بقلم ـ سارة السهيل
يعيش شعب العراق في آتون عنف دموي شبه يومي تجلت مظاهره منذ احتلال الولايات المتحدة للعراق وتفتيت تماسك وحدة نسيج المجتمع العراقي بشظايا الطائفية والمذهبية الظاهرة للأعين. غير ان التاريخ الانساني يؤكد ان ظاهرة العنف في العراق ليست وليدة العصر الحالي، بل ان حضارات العراق القديمة شهدت العديد من مظاعر العنف والاقتتال، ولذلك فانه وللوهلة الأولى يبدو الشعب العراقي و كأنه شعبا عنيفا وان العنف جزء اصيل في تركيبته الانسانية إلا أن الحقيقة غير ذلك فإن تفسير ما يجري وما جرى على أرض العراق عبر التاريخ غير مشتق من كلمة العنف على قدر ما هو تركيبة إنسانية منفردة ورثها هذا الشعب العريق عبر حضاراته المختلفة كل الدول من حولنا تتغنى بحضارة واحدة عاشت أو مرت من أرضها أو اثنان على الأكثر إلا العراق فقد احتضن سبعة حضارات على أرضه الغنيه بالتراث و الخيرات و من السبع حضارات تكونت سبعة خبرات و سبع تناقدات و بالتالي سبع تناحرات و ولدت سبع أشكال فيسيولوجيه بالشبه و الملامح فتجد بالعراق أنماط مختلفه من هيئات البشر تبعا لاصولهم و جنسهم كما تجد ديانات و طوائف و أنماط فكرية مختلفه من الجنوب حتى الشمال ،شرقا وغربا و بالتالي التقاليد و الأعراف و الأكلات و الزي . و تباين مقدار اندماج كل فئة منهم مع الحضارة الجديدة و التطور الطبيعي الزمني الذي مر بهم و اوصلنا إلى الوقت الحالي فمنهم من اندمج مع العصر و منهم من آثر أن يبقى في الماضي وفي رأيي كل هذه الاختلافات قوة ما بعدها قوة أن كانت في كنف حكم حكيم و من السهولة أن تتحول إلى نقمة أن كانت كل هذه الطوائف تحت حكم عنيف قاس كما في السابق القريب أو الفوضى و الفساد أو في الحقب الزمنية التي كانت تعاني الضعف و الشتات و بما اننا في مرحلة عصيبة من تكالب الأمم على عراقنا و تآمر البعض من أبنائه مع الأمم المتكالبة و جهل البعض بسبب الفقر و الحروب و انعدام الأمان. فحتما سيكون هذا التنوع الثقافي الحضاري الذي ذكرناه نقمة و مدعاة للتناحر و الحروب و الفوضى طالما لم يستطع الدستور أن يحوي كل الفئات تحت جناح القانون و العدالة لتتم المواطنة على أساس الانتماء للوطن و ليس الحزب أو الطائفة أو الدين و هذا الفكر لم يكن من الممكن أن يكون قد تشكل في وجدان العراقيين لسبب بسيط انه في السنوات السابقه قبل الاحتلال لم يكن هناك أي فكر مطروح أو انتماء سوى للحزب الحاكم و الحاكم فلم يتدرب الشعب على حب الوطن بالاختيار بل كان انتماء مفروض بالإكراه و التعود و عندما غابت العصاة المخيفة و أصبحوا أحرارا كان من الصعب جدا تقرير المصير قبل أن يكونوا مجهزين لهذا التحول و من الطبيعي أن يتولى أمر التجهيز أولياء الأمر و القائمين على أحوال الشعب إلا أن الحروب الطائفيه و الاحتلال و الإرهاب حال دون مقدرة الاشراف منهم لخدمة الوطن و فشلهم بحل الازمه و جعل الغير إشراف يصولون و يجولون فسادا كل هذا زاد من نظرة الغير عراقيين للعراق على أنه بلد تشبعت أرضه من دم شعبه و انه وطن يحلو له قتل أبنائه و ان تراب العراق لا يهدأ ولا يستكن حتى يحتضن باعماقه اكفان و صناديق الشهداء من كل الملل و الطوائف و لم ينفي أحد و لم يعترض أحد على هذه النظرة التعسفية و التعسَه و لا أقصد النفي فقط بالكلام و إنما بالأدلة و البراهين بأن يصرح أحد المسؤولين أن الإنسان أغلى ما نملك أو أن تقوم الدنيا و لا تقعد عندما نفقد طفل أو امرأة أو رجل عراقي وفي أعلى طموحاتنا أن يجنح العراقيون للسلم فيما بينهم حقنا لدماء اخوتهم بالوطن وان يقفوا صفا واحدا إكراما لدماء الشهداء . و أصبح المشهد العراقي مثير للألم و الحزن و اليأس في كل الأحيان. و عندما صمت الجميع و لم يجب أحد على هذه الاتهامات في حق شعبنا المظلوم أجاب القدر و انتقلت عدوى العنف إلى الكثير من البلدان ليتم الإجابة أن الظروف تخلق العنف و ان النفس البشرية تتقلب و خاصة الضعيف منها و الغير مؤهل و اتضح انه حولنا الكثير ممن حولتهم الظروف إلى العنف الإجباري كما اضطر العراقيون أن يواجهوا مصيرهم طوال السنوات الماضية عبر التاريخ القديم والحديث. و بالعودة لخصوصية العراق مع العنف.. يؤكد هذا التصور النظري ان التاريخ الانساني يسجل الارث الدامي في العراق عبر حضاراته المختلفة مما يجعلهم من أكثر الشعوب تطرفا. غير ان الدراسات التي قام علماء متخصصون في تاريخ العراق وشعبه عبر التاريخ درسوا خلالها سيكولوجية اهل العراق وجدوهم اكثر ميلا للزعامة والرئاسة، وانهم متقلبي المزاج بين البداوة والمدينة، وانهم لا يرضون عن حالهم وسرعان ما ينقلبون عليهم. ويستدل بعض الكتاب على صحة هذه الفرضية بما نقل عن ابن الأثير قوله : " فلما مرض معاوية مرضه الذي مات فيه، دعا ابنه يزيد فقال: انظر أهل العراق، فان سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فأفعل، فان عزل عامل أيسر من أن تشهر عليك مائة ألف سيف". وهذه المقولة تعكس في تحليل بعض المتخصصين ادراك " معاوية " سرعة تقلب مزاج العراقيين وعدم رضاهم عن الحكام وميلهم للقيادة والزعامة. وكما تذكر بعض الآثار التاريخية، أن الاسكندر المقدوني كتب إلى أستاذه الفيلسوف أرسطو، بعد فتحه العراق عام 331 قبل الميلاد: «لقد أعياني أهل العراق، ما أجريت عليهم حيلة إلا وجدتهم قد سبقوني إلى التخلص منها، فلا استطيع الإيقاع بهم، ولا حيلة لي معهم إلا أن اقتلهم عن آخرهم". ووفقا لهذه التصورات، فان أهل العراق يوصفون بأن لهم نظر وفطنة وذكاء، وان هذا الذكاء يدفعهم إلى ممارسة الجدل والنقد و قلة الطاعة ومعصية حكامهم وهو ما يولد العنف الظاهري. ولعله مما يبرهن على ذلك، تفسير الجاحظ، وهو احد كبار المفكرين أسباب عصيان أهل العراق على الأمراء بقوله أنهم " أهل نظر وفطنة ثاقبة، ومع النظر والفطنة يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤوساء وإظهار عيوب الأمراء. ثم يقول وما زال العراق موصوفا بقلة الطاعة وبالشقاق على أولي الرئاسة" . وهذا يعني بما لا يدع مجالا للشك، بأن نزعة الجدل في الشخصية العراقية بجانب سماتها الشخصية من الأنفة والكبرياء والزهو والتمسك بالرأي قد جعل قيادتهم من أي حاكم أمرا شديد الصعوبة . جذور العنف فالعنف هو الطابع الغالب في الحياة السياسية العراقية قديما وحديثا. ولهذا العنف جذوره التاريخية والاجتماعية والثقافية والطبيعية، ومن بينها تعرض العراق على مدار التاريخ الانساني لمذابح وانتهاكات كبرى اقترفها غزاة ومحتلون اجانب مثلما اقترفه هولاكو وتيمور لنك في العراق ومن قبلهما الحجاج والخلفاء الامويون وما اقترفه السلطان مراد أوالصفويون ضد الشيعة أو السنة في العراق، والمذبحة التي نفذها الولاة العثمانيون بحق المماليك. فهذه الشواهد التاريخية تؤكد ان العراقيين لقرون طويلة وما زالوا ضحايا الاستبداد والعنف والقهر والقمع بما جعل العنف أرثا ملازما لهم، ابتداء من حكم نبوخذ نصر، مرورا بمأساة كربلاء وطغيان الحجاج واستبداد المنصور والسفاح وهجوم المغول واستباحتهم لبغداد ، وكافة أشكال الاستبداد والقمع والحروب والحصار والمقابر الجماعية لنظام صدام حسين وانتهاء بالاحتلال الغاشم وما افرز ويفرزه من فوضى ودمار وصراعات اثنية ودينية وطائفية ، و الأعمال الإرهابية ذات الآيديولوجية التكفيرية، التي جاءت على الاخضر واليابس ولم ترحم المدنيين العُزَّل من الأطفال والنساء والشيوخ في عالمنا المعاصر. هذه المآسي التاريخية التي تعرض لها شعب العراق عبر الحضارات المختلفة قد أثرت سلبا في نفسية الانسان العراقي، وجعلته شديد البأس في مواجهة أي خطر قد يستشعره بحسه التاريخي، و قلقاً ومتوتراً وغير مستقر على حال، يغلفه ميراث من الحزن والأسى عبرت عنها أساطيره وأشعاره وأغانيه. حقيقة تاريخية والملاحظة العملية قد اثبتت تاريخيا أن العنف في العراق جاء دائما من الأطراف، خاصة من جانب الجيوش الغازية من الشرق أو من القبائل البدوية من الغرب، كما حدث مؤخرا مع الغزو الامريكي للعراق الذي هدم مؤسسات الدولة جيشا وشرطة واقتصاد وانتهك حرمات التاريخ وسلب الخزائن التاريخية في المتاحف العراقية ليطمس الذاكرة الحضارية للعراقيين. ولعل المشهد اليومي للعنف واراقة الدماء في العراق يؤكد استمرار ميراث ثقيل من تاريخ العنف الدموي الذي دفع ثمنه ابناء العراق نتيجة غزو بلادهم، مما اورثه ايضا ثقافة العنف المكتسب كرد فعل على اعتداء الاخرين عليه. الاطفال وميراث العنف لم تتمتع العراق بالاستقرار السياسي الا لفترات قصيرة، بسبب تواصل الصراع السياسي والعسكري العنيف، وما ترتب عليه من سجناء ومعتقلين واعدامات، مثلما حدث في الحرب العراقية الايرانية وقدرت خسائرها بمليون انسان مابين قتيل وجريح ومعوق، اضافة الى 100 الف قتيل في حرب الخليج الثانية، وانتفاضة اذار عام 1991 في الوسط والجنوب. ونجم عن هذه الحروب ضحايا واسر مشتتة واطفال يتامى بلا نهاية وصولا لما آل اليه حال العراق بعد الغزو العراقي وتداعياته حتى يومنا هذا. وأدى انخراط مئات الاف الاباء في القوات المسلحة والاعمال المساندة إلى انحسار في دور الأب في الاسرة وتراجعه، فولدت مشاكل اسرية، انعكست على التربية الاجتماعية للاطفال، وفقدان الأطفال للثقة بالنفس وبالاخرين والأمن والسلامة، والشعور بالتعرض للاذى، وقد اجبرت العديد من عوائل الاطفال على العمل، مما ادى لانتشار ظاهرة اطفال الشوارع بأعداد كبيرة وهي ظاهرة في تنامي مستمر. مآسي أطفال الشوارع هناك العديد من المخاطر التي تعرض أطفال الشوارع لمخاطر اشبه بالمآسي تقضي على مستقبلهم وعلى مجتمعهم ومن ابرزها : تفشي الامية بين الأطفال المتسولين والمتشردين خاصة وان من بينهم من لم يدخلوا المدرسة، ومنهم من تركوا الدراسة بعد ان نالوا قسطا غير وافٍ من التعليم. وتقودهم ظروفهم الاجتماعية الي الانحدار في مهاوي الرذيلة، حيث يتعرض اطفال الشوارع الى الاستغلال الجسدي، مستغلين ضعفهم وصغر سنهم، وعدم قدرتهم على رد الاساءة، اضافة الى ممارسة العنف و الامور الغير أخلاقية مع بعضهم البعض. كما يتعرض اطفال الشوراع إلى مخاطر الادمان على التدخين والمخدرات، اكدت بعض الدراسات ان 90% من المتسولين والاطفال العاملين يتعاطون التدخين في محاولتهم تقليد الكبار والاخطر من ذلك الادمان على المخدرات المحلية المتوفرة في الاسواق . وقف العنف يبقى حماية الاطفال من ان يتحولوا إلى اطفال شوراع في العراق رهين، بتغيير ثقافة العنف المنتشرة في المجتمع وبذل أقصى الجهود لنشر ثقافة التسامح، وهذا لن يتحقق بمعزل عن نبذ التطاحن السياسي والعمل على محاربة فكر الطائفية والمذهبية واعادة اعمار العراق وفق اجندة وطنية مخلصة تحافظ على وحدة العراق واستقراره الأمني والسياسي ، ووضع برامج للتنمية الاقتصادية المستدامة وتوفير حضانة آمنة لاطفال الشوراع تتولي رعايته امنيا واجتماعيا واقتصاديا وتربويا . فهل بعد كل هذه الأحداث التي مرت على العراق نتعجب ان كان هناك عنف على أرضه وهل لو مر ربع الذي مر به العراق على اي شعب اخر ما سيتحمل أو هل سيواصل او كان بقي له اثر من الأساس !!؟؟ انا أرى ان شعبنا صامد و باق مهما مر عليه من مشاهد مأساوية و لنا ان نلقي اللوم على الظروف و على العلماء و المفكرين الذين لم يوجدوا حلولا لقطع العنف من دابره و شلع الحرب من جذورها وقطع الفتنة من رأسها و سحب البساط من تحت الخلافات و الاختلافات فليس الجميع واع و قادر إنما العتب على المتميزين بعلمهم و قدراتهم أين هم من نشر الوعي و العلم في بلادهم و اعادة الحضارة و التحضر الذي كان في الماضي القريب و أين هم من وضع الاستراتيجيات التي تساعد في القضاء على الفقر و الجهل الذي كان له التأثير الأكبر على تراجع الفكر و التقدم يجب ان نعتذر جميعنا للعراق فكلنا مقصرين.