هدايا «عيد الأم»

هدايا «عيد الأم»

هدايا «عيد الأم»

 العرب اليوم -

هدايا «عيد الأم»

بقلم: فاطمة ناعوت

ونحن أطفالٌ في مدارسنا، كان عيدُ الأمّ بالنسبة لنا يحملُ الشىءَ ونقيضَه. كثيرٌ من الإثارة والشغف، وكثيرٌ من القلق والمنافسة، وكثيرٌ من الحزن والشفقة والشعور بالذنب.

نشعرُ بالشغف والإثارة ونحن نختبئ في زوايا غرفنا، قبل عيد الأم بأيام، لنكسر الحصالات ونعدّ الجنيهات النحيلة التي ادّخرناها شهورًا طوالًا من أجل ذلك اليوم المهم؛ حتى نشترى هديةً تليقُ بالشخص الجميل الذي تتعلّق بعينيه عيونُنا: الأمُّ. نفرحُ حين تفرحُ تلك العينان، ونخافُ إن مسّهما حزنٌ. نجمعُ أموالنا ونذهب إلى المحال نختالُ بثروتنا الصغيرة ونشترى ما تجودُ به المحالُّ، وما هو بالطبع دون خيالنا الجموح الذي يريدُ أن يشترى العالمَ لماما. ثم نسرحُ بأفكارنا ونُخمّن ماذا سيجلبُ الأصدقاءُ وأبناءُ الجيران وأولاد الخالة إلى أمهاتهم. هل سيتفوقون علينا في هداياهم، أم ستفوقُ هديتُنا ما يجلبون؟. لونٌ من المنافسة «الحُلوة» تناسبُ طفولتنا. نذهب إلى المدرسة فخورين بما جلبنا لأمهاتنا، وننتظرُ أن توزّع علينا المعلمةُ، ميس «سوزان»، الكروت بوستال التي سوف تُرافق هدايانا.

تجولُ عيونُنا في الفصل من حولنا، فنجد تلميذًا تدمعُ عيناه وهو يتسلّم بطاقة المعايدة الخاصة به؛ ولا يدرى ماذا يصنع بها، أو تلميذةً تُطرق برأسِها فوق الديسك لتُخفى عينيها الباكيتين عن عيوننا. هذا أو تلك لا يحبّان «عيد الأم»، ولا يُحبّان تلك البطاقات؛ لأن المُرسَل إليه: «غير موجود». الأمُّ قد غادرت العالم، فكيف نُرسل إليها هذه البطاقة؟. هنا يبدأ الشعورُ بتأنيب الضمير لأن صديقة لنا- أو صديقًا- ليس لها ما لنا من نعيم وفرح. الأم.

هذا الفريق الحزين من الأطفال يتعذّبون في عيد الأم لأنه يُربِكُ حساباتهم، ويفتح أمامهم سؤالًا وجوديًّا صعبًا: «أين أمّى؟، ولماذا لأقرانى ما ليس لى؟»، مثلما يفتح أمامنا نحن المُنعّمين بوجود الأم سؤالًا لا يقلُّ عُسرًا عن سؤالهم: «أين أمّهاتهم؟، ولماذا لنا ما ليس لأقراننا؟». سؤالهم مضفورٌ بالحزن والشعور بقلّة الحظ، وسؤالنا مضفورٌ بالأسى ومرارة الشعور بالذنب.

اليومَ، وقد غادرتنى أمى قبل سنوات مرّت كالدهور، غادرتُ الفريقَ المُنعّم، وانضممتُ إلى ذلك الفريق الذي يحملُ له عيدُ الأم شيئًا من المرارة. أين أمّى لأشترى لها هدية في عيدها؟!. هي الآن في مكان كلُّه هدايا وشموسٌ ونجومٌ وألماساتٌ وأنهارٌ من اللؤلؤ النقىّ. هي الآن حيث تصدحُ الموسيقى وتُشقشقُ العصافيرُ بالنغم والشدو. هي الآن في حضرة الله الغنىّ السخىّ، الذي يُحبُّ الأمهاتِ بقدر ما أحببنا، فوهبنا من فيض حُنوّهن وليالى سهرهن لكى ننام ونكبُر.

الهدايا التي جلبناها لأمهاتنا في «عيد الأم» أبدًا لا ننساها. لأن ذكرياتنا القديمة التي نسجتها طفولتُنا محفورةٌ في خانة «الذاكرة العميقة» التي تعبرُ فوق الزمن، وتتحدّاه. عكس «الذاكرة السطحية»، المؤقتة، التي تخزِّنُ أحداثًا عابرة: ماذا أكلنا، مَن قابلنا، الوجوه، الأسماء، الأرقام، وغيرها من العوابر.

مازلتُ أتذكر أول هدية لأمى وأنا في الصف الأول. أحضرت لنا المعلمةُ في الفصل بطاقاتٍ صغيرة ملوّنة ومُزيّنة بالزهور. وكتبتْ على السبورة: «إلى ماما الحبيبة، كل سنة وأنتِ طيبة». وطلبت منّا أن ننقل المكتوبَ في بطاقاتنا، ثم نوقّعها بأسمائنا. ومع مرور السنوات توالت هداياى لأمى وتطوّرت: قارورة عطر، مناديل مطرَّزة بورود، مفكّرة مواعيد، قلم، وغيرها من الهدايا البسيطة التي كنتُ أشتريها من دكان «عم يونان» أسفل عمارتنا. وكان الرد الدائم لأمى على هداياى وهدايا شقيقى: «مش عاوزة هدايا، انتوا هديتى، بس ذاكروا واطلعوا الأوائل وأنا أفرح»، لهذا، غالبًا ما كنت «أستعبط»، وأسترد تلك الهدايا، بمكر الصهاينة، بعد مرور عدة أيام، مبررةً تلك الخطيئة لنفسى بأن ماما «مش عاوزة هدايا، وأنا هديتها»!.

ثم دخلتُ في مرحلة جديدة من الهدايا التي لا تُحوجُنى إلى ادّخار النقود. القصائد. ورقة بيضاء، أكتب فيها عدّة أبيات على بحر الكامل أو الوافر أو المتدارك لأنها الأسهلُ عَروضيًّا، ثم أزيّن حوافَّ الورقة ببعض الزهور الملونة. وبعدما غدوتُ كاتبةً دخلتُ في مرحلة إهدائها كتبى في تصدير الصفحة الأولى. وأنا موقنةٌ أن أوراق العالم لا تكفى للتعبير عن حجم فقدى لأمى اليوم.

شكرًا لأمى، السيدة الجميلة الجادّة «سهير»، التي صنعت منّى إنسانًا جادًّا مسؤولًا يقدّسُ العمل، وطوباكِ حيثما تكونين في أي زاوية من زوايا فردوس الله الأعظم. في «عيد الأم»، اليوم، أقول لكل أمٍّ: كل عام وأنتِ زهرةٌ من زهور هذا الكون

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هدايا «عيد الأم» هدايا «عيد الأم»



GMT 05:44 2024 الإثنين ,25 آذار/ مارس

«إفطار المحبة»... من حكايا دفتر المحبة (٣)

GMT 09:03 2024 الإثنين ,18 آذار/ مارس

البابا شنودة... من حكايا المحبة (٢)

GMT 05:12 2023 الجمعة ,18 آب / أغسطس

هل للطفل مطلق الحرية ؟

GMT 14:47 2023 الخميس ,20 تموز / يوليو

كلماتك الإيجابية أعظم أدواتك

GMT 11:40 2023 الأربعاء ,17 أيار / مايو

كبار السن بين الألم و الأمل

GMT 09:39 2023 الأحد ,05 شباط / فبراير

وما أدراك ما أشباه الرجال!

GMT 09:36 2023 الأحد ,05 شباط / فبراير

المدخل الجانبي

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
 العرب اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 07:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 05:57 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نجاة نهال عنبر وأسرتها من موت محقق

GMT 22:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل 3 جنود لبنانيين في قصف إسرائيلي

GMT 09:48 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيب غوارديولا يوافق على عقد جديد مع مانشستر سيتي

GMT 18:37 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن تفرض عقوبات على 6 قادة من حركة حماس

GMT 16:42 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

جماعة الحوثي تعلن استهداف سفينة في البحر الأحمر

GMT 08:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يُعلّق على فوزه بجائزة عمر الشريف

GMT 06:43 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!

GMT 11:51 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تليغرام يطلق تحديثات ضخمة لاستعادة ثقة مستخدميه من جديد

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد العوضي يكشف عن بطلة مسلسله بعد انتقاد الجمهور

GMT 06:02 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر

GMT 03:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تطالب بتبني قرار لوقف إطلاق النار في قطاع غزة

GMT 06:00 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتلة صورة النصر

GMT 18:42 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 18:00 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يكشف سر تكريم أحمد عز في مهرجان القاهرة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab