القاهرة ـ أسامة عبد الصبور
"أنا الأديب وأبو الأدبا، اسمي بعون الله خالد، وشعري مفرود الرقبة زي الألف، ورقم واحد، والساعة 6 في العتبة"،
بتلك الكلمات قدم الشاعر فؤاد حداد الملقب بـ"والد الشعراء" لسيرته كإنسان ومسيرته الإبداعية كشاعر، والذي نحتفل الجمعة بذكرى ميلاده الـ88.
ولد فؤاد سليم حداد، في حي الظاهر في القاهرة، في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 1928، وولد والده سليم حداد في بلدة "عبيه" شرقي بيروت، في أسرة مسيحية بروتستانتية، أما والدة فؤاد حداد فهي من مواليد القاهرة في 19 حزيران/يونيو 1907، جاء أجدادها من دمشق وحلب من أصول كاثوليكية.
وحصل فؤاد على تعليمه باللغة الفرنسية ، في مدرستي الفرير، ثم الليسيه في القاهرة، وكانت لديه منذ الصغر رغبة قوية للمعرفة والإطلاع على التراث الشعري الذي وجده في مكتبة والده، كذلك على الأدب الفرنسي من أثر دراسته اللغة الفرنسية.
وكان منذ طفولته يريد أن يصبح شاعرًا، و لما سئل عن السبب أجاب "لأساعد الناس حتى تكون حياتهم أفضل" فالشعر عنده ليس موهبة أو هواية فقط بل مبدأ والتزام خلقي واجتماعي وتطوير مستمر، واختار العامية ليكون قريبًا من الناس، موضحًا في لقاء إذاعي أن الفصحى هي اللغة الأم، وأن لكل منهما استخدامه.
وعن جذورة يقول "أنا مصري من أصل شامي، لا يغتفر احتشامي، حينطلق من حيشاني صوت الجموع المفرد، أنا مصري من أصل شامي لكني لم استورد، ولا أباع إلا بالعملة المحلية".
ومن أهم ملامح شخصية "حداد" انه كان متمردًا، وكان يملك دائما القدرة على "الاختيار" في كافة مراحل حياته، وكانت البداية منذ صغره عندما حسم حداد صراعه مع الهوية، واختار الانتماء للجذور والثقافة العربية التي كان يعشقها والده، الذي بلغ عشقه للغة العربية إلى درجة إنه وهو المسيحي الديانة كان دائما ما يدير تسجيلات القرآن الكريم في البيت.
تمرد حداد حتى على رغبة والدته التي كانت لا تتحدث معه إلا بالفرنسية في المنزل، ومدرسته الفرنسية كانت تفرض عليه التحدث باللغة الفرنسية ويمنع عليه وعلى باقي الطلاب التحدث بالعربية، ويقول أحمد حداد عن جده "أقوى القرارات التي اتخذها فؤاد حداد اقتحامه لشعر العامية واستكماله لمشروع "بيرم التونسي"، و"صلاح جاهين " في تطويره، فبهذا القرار أُتخذ شعراء العامية قيمة ومكانة كبيرة في عالم الشعر لم يأخذوها من قبل"، مشيرًا إلى إنه كان يرفض أن يتم تصنيف الشعراء إلى شاعر فصحى وشاعر عامية .
ويقول ابنه الشاعر أمين حداد عن والده "أبي كان ثائرًا بطبعه، واختار كل شيء في حياته من تعليمه إلى ديانته عندما اعتنق الإسلام" .
ويضيف أمين "والدي في طفولته تفتح وعيه على الفروق بين الأغنياء والفقراء، كان حلمه أن يصير فارسًا ليحارب الظلم ويحقق المساواة، ولما كبر عرف أنه لن يصير فارسًا، فأصبح شاعرًا" .
وأردف "لم يفرض والدنا يوما علينا قرار، وأتاح لنا حق الاختيار الذي مارسه، وعندما كان يقرأ ما أكتبه من شعر كان له طريقة خاصة لتوجيهي، وهي الكشف عن مواطن الجمال في النص".
وكان انحياز فؤاد دائمًا للناس، ويمارس ما يمكن أن نسميه بالإنسانية في كل ما يفعله، فكانت قضية الفقراء والمحرومين والمعذبين من أبناء شعبه هي التي طغت على أعماله، وانتمى في شبابه إلى الحزب الشيوعي المصري، آملًا أن يجد داخله ما يتوافق مع رؤيته وهدفه الإنساني.
أول دواوين فؤاد حداد كان اسمه "أفرجوا عن المسجونين السياسيين"، واختار هذا الاسم المختلف والمتفرد تمامًا في تلك الفترة ليعبر به عن موقفه السياسي والوطني وكذلك عن نظرته الجديدة في الشعر، وصدر هذا الديوان عام 1952 تحت عنوان "أحرار وراء القضبان" بسبب الرقابة والاسم الأصلي صار اسمًا للمقدمة، ووصل عدد دواوين "حداد" إلى 35 ديوانًا، منها 17 ديوان أثناء حياته وما تبقى طبعه ورثته بعد وفاته.
ويذكر حفيده الفنان والشاعر أحمد حداد أنه يتفاجئ بأعمال كثيرة لحداد لم يكن يعرف عنها شيئًا، وأن أعمال فؤاد حداد تتجواز الـ 35 ديوانًا، فلقد ترك الكثير من تراثه لم يُنشر.
وتعرض حداد للاعتقال للمرة الأولى من عام 1953 إلى 1956 وقد أفرج عنه لمدة شهرين فقط عام 1954، وفي هذه الفترة كتب الشاعر ملحمة الشهيد الإيراني التي اعتبرها انطلاقة شعرية جديدة له، ويتجلى فيها تضامنه مع حركات التحرر والمقاومة في العالم أجمع وتضم هذه الملحمة عدة قصائد عن كفاح وبطولات الشعب الإيراني وقت تأميم البترول.
وفي نفس الوقت كتب قصائد يحكي فيها عن كفاح الشعب الفيتنامي ضد الاستعمار وقد ضمهم ديوانه "بقوة الفلاحين وقوة العمال" الذي صدر في 1968.
وبعد خروجه من المعتقل الأول 1956 أصدر ثاني دواوينه "حنبني السد" وعنوانه دليل واضح على ما يحتويه من قصائد ومنذ ذلك التاريخ كان فؤاد حداد يكتب الديوان الشعري وحدة متكاملة وليس تجميعًا لقصائد.
واعتقل فؤاد حداد للمرة الثانية من نيسان/أبريل 1959 إلى نيسان/أبريل 1964، وفي هذه الأعوام الخمس كتب كثيرًا، فلم تكن أيامًا عجافًا داخل الأسوار والتعذيب ، بل فجرت بداخله طاقات فذة وصنعت تراثًا فريدًا، ففي أيام التعذيب في معتقل العَزَب قرر أن يكتب كل يوم قصيدة ليرفع من الروح المعنوية لزملائه وعن تلك الفترة يقول أمين "والدي لم يتأثر سلبا كشاعر بالسجن، لأنه كان لديه القدرة على اكتشاف الإيجابيات، والبحث عن ما هو وجميل وإنساني للتعبير عنه، وخصوصًا مع قناع ته بأنه يمارس إنسانيته من خلال كتاباته".
عام 1964 بدأ حداد كتابة "المسحراتي" ووصل عدد قصائده إلى ما يقرب من الـ11 قصيدة، وكان ينقل الأغنية للفنان سيد مكاوي منطوقة بصوته وكان يشرح له كيف يريد أن يصلها للناس، فكان بينهما طريقة مميزة في التعامل أدت إلى ظهور العمل الفني رائع "المسحراتي".
وقدم فؤاد من خلال "المسحراتي" شكلًا جديدًا، حيث إن وزن طبلة المسحراتي المعروفة كما تدرس "طم طم طم طم" لكن فؤاد حداد غيرها وجعلها مستفعلاتٌ "طم تطم تطم طم" فغير الأوزان وعمل شكل له بداية ونهاية ووسط ومتن وموال، وفى أواخر 1970 كتب حداد ديوانه "استشهاد جمال عبد الناصر"، والمفارقة هنا انه بالرغم من اعتقاله مرتين في عهد الزعيم الراحل إلا أن فؤاد رثاه في هذا الديوان.
وفي بداية 1977 أصيب فؤاد حداد بمرض يفقده الاتزان عند المشي، وعولج عن طريق المهدئات، وصاحب هذه الفترة حصار أدبي ومادي حتى تشرين الأول/أكتوبر 1979 عندما أصيب بجلطة في القلب.
وفي هذه الفترة من كانون الثاني/يناير 1980 وحتى وفاته أول تشرين الثاني/نوفمبر 1985 كتب ما يقرب من ثلثي أعماله وبدأها قائلاً "آدى أيام العجب والموت"، وخلال تلك الأعوام نشر عشرة دواوين وأدركته الوفاة في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر 1985 تاركًا أكثر من نصف تراثه لم ينشر .
أرسل تعليقك