طلال سلمان
يغور «الميدان» بحشوده المليونية عميقاً في الوجدان، ويتبدى بعيداً جداً إلى حد الغربة، في هذه اللحظة، لكأن وقائعه حدثت قبل قرن!
تفرقت الملايين التي تدفقت إليه متزاحمة، متراصفة، متماسكة على اختلاف توجهاتها، وضرب اليأس أطنابه في «الميدان» الذي شهد انبثاق نور «الثورة»، فإذا الجمع قد تفرّق أيدي سبأ، وإذا الخلافات قد مزّقت الصفوف التي تلاقت وتراصّت خلف إرادة التغيير.
لكأن التظاهرة العظمى التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، كانت آخر مواعيد التلاقي: اعتبر كلٌ أنه قد أدى واجبه كاملاً، تاركاً الكلمة الأخيرة لمن يستطيع تحويل الهتاف طلباً للتغيير إلى أمر بالتنفيذ، الجيش.
ولقد نفذ الجيش، وعادت الجماهير إلى البيوت، تاركة في عهدته آمالها ومطامحها ومطالبها في التغيير: عيش، حرية، عدالة اجتماعية.
ما أطول المسافة بين الشعار والإنجاز، وكل شيء في البلاد خرب: أجهزة الدولة، التنفيذية والتشريعية، حتى القضاء الذي كان يحكم باسم الحاكم لا باسم القانون. والحاكم هو من يبتدع الدستور، وهو الوصي على القضاء، وهو بشخصه القانون!
الفقر أقوى من الثوار. صحيح أنه بين الدوافع إلى الثورة، لكن متى تحوّلت الثورة إلى سلطة، برز الفقر مجدداً وقد فقد زخمه كقوة للتغيير أمام الأزمات الخطيرة التي لا حلَّ قريباً لها. تتصدى مشكلات المجتمع، بملايينه التي تتوالد من ذاتها، للسلطة الجديدة التي جاءت من قلب المؤسسة الصامتة، فتحاول تأمين الحلول السريعة لأزمات مر عليها الزمن، فزاد من خطورتها في غياب القدرة على مواجهتها مجتمعة، فيبدأ البحث في جدولتها، ثم في محاولة تأمين المداخيل الإضافية، وتلوح دول النفط وكأنها المنقذ.
يجيء خبر وفاة العاهل السعودي عبدالله بن عبد العزيز من خارج السياق. بل إنه يأتي في لحظة حاسمة، وبينما كانت العلاقة معه تحديداً تحمل الوعد بتيسير أسباب علاج الأزمات الداخلية، في مختلف البلدان التي غيّرت فيها «الميادين» قمة السلطة فخلعت أنظمة الطغيان وجاءت بأنظمة جديدة تحمل دمغة الثورة الشعبية.
العزاء واجب، حتى لو كان الراحل الكبير من أهل النظام وليس من أهل الثورة. إنه، في جانب من سلوكه، عدو لـ «الإخوان»، أي لمن كان في موقع العداء للثورة التي تفجرت فخلعته. والقاعدة أن عدوّ عدوّك صديقك. إذاً لا بأس من التصرف مع أهل الراحل الكبير كأصدقاء من خلال التلاقي على خصومة الطغاة الذين توجّب خلعهم، سواء كانوا من أهل الماضي أو من حملة الشعارات مزورة الدين الحنيف لتحكم باسمه.
لقد سقطت الفروق بين الأنظمة العربية، فتوحدت جميعاً في موكب التعازي بالملك عبدالله بن عبد العزيز، الذي تحلى بمزايا لا تتوفر، في العادة، بين الملوك أبناء الملوك، ولا سيما بين أولئك الذين يحكمون باسم الشريعة، والذين أخرجوا ــ قبل الآخرين ــ «الإخوان» من دائرة الجدارة بالحكم باسم الشريعة. إذاً، لا بأس من التلاقي معهم وقد جمعت بين الكل الخصومة المشتركة للمتاجرين باسم الدين والذين استخدموه منصة للقفز إلى سدة الحكم.
علينا الاعتراف بهزيمة العقائد عندما يتقدم، تحت ستارها، الطامحون إلى الحكم فيأخذونه بقوة السيف. إنهم يغتالون حزبهم، بداية، وإن ظلوا يرفعون شعاراته على سرايات حكمهم باسم إرادة التغيير.
وها قد اندحرت العقائد القومية والتقدمية، وتزاحم القادة الذين وصلوا إلى السلطة بشعاراتها، في طابور المعزين، فتبدّوا وكأنهم يتقبلون التعازي بتاريخهم وبالأحزاب التي يسّرت لهم الفرصة للقفز إلى السدة. لا بد لهؤلاء وأمثالهم من الحزبيين الذين طالما حلموا بالثورة كطريق إلى التغيير، أن يعترفوا بأن هذا النظام الملكي ــ العائلي الذي طالما قاتلوه واعتبروه قيادة المعسكر الرجعي والثورة المضادة، قد انتصر عليهم. يمكن لهم أن يعزّوا أنفسهم بالقول إن النفط أقوى من العقائد وإن الذهب يغلب الأفكار، وإن الدين أقوى بكثير مما كانوا يعتقدون. خصوصاً أن الذين يرفعون رايته الآن ليسوا حزباً، بل هم حراس الكعبة ومنازل الوحي والأرض التي باركها الله فاختار من بين أبنائها الرسول الأكرم.
ها هم الثوار القدامى ينتظمون في الصفوف مع الثوار الجدد في مواكب التعازي بالملك الراحل، الذي وصل البعض في رثائهم له إلى حد اعتباره بطل التغيير في قلب النظام الذي لا يستسيغ أهله التغيير.
لقد تراصف الكل في المواكب، وتزاحموا على أبواب قصر اليمامة في الرياض من أجل تقديم العزاء. اختلط أبطال الثورات وحركات التغيير بقادة الدول الإمبريالية ورجالات النظام الاستعماري القديم، مع أبطال الانتصار على الاشتراكية في قلب موسكو وسائر عواصم المعسكر الاشتراكي.
الكل كانوا هناك، في ذلك الموكب المهيب: قادة البلدان الخارجة لتوّها من أتون الحرب الأهلية، أو التي هي على باب الحرب الأهلية، تحثّ الخطى إليها، أو تلك التي تحاول تجنب الانزلاق بالفقر إلى أتونها.
القيادات داخل القصر تقدم تعازيها محاولةً قراءة خريطة التفاهم مع الحكم الجديد الذي قد يتبدى مثلث الرؤوس وإن ظل القرار واحداً.
تلتف الأنظمة العربية، على وجه الخصوص، حول أغناها. الذهب يشد بوهجه ويسحر بقدرته على اختراق المستحيل. أنظمة الفقراء جاءت تعزي وهي تتوقع أن تحسب لها هذه المبادرة غداً عند البحث في المساعدات والقروض والفوائد.
ثم إن النظام السعودي يملك القدرة على إصدار شهادات حسن السلوك. وواشنطن تقبل هذه الشهادات وتمنح أو تمنع على أساسها.
أنظمة الفقراء تحتمي بالنظام الأغنى وتحميه.
النفط أقوى من القومية والاشتراكية والوحدة.. فكيف إذا ما تعززت قوته بالدين الحنيف. هنا الدين والدنيا وقد اجتمعا، فأين المفر؟!
واشنطن تتصدر الموقف ومن خلفها عواصم الغرب بتراتب القوة عبر التاريخ: بريطانيا التي هي الأعرق في العلاقة مع أهل الصحاري المذهبة، وبعدها ألمانيا لأنها الأغنى، ثم فرنسا التي تعرض تاريخها للبيع مع السلاح، وغير بعيد تقف الصين وقفة استعداد للقفز وقد خلّفت صور ماو تسي تونغ في المتحف، بينما تتقدم موسكو بخطى بطيئة متهيبة لحظة الحساب على حاضرها بعنوان سوريا والعراق وإيران وصولاً إلى اليمن.
الكل في قصر اليمامة. وبعضهم أتى ليوطد علاقة تاريخية ثابتة، وبعضهم جاء يحاول بناء علاقة مصالح دائمة مع نظام العائلة التي قاتلت ثلاثمئة عام لكي تقيم مملكتها التي كانت مرتعاً للفقر تعيش من موسم الحج، والتي غدت الآن أغنى بلاد العالم وقد تعززت قداسة أرض الرسالة المحمدية بالذهب الأسود الذي تختزنه الصحاري البلا حدود.
هموم الرياض مؤجلة الآن. لقد ابتكرت العائلة صيغة جديدة للحكم: للملك ولي عهد ومعه ولي لولي العهد. الأمراء كثير عديدهم. يتحدثون عن آلاف، الملك المؤسس تزوج مراراً وتكراراً حتى بات له ستة وثلاثون ابناً، أما البنات فلا يدخلن في الجدول العائلي. يتم الحديث عنهن سراً، ولا يخرجن من قصور أهل الحكم إلا نادراً وفي مجال مكافأة المخلصين.
هموم الملك الجديد، ومعه ولي عهده وولي الولي، كثيرة ومتشعبة. تبدأ من القصر ذاته، وتتعاظم مع أخبار التطورات في اليمن، وأخبار «داعش» الذي يقف على الأبواب مذكراً بجهيمان العتيبي الذي احتل مع جماعته من «الجهاديين» الكعبة المشرفة ذات يوم من كانون الأول 1979، وكان لا بد من الاستعانة بالخارج، عرباً مؤمنين وأجانب كفاراً، للقضاء على حركته التي شكلت أعظم تهديد للمملكة.. ومن قلب شعاراتها.
الميدان مغلق الآن على الذكريات.
في تونس أعادوا صياغة النظام القديم برجاله، وفي مصر تجري المحاولة لإعادة صياغة النظام من دون التصادم مع السلف الذي تنازل عن سلطاته بلا قتال، وليس ذنبه أن يكون «الإخوان» قد صادروا الميدان.. بالديموقراطية، ولو مزورة.
أمام الميدان مهمات عديدة معقدة وصعبة تحتاج إلى تنظيم الملايين التي اصطنعت فجر التغيير، ثم انسحبت من الميدان قبيل سطوع شمس الغد.
والكفاح دوار، قبل مواكب العزاء وبعدها.