبت منها حق الانصراف لتهتم بنا. ثم أخذت مكان المساعدة على مكتبها، وراحت تدقق الطلب. قالت لي:"هل تريدون رحلات بثمن عال أم ثمن بخس؟". كان الجواب واضحا في عينيها حتى قبل أن أجيبها. وسبقتني إليه بالفعل وهي تقول:"أظن أنكم تبحثون عن ثمن بخس". ثم ابتسمت، وهي تراني أكاد أضحك موافقا.
لم تكتف تلك الشابة البشوشة، في حدود الأربعين، بأن راحت تبحث لنا عن الثمن البخس لرحلتينا نحو كل من سان بتيرسبورغ وكالينينغراد، بل راحت أيضا تنهض، في كل مرة من مجلسها، لتدير الحاسوب كليا نحوي، وتريني الساعات الأفضل للسفر بالنسبة إلينا، وكذا الأثمان، وتبتسم. كان عملا تجاريا ممتازا. هناك صدق، ومصداقية، وكسب للزبون.
استمر الوضع كذلك حوالي ساعتين. مللنا ولم تمل الشابة المسؤولة. أما وقد صارت الحجوزات أمرا شبه محسوم، وشعرنا براحة تسري في الأجساد، ولو نسبيا، فقد انشغلنا بمتابعة مباراة روسيا والسعودية على شاشة الشابة الثالثة التي لم تنطق ولو بكلمة، بقدر ما ظلت تبتسم، وتشتغل. 
كنت أسترق النظر من النافذة، بين الفينة والأخرى، فأجدني إزاء طقس جميل يحثني على المغادرة بسرعة كي أعيش اللحظة، وأكتشف المكان. غير أن الحاجة إلى الصبر كانت ضرورية. فقد تطلب تأكيد الجز وقتا معتبرا. بل وقادنا إلى مفاجأة؛ فقد كان علينا بالفعل أن نحول المزيد من المال. وهو ما بخر، نسبيا، حلم السفر، وجعلنا نشعر بخزي كبير لبعض الوقت.
قالت الشابة المسؤولة:"لا أملك لكم شيئا". ثم بعد لحظات من الصمت، تحركت كل عضلة في وجهها، ومسدت بيدها على شعرها، كما لو أن أمر سفرنا صار قضيتها الأولى والمصيرية. طلبت مني أن أتبعها. ورحنا نعود أدراجنا إلى أسفل الفندق. كنت أكتشف أشياء أخرى مجددا. الطريق هذه المرة أكثر اختصارا. وهناك درج رائع وواسع، وبمقابض حديدية مصبوغة بأصفر مذهب، وتحت القدمين سجاد أحمر فريد، ومريح، تمنيت ساعتها لو نمت عليه، حتى أذهب ما بي من إرهاق.
مع الأسف. حين نزلنا إلى الأسفل، تبين بأن كل وكالات تحويل الأموال مغلقة. عرفت بذلك من تلك الحركة التي ندت عن الشابة المسؤولة. فقد أمسكت بشعرها، وضمت شفتيها بقوة إلى بعضهما. وظننت حينها أن كل شيء قد ضاع، وأن رحلة أخرى من البحث والتعب ما تزال في انتظارنا. ثم إذا بها تقول لي مجددا:"إتبعني". وعدنا أدراجنا إلى المكتب، حيث وجدنا زملائي والشابتين الأخريين ينتظرون الخبر السعيد، الذي لم نأت لهم به.
هل تعلمون ما فعلت الشابة؟ لقد تكفلت شخصيا بمدنا بالمبلغ الطي ينقصنا كي نحصل على سبعة تذاكر لرحلتينا. أي نعم، فعلت ذلك. ثم راحت تمر إلى العلمية الأخيرة، وهي عملية البعث في الحين بالروبل الروسي إلى المعنيين، عبر آلى خاصة، كي نحصل منهم على التأكيد النهائي، ونضمن حقنا في التذاكر.
كانت تلك العملية أشبه بحرب مع الآلة. وقفت الشابة ومساعدتها، التي اقتادنا بداية إلى الوكالة، جنبا إلى جنب. وراحتا تدفعان بالروبل في الآلة، وتنظران الرد الإيجابي. أما نحن، فكنا نفطر ساعتها، بعد أن بغلت الساعة التاسعة ليلا؛ أي بزائد ساعتين عن ماوقيت عمل الوكالة؛ ما يعني أن الشابات الثلاث زدن ساعات عن عملهن الاعتيادي كي يطمئنن على أننا سنسافر، ونعمل. يا سلام.
تعطلت الآلة للحظات. وتعطلت معها لغة الكلام للحظات أيضا. رحنا نسأل، ونحن نضحك، حتى نخفف الضغط الرهيب. غير أن المسؤولة قالت لنا إن هذا يحدث أحيانا. أما وقد انتهى الأمر بلاسم، فقد كادت السيدة تبكي من شدة الفرح. كما لو أنها هي من سيسافر. أما زميلتاها فسررن بدورهن للنهاية السعيدة. 
ماذا وقع بعدها؟ طلبت منا المسؤولة أن نعذرها على كل هذا التأخير الذي كنا ضحيته. مع أن الذي ضحى لم يكن سواها ومن معها في المكتب. وأمدتنا برقمها الهاتفي، لعل وعسى. ثم شكرناهن جميعا شكرا جزيلا جدا، والتقطنا صورة جماعية تؤرخ للحظة، وانصرفنا إلى حال سبيلنا. في رحلة جديدة، لا ندري إلى أين ستقودنا.
كان الهم الكبير قد انزاح من على ظهورنا. هناك تذاكر بأسمائنا إلى سان بتيسبورغ وكالينينغراد. والبقية تأتي. فمباراة المغرب وإيران في اليوم الموالي؛ الجمعة، الذي هو يوم عيد الفطر. هيا إذن نمضي.

 

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

يوميات روسيا4 يوميات روسيا4



GMT 11:04 2019 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

" أبيض أسود

GMT 10:57 2019 الثلاثاء ,01 كانون الثاني / يناير

الاتحاد «بخروه» من «العين» القاتلة

GMT 17:28 2018 الإثنين ,10 كانون الأول / ديسمبر

رئيس النصر خارق اللوائح

GMT 09:34 2018 الخميس ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

الاتحاد.. أسهل ديربي للأهلي

الملكة رانيا تجسد الأناقة الملكية المعاصرة في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 14:05 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
 العرب اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 20:21 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

غارة إسرائيلية تقتل 7 فلسطينيين بمخيم النصيرات في وسط غزة

GMT 16:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

صورة إعلان «النصر» من «جبل الشيخ»

GMT 22:23 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

إصابة روبن دياز لاعب مانشستر سيتي وغيابه لمدة شهر

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 18:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مصر تحصل على قرض بقيمة مليار يورو من الاتحاد الأوروبي

GMT 10:01 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الزمالك يقترب من ضم التونسي علي يوسف لاعب هاكن السويدي

GMT 19:44 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

هزة أرضية بقوة 4 درجات تضرب منطقة جنوب غرب إيران

GMT 14:08 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

استشهاد رضيعة فى خيمتها بقطاع غزة بسبب البرد الشديد

GMT 14:09 2024 الخميس ,19 كانون الأول / ديسمبر

كوليبالي ينفي أنباء رحيله عن الهلال السعودي

GMT 03:37 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الشرع تُؤكد أن سوريا لن تكون منصة قلق لأي دولة عربية

GMT 20:22 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

الاتحاد الأوروبي يعلن صرف 10 ملايين يورو لوكالة "الأونروا"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab