في الوقت الذي ينصب فيه اهتمام العالم على الاستفحال السريع لعدوى زيكا الفيروسية في الأمريكتين يحذر الخبراء من أن الفيروس الذي خرج ذات مرة من القارة الأفريقية ليس سوى واحد من بين عدد متزايد من الأمراض التي ينقلها البعوض والتي تفتك بالقارة مهددة بالخطر قطاعات كبيرة من البشر.
والمعركة التي تدور رحاها ضد الحشرات في شوارع البرازيل هي الأحدث ضمن حرب قديمة بين الجنس البشري وفصيلة البعوض وهي الحرب التي غالبا ما تكسبها هذه الآفات الحشرية.
قال علماء يوثقون حالات الأمراض التي يسببها البعوض إن جحافل البعوض تهاجم الآن بأعداد متزايدة من العاصمة الأمريكية واشنطن وحتى ستراسبورج بفرنسا ما ينفي الاعتقاد السائد بأن الأمراض التي ينقلها لا تزال تقتصر على المناطق المدارية الحارة.
ومن المفارقات أن البشر مدوا البساط الأحمر لهذه الجيوش الغازية من خلال تهيئة الظروف الملائمة لانتشارها والتي تكاد تبلغ حد الكمال في شتى أرجاء العالم مع خلال توفير المناطق العمرانية الرحبة التي تحفل بتلال من القمامة.
تنمو أنواع بعوضة (إيديس إيجبتاي) التي تنقل فيروس زيكا في إطارات السيارات وفي العلب الصفيح وأوعية أكل الكلاب وفي أواني الزهور الموضوعة في الهواء الطلق فيما تَبْرَع إناث البعوض في نشر الأمراض إذ تلدغ الشخص عدة مرات كي تأخذ كفايتها من البروتين الموجود في دم الإنسان والذي تحتاج إليه في وضع بيضها.
وفي شتى أرجاء العالم تتسارع خطى البعوض الناقل للأمراض فيما تنقل الفيروسات –من حمى الدنج وعدوى زيكا علاوة على مجموعة أخرى من الأمراض الأقل انتشارا مثل تشيكونجونيا والحمى الشوكية والالتهاب السحائي- إلى أراض جديدة من أوروبا وحتى المحيط الهادي.
وقالت أنا-بيلا فيلو رئيسة قسم الحشرات الطبية والفيروسات بمعهد باستير بفرنسا "مبعث القلق هو انتشار هذه الأنواع في كل مكان واليوم نحن نركز على زيكا لكن بوسعها أن تنقل الكثير من الفيروسات والكائنات الممرضة".
وفي عام 2014 استفحلت عدوى تشيكونجونيا -التي تسبب حمى وآلام المفاصل- في منطقة الكاريبي حيث لم تكن معروفة هناك من قبل فيما انتشر الفيروس نفسه بين الايطاليين عام 2007 الأمر الذي دق ناقوس الخطر بين مسؤولي الصحة.
وشهدت أوروبا عودة الملاريا للظهور في اليونان لأول مرة منذ عقود فضلا عن حمى غرب النيل في المناطق الشرقية من القارة.
وفي منطقة الأطلسي أعلن أرخبيل مادييرا عن اكتشاف أكثر من ألفي حالة إصابة بحمى الدنج عام 2012 في مؤشر على الزحف شمالا لما كان يعتبر آنذاك أسرع انتشار لمرض من المناطق الحارة وذلك قبل الاستفحال السريع لزيكا بالطبع.
وخلال الأعوام الأربعين الماضية ترسخت أقدام أنواع غازية جديدة من البعوض في أوروبا ووصلت خمسة أنواع منها منذ عام 1990 وجاءت في الأغلب الأعم من خلال التجارة الدولية في إطارات السيارات المستعملة حيث يضع البعوض بيضه في إطارات السيارات فيما تسهم الرطوبة في فقس البيض جراء سقوط الأمطار.
ويسابق خبراء الصحة في أمريكا الشمالية الزمن لمواكبة الأحداث مع أول ظهور لبعوضة (إيديس جابونيكاس) -وهي من النوع العدواني المنتشر- في غرب كندا في نوفمبر تشرين الثاني الماضي كما رصدت بعوضة (ايديس إيجيبتاي) في العاصمة الأمريكية واشنطن بعد أن قضت الشتاء على ما يبدو في شبكات الصرف الصحي أو محطات مترو الأنفاق.
تقول جوليون ميدلوك خبيرة الحشرات الطبية في الهيئة الحكومية للصحة العمومية بانجلترا إنه لا مثيل لسرعة تغير الأمراض التي ينقلها البعوض منذ نهاية تسعينات القرن الماضي.
ويرى معظم الخبراء أن الخطر الأكبر يكمن في بعوضة (ايديس ألبوبيكتاس) وتعرف أيضا باسم بعوضة النمر الآسيوية التي تتوسع في مناطق معيشتها إلى حد كبير ويمكنها أن تنقل أكثر من 25 فيروسا منها زيكا.
وقال رالف هارباتش خبير الحشرات في متحف التاريخ الطبيعي في لندن الذي يعكف على دراسة الحشرات منذ عام 1976 "ثمة أدلة قوية على أن بعوضة (ايديس ألبوبيكتاس) تتفوق الآن على بعوضة (ايديس إيجيبتاي) عددا في بعض المناطق فيما أصبحت أكثر شيوعا".
وفي الولايات المتحدة تنتشر بعوضة (ايديس ألبوبيكتاس) في أقصى الشمال حتى ماساتشوستس وفي أقصى الغرب حتى كاليفورنيا وفي أوروبا وصلت إلى باريس وستراسبورج.
ومما يضاعف من التحديات التي تجابه سلطات الصحة العامة عدم وضوح الرؤية بشأن الخطوط الفاصلة بين الأمراض التي تنقلها أنواع مختلفة من البعوض في حين أوضحت دراسة بالبرازيل هذا الشهر أن بعوضة أخرى تسمى (كيولكس كوينكيفاسياتوس) قد تكون قادرة على نقل فيروس زيكا.
يعتقد العلماء أن بعوضتي (ايديس إيجيبتاي) و(كيولكس كوينكيفاسياتوس) ربما تكونان قد وصلتا لأول مرة إلى الأمريكتين قادمة من أفريقيا على السفن التي كانت تنقل العبيد وفي القرون التي أعقبت ذلك تكفلت التجارة بنقل مختلف الأنواع الأخرى إلى شتى بقاع العالم فيما أسهمت حركة النقل الجوي في تعريض الملايين لأمراض جديدة.
وتقول ميدلوك "لديك تحركات عالمية للبعوض وزيادة هائلة في سفر البشر ويقوم الناس بنقل الكائنات الناقلة للأمراض في مختلف الأنحاء في حين تتربص أنواع البعوض بالبشر لنقل الأمراض".
ومما زاد من الأمر سوءا اقتحام البشر لغابات المناطق الحارة فعلى سبيل المثال تنصب المسؤولية عن قطع الغابات في ماليزيا على الزيادة الهائلة في إصابة البشر بحالات من الملاريا لا توجد إلا لدى القردة.
* لا تقتلوا الأخيار
ولقد تحقق قدر من الانتصار على البعوض بفضل ناموسيات الأَسَرَّة المعالجة بالمبيدات الحشرية واللقاحات المضادة للفيروسات مثل الحمى الصفراء والحمى الشوكية اليابانية علاوة على علاج جديد ضد حمى الدنج ووفق عليه في ديسمبر كانون الأول الماضي.
لكن مؤسسة بيل وميلندا جيتس تقول إن البعوض لا يزال يقتل نحو 725 ألف شخص سنويا ومعظم الوفيات بسبب الملاريا.
وتقول منظمة الصحة العالمية إن تغير المناخ يضيف أعباء جديدة إذ أن زيادة درجة الحرارة بواقع درجتين أو ثلاثة يمكن أن يزيد من أعداد البشر المعرضين للإصابة بالملاريا بنسبة تتراوح بين ثلاثة وخمسة في المئة أو أكثر من 100 مليون شخص.
ويقول مركز فيلو بمعهد باستير إن ارتفاع درجة الحرارة يسَرِّع من دورة حياة البعوض من نحو أسبوعين عند درجة حرارة 25 مئوية إلى سبعة إلى ثمانية أيام عند درجة 28 مئوية.
لذا فقد حان الوقت للقضاء على البعوض نهائيا.
كانت الإجراءات المشددة خلال فترة خمسينات وستينات القرن الماضي بما في ذلك استخدام المبيد الحشري (دي دي تي) قد قضت يقينا على البعوض لفترة ما.
واليوم يجري البحث عن أساليب أخرى منها التعديل الجيني والإشعاع والبكتريا التي تستهدف البعوض دون غيره.
إلا أن محاولة استئصال أنواع البعوض جميعها لا معنى لها لأن هناك 3549 نوعا من البعوض في حين أن أقل من 200 منها هي التي تلدغ الإنسان.
يقول هارباتش "قد يكون من الممكن القضاء على قلة من الأنواع لكننا لا نريد التخلص من الأنواع المفيدة منها لأن الكثير منها يستخدم كغذاء للضفادع والأسماك والخفافيش. والكثير من أنواع البعوض الأخرى يتردد على الأزهار للتغذي على الرحيق وقد يلعب دورا في تلقيح الزهور".
يقول هارباتش إن بعض أنواع البعوض يعتبر من أصدقاء الإنسان وأشاد بجنس بعوضة (توكسورينشايتس) الذي يميل إلى التغذي على يرقات بعوضة (ايديس إيجبتاي).
أرسل تعليقك