محاكمة للبنان الطائف أيضًا

محاكمة للبنان الطائف أيضًا

محاكمة للبنان الطائف أيضًا

 العرب اليوم -

محاكمة للبنان الطائف أيضًا

حازم صاغية

تُعدّ المحكمة ساحة للمواجهة بين حقّ وباطل، وبين براءة وجريمة. وهذه، بالطبع، وظيفتها الأساس والأولى. لكنّ المحكمة قد تكون أيضاً، ساحة للمواجهة بين حقّ وحقّ في قضيّة أكثر تعقيداً، أو بين باطل وباطل في قضيّة لا تقلّ تعقيداً.

والمحكمة المعقودة في لاهاي والشهادات التي يُدلى بها في جريمة اغتيال رفيق الحريري، تؤدّي بعض هذه الوظائف مجتمعةً. فهي، فضلاً عن وظيفتها التثقيفيّة التي تعرّف بالتاريخ السياسيّ الحديث للبنان – الطائف، وتعيد تنظيمه، تنظر في الجريمة التي يسهل حيالها فرز الحقّ عن الباطل والبراءة عن الارتكاب. وفي المعنى هذا، فجريمة اغتيال الحريري تبقى، على شناعتها واستثنائيّتها، من النوع البسيط.

لكنْ على هامش الوظيفة الأمّ هذه، هناك الجريمة الأكثر تعقيداً ولبساً، حيث يتراءى الأمر محاكمة جماعيّة للبنان واللبنانيّين في حقبتهم الممتدّة على عقدين ونصف العقد، هي زمن الطائف. فهنا نطلّ على تعادل تراجيديّ بالمعنى اليونانيّ القديم للكلمة، تعادلٍ لم يكن محروساً بأكثر من التلفيق والتواطؤ الجماعيّ على النفس، كي لا نرى الأخطار المحدقة التي كانت تتقدّم نحونا. وليس من دون دلالة رمزيّة أنّ اللبنانيّين «احتفلوا»، قبل يومين، بالذكرى السابعة لغزو بيروت الذي كان، هو الآخر، من نتائج التركيبة التي أتى بها خليط يجمع بين الطائف وانهيار الطائف.

والمسألة، في نهاية المطاف، أكثر من النقد التقني الدارج الذي يؤكّد «عدم تطبيق الطائف»، محاولاً تنزيهه كأنّه النصّ الأعلى، ومن ثمّ حصر النزاعات السياسيّة في هرطقة التجرّؤ عليه.

فعدا افتقاره إلى إطار نظريّ أو فلسفيّ أعرض، كان الطائف صياغة تستبعد توقّع اليوم التالي وتتواطأ مع رغبة اللبنانيّين في العيش يوماً بيوم. هكذا، وفي حدود القدرات المتاحة، نشأت الاختصاصات الشهيرة للطوائف، حيث اختصّ السنّة، من خلال الحريري، بـ «إعمار» لا يتدخّل في أمره الشيعة والمسيحيّون، فيما اختصّ الشيعة، من خلال «حزب الله»، بـ «مقاومة» لا يتدخّل فيها أحد سواهم. أمّا المسيحيّون فتُرك لهم «التهميش» الشهير، أي انعدام الاختصاص.

وطبيعيٌّ في تركيبة كهذه، أن تزدهر علاقات البيع والشراء والرشوة والتدليس والتقلّب وانعدام الثبات على مبدأ أو أيّ ولاء مبدئيّ.

وهذا إنّما كان الشكل اللبنانيّ لإعادة بناء الوطن عبر مقايضة كلّ شيء بالمناصب والمنافع، كما كان الشكل اللبنانيّ لأزمة عربيّة عريضة انفجر بعضها مع ثورات «الربيع العربيّ». فاقتصار النقد على «عدم تطبيق الطائف» يفترض، أوّلاً، أنّ القوى المعنيّة كان في وسعها أن تطبّق الطائف. وهو، فوق هذا، يغضّ النظر عن مفاهيم وعلاقات اتّسع لها الطائف حتّى شكّلت البنية التحتيّة للحياة السياسيّة اللبنانيّة، من نوع المقاومة والأخوّة واقتصاد الرشوة والرعاية الإقليميّة وثقافتها، ممّا يتواطأ الجميع والجميع على إبقائه خارج دائرة النقد.

لقد عاش اللبنانيّون في تلك السنوات، مُصغّراً عمّا عاشه الألمان الشرقيّون مرموزاً إليه بمخابرات «شتازي» من حيث التعفّن المجتمعيّ العريض. وهذا ليس عنصراً طارئاً من خارج الطائف، بل عنصر كامن فيه، لا يريد أحد أن يراه، ناهيك عن الاعتبار به.

ومحكمة لاهاي إذ تحقّق في جريمة اغتيال الحريري، فإنّها أيضاً تحقّق في جريمةٍ لن يُعاقَب أحد عليها، هي اغتيال لبنان على أيدي اللبنانيّين أنفسهم، لا فضل لواحد منهم على آخر في ذلك.

arabstoday

GMT 04:50 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

GMT 04:48 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب الثاني... وقبائل الصحافة والفنّ

GMT 04:45 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

مع ترمب... هل العالم أكثر استقراراً؟

GMT 04:43 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

اللغة التى يفهمها ترامب

GMT 04:42 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

لماذا السياسيون في بلداننا مهمومون جداً؟

GMT 04:38 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

ترمب... ومآلات الشرق الأوسط

GMT 04:35 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

نهايتان!

GMT 04:33 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

«غزة الأسود»: شهادة على مأساة إنسانية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

محاكمة للبنان الطائف أيضًا محاكمة للبنان الطائف أيضًا



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 05:58 2024 الجمعة ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

من الرياض... التزامات السلام المشروط

GMT 07:03 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 10:26 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

ليفربول يُرهن ضم مرموش في انتقالات يناير بشرط وحيد

GMT 11:44 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

ارتفاع أرباح "أدنوك للإمداد" الفصلية 18% إلى 175 مليون دولار

GMT 13:23 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

رونالدو وميسي على قائمة المرشحين لجوائز "غلوب سوكر"

GMT 20:14 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

أفكار هدايا مبتكرة ومميزة في موسم الأعياد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab