بقلم ـ مصطفى زلوم
إنها الفلسفة الوجودية أيها الأعزاء، فأنفاس "جون بول سارتر" كانت تفوح طوال الأحداث من بين سطور الكلام، وإن لم يعلنوها واضحة. لكنها استحوذت رغما، فجاءت صبحا.
على الرُغم من أنها كانت طرفة! لكن الأيام أثبتت صدق المُتَندر بها. فأصبحتُ الأن على قناعة تامة أنها لم تكن طرفة! أو نكتة، أو إفي أطلقه ممثل خفيف الظل في فيلم كوميدي.. لكن: وإن كان الفيلم ذاته ليس كوميديا؟! بل هو مرآة مكبرة وضعها المخرج قبالة عاهاتنا التي دأبنا على إخفائها، حتى تخدَّرنا بمخدر الكمال، معتقدين أن أحدا لا يرانا، ثم كانت المفاجئة الوقحة، والتي أخجلت سخافاتنا، إن العالم أجمع يتابع عاهاتنا، ومضطلع على عوراتنا، ويشاهد سخفنا في صمت!
لا أعلم على وجه الخصوص ماذا كان يريد أن يقوله الكاتب والسيناريست (....) مؤلف فيلم عسل أسود بمشهد التنزه في شوارع القاهرة، عندما لم يفلح (GPS) المصري في إيصال البطل. أحمد حلمي للأهرام، بيد أنه قد وجهه لبرج القاهرة، وهو يشير بكل تؤدة، ستكون وجهتك على الجانب الأيسر، وكأنه قد أنجز مهمته بنجاح! ما جعل البطل يفضل غلقه، لا سيما وقد اكتشف أن المصري الذي لاذ به ليصلح ما -قد يكون- قد أعطب الجهاز عن التحديد الدقيق. لا يكاد يفرق بين جهاز الكاسيت وجهاز تحديد الأماكن الخُلوي! فأغلقه مقتنعا بأن هناك ثمة مشكلة في التواصل. سواء كان بين الجهاز والمصريين أو العكس!
أما الواقعة في حد ذاتها فكانت نذير شؤم، يشي بأن البطل قد وقع من ثقب فضاء المعرفة، إلى حيث المجهول المظلم، والذي لا يرى نوره إلا الذين حُبسوا بداخله، أما المحيطون بهم فمع الأسف.. لا يكادون يعلمون أن بخارج فضائهم المُبْهِر توجد ثمة شواهد على وجود حضارات أخرى! ولذلك جاءت المفارقة العجيبة! المفارقة التي أضحكتنا حتى الثمالة، والتي جعلت الدمع ينهمر من مآقينا. لنكتشف في النهاية أن دموعنا لم تكن نشوة بما يقدم الفيلم فحسب! بل وأيضا حسرة على ما قدم، خاصة وقد دس بالعسل العلقم.
وقبل الخوض بتلافيف المأساة، والتي اخترت لها مدخلا آمنا. وهو مدخل الدراما الأدبية المصورة، أود توضيح: السبب الذي دفعني حين الكتابة، لأن أترك اسم المؤلف فارغا بين معكوفين، ملأت ذلك الفراع بنقاط لا رمزية لها سوى لفت الانتباه إلى أنَّ الكاتب الحقيقي الذي كتب أحداث الفيلم المذكور "عسل أسود" لم أستطع الوصل إليه حتى الآن، لا سيما وأكبر موقعين على الشبكة الذكية، والمعنيان بمثل هذه المواضيع أختلفا. فحسب موقع "ويكيبيديا" الموسوعي ورد اسم المؤلف على أنه (مؤمن أحمد داوُّد)! أما موقع "سينما دوت كوم" وهو الموقع الرسمي لذاكرة السينما المصرية فقد اورده على أنه (خالد دياب)! يذكر أن دياب هو مؤلف فيلم (ألف مبروك)، والذي من بطولة أحمد حلمي أيضا، فمن الصادق؟!
وأيا كان الكاتب، سواءً كان خالد دياب أو مؤمن داود، فإن العمل هو ما يعنينا، وليس العمل على وجه الخصوص! أي أنه ليس ما بين يديك الآن نقدا فنيا أكاديميا بقدر أنه مجرد إبحارة فكرية من خلال قارب الفيلم، والذي داس بكل قسوة على أماكن الألم الكامنه، وايقظنا على واقع نمنا كثيرا أملا في أن نستيقظ بعده! لكن أبى الفيلم وأصحابه إلا الإزعاج! فأيقظونا لنجد أن رقدتنا لم تكن بتوقيت الزمن سوى ثوان معدودة! وأن القادم طويل! لا يدري نهايته إلا من عبَّده، هذا إن كان معبدا من الأساس. أما وإن كان بوهيميا سرياليا مبني على الفوضى الجدلية، فإن مصير الخروج من دهاليزه موقوف على مقدرة الذين يأنفون على تحمل كتم الأنفاس! فإن استطاعوا وقتا يتيح الفرصة للمرور.. مروا بسلام! وإن لم يستطيعوا، واكتشفوا أنه لا مناص! فليركنوا للتأقلم السلبي، وهذا ما هو واقع بهم!
أما فكرة البطل الذي يأتي من المجهول المُبهر، والذي لا يدري جماله إلا البطل ذاته! والذي يتوقف مدى استيعابنا وتصديقنا -كمتابعين- على قوة البطل الإقناعية فقديمة! وقد قُدِّمت كثيرا، كان أشهرها على الإطلاق الفيلم الهندي الشهير (PK) بطولة عامر خان، ومن تأليف واخراج الثنائي راجكومار هيراني، وأبهيجات جوشي الكاتب الهندي المعروف، وشارك "خان" البطولة النسائية النجمة الجميلة (أنوشكا شارما)، والتي تدور أحداثه في مدينة دلهي حيث يهبط البطل من كوكب آخر، عاري الجسد والعقل معا، وإن كانت فكرة الحرية الجسدية من قيود الثياب فكرة لا تروق للغالبية، بيد أن فكرة تعري العقل من كافة الحجب الثقيلة التي تكفره عن ملامسة الحقيقة فكرة رائعة! لا سيما وقد قُدمت بشكل لائق بعض الوقت، حذر كل الوقت.
وإن كانت اللياقة تتناسب مع رقي الحوار، فإن الحذر لم يمنع سهم القدر! لا سيما والمُنتقد في ذلك كان أفيون الشعوب كما قال " كارل ماركس" عن التدين! فالتدين الزائف القائم على خديعة السذج والعامة هو الأفيون الذي يصفي دماغ المحتال ليحتال، ويعطي المخدوع القدرة على تحمل الخداع رغم أنه يعرفه جيدا، بيد أنه يخدع نفسه مستعينا بقدرة ذلك الأفيون على الإسعاد المكذوب والبهجة المُختَلَقة! فذلك هو أفيونهم.. أفيون يدفع عجلة الحياة الكسيحة كي تتحرك ولو ببطئ مميت!
ليقف البطل الذي جاء عاريا من كل شيء، ما عدى قلادة خارقة، وقادرة على التواصل مع كوكبه، لتنتزع من عنقه مع أول لقاء له مع سكان الأرض البلهاء، ثم لينطلق بحثا عن السارق في دائرة محيط قطرها متسع باتساع الرقعة التي تربى بها عالم البشر، ثم في النهاية يكتشف أن في رحلة بحثه السريعة والشاقة. حطم دون قصد بعض الأوثان، وداس بقدميه على أغلب العمائم، ودحرج صولجانات في الأوحال، لينتهي به المشهد المحوري للنهاية وهو يدق المسمار الأخير في نعش الخرافة المنمقة! ويطمس النقوش المقدسة التي رسمتها مياه البحر صدفة! فاعتقد الناس -بعدما سمعوا التراتيل المكتوبة بمحلول الأفيون الأسود- أنها مكتوبة بخط يد الرب! لتُمحى في ثوان! ومع رذاذ بصاق البطل.. ونفخة صدر ساخنة، ربما كانت مصادفة.
أما الكاتب العربي، والمخرج العربي، واللذان أخرجا فيلم عسل أسود المصري، فلم يكونا بالشجاعة بمكان يجعلهما يلمحان من بعيد لما خاض غماره الفيلم الهندي بحذر مفضوح! فاختارا السلبيات ا