ما زال المتحدثون باسم “الدولة الاسلامية” يلتزمون الصمت تجاه عملية الانزال التي قامت بها فرقة “دلتا”، احدى وحدات قوات النخبة الامريكية الخاصة المتمركزة في العراق، وادت الى مقتل ابو سياف “التونسي” (وزير النفط) المسؤول عن عمليات التهريب وجمع الاموال لخزينة “الدولة”، الامر الذي يزيد من حالة “الغموض” التي تلف هذه العملية، وتلقي الكثير من ظلال الشك حول دقة الرواية الامريكية.
المتحدثة باسم مجلس الامن القومي في البيت الابيض برناديت ميهان قالت ان فرقة “الكوماندوز″ المذكورة وصلت الى المجمع النفطي في حقل “العمر” الذي يعتبر واحد من اضخم آبار النفط السورية في محافظة دير الزور، وتسيطر عليه قوات الدولة الاسلامية، بعد عملية انزال تمت بالتنسيق مع السلطات العراقية، واشتبكت مع قوات “الدولة” وقتلت 12 شخصا بينهم ابو سياف التونسي.
***
هناك عدة ملاحظات اساسية يمكن التوقف عندها، استنادا الى دراستنا لملف الجماعات “الجهادية” لاكثر من عقدين، يمكن ان تفيد في معرفة واستقراء بعض التفاصيل التي ربما تغيب عن القاريء العادي غير المتخصص:
اولا: لا تتردد الجماعات “السلفية الجهادية” في الاعلان عن قتلاها، او بالاحرى “شهدائها”، حسب ادبياتها، وانطلاقا من الالتزام باحكام الشريعة التي تحتم هذا الاعلان لامور تتعلق بالارث وتوزيعه، وزوجات “المرحوم” وحقهن في الزواج بعد انتهاء العدة، اذا رغبن في ذلك، وهذا ما حدث بعد نجاح فرقة “سيل” او “العجول” الامريكية في اغتيال الشيخ اسامة بن لادن زعيم تنظيم “القاعدة” في منزله في ابوت اباد آيار (مايو) عام 2011، وجميع قادة وافراد تنظيم “القاعدة”.
ثانيا: لا نعتقد ان الهدف الاساسي من عملية الانزال هذه هو “ابو سياف التونسي” وقتله، لعدة اسباب، اولها انها تمت بإذن شخصي من الرئيس الامريكي باراك اوباما، مما يدفعنا الى الاعتقاد بأن مثل هذا الامر، وصدوره من قبل اعلى رتبة عسكرية وسياسية امريكية (اوباما القائد الاعلى للجيوش الامريكية)، لا يمكن ان يصدر الا لاغتيال شخص في حجم السيد ابو بكر البغدادي زعيم “الدولة الاسلامية”، على غرار ما حدث في عملية اغتيال الشيخ بن لادن.
ثالثا: فشل فرقة “الكوماندوز″ في اعتقال ابو سياف التونسي حيا، يعني انه ورفاقه حاربوا حتى الموت، ورفضوا الاستسلام، وكل ما استطاعت هذه الفرقة اسرهم احياء هي زوجته التي اعتقلوها ونقلوها الى بغداد، وقالوا انها عضو بارز في تنظيم “الدولة” لتبرير اعتقالها، وربما تعذيبها لاحقا، مضافا الى ذلك فتاة ازيدية كانت في المنزل، وقالوا انها “مستعبدة”، وجرى تحريرها الامر الذي يزيد حالة الغموض تجاه العملية والرواية الامريكية بشأنها، فمن المؤكد ان اسر ابو سياف واكبر عدد من رفاقه احياء هو اكبر الاهداف للحصول على اهم المعلومات عن الدولة وتمويلها وبنائها التنظيمي، ومكان اختفاء قائدها واركانه العسكرية.
رابعا: الرواية الرسمية قالت ان عدد قتلى “الدولة الاسلامية” يبلغ 12 شخصا، لكن بيان المرصد السوري لحقوق الانسان الذي يراسه السيد رامي عبد الرحن قال ان العدد الحقيقي للقتلى هو 32 قتيلا، وان من بين القتلى اربعة من قادة الدولة احدهم عمر الشيشاني “وزير دفاع″ الدولة، وهذا يعني ان هناك فارقا في عدد القتلى بين الرواية الامريكية وبيان المرصد يقدر بحوالي 20 قتيلا، فمن هم هؤلاء القتلى، وهل هم من المدنيين، وهذا شبه مؤكد، ثم ماذا عن خسائر الجانب الامريكي، وهل يعقل انه لم يسقط اي قتيل او جريح امريكي في عملية انزال بهذه الضخامة، والاشتباكات التي اندلعت خلالها مع مقاتلي “الدولة الاسلامية”؟
***
عملية التسلل الامريكية هذه تشكل نقطة تحول رئيسية في الحرب ضد تنظيم “الدولة الاسلامية” لانها المرة الثانية التي تلجأ اليها القيادة العسكرية الامريكية بعد عملية الانزال الاولى الفاشلة التي حاولت انقاذ الصحافي الامريكي جيمس فولي الذي كان اسيرا لدى قوات هذه الدولة، وجرى اعدامه لاحقا، فهل تعني هذه العملية ان القيادة العسكرية الامريكية بدأت تدرك عدم جدوى القصف الجوي وحده في اضعاف قدرات “الدولة الاسلامية” بعد 3700 غارة، واكثر من 11 شهرا من بدئه، خاصة ان قوات هذه الدولة استولت على مدينة الرمادي كبرى مدن اقليم الانبار قبل يومين، ومعظم مدينة الفلوجة، وتتقدم بقوة في محافظة تدمر، وتستعد لمهاجمة العاصمة بغداد؟ اي ان الغارات لم تضعفها بل زادتها قوة وتمددا.
مسألة اخرى يمكن استنتاجها من المعلومات المتوفرة حتى الآن حول هذه العملية، وهي انها تعكس توجها امريكيا بالتركيز على اغتيال قادة “الدولة الاسلامية”، او الصف الاول من القيادة اولا، ولانه من غير الممكن ان تكون عملية الانزال هذه قد تمت دون “اختراق امني”، وبناء على معلومات مؤكدة من وجهة نظر القيادة الامريكية حول وجود “هدف كبير” في المجمع النفطي في وزن السيد البغدادي، تماما مثلما حصل قبل اغتيال زعيم تنظيم القاعدة، فاذا كان الهدف فعلا هو السيد البغدادي، فهذا يؤكد ان هذا الاختراق لم يكن دقيقا، وربما كان خدعة ومصيدة.
لا نستبعد ان يكون السيد البغدادي هو “الحوت” الكبير الذي ارادت هذه العملية اصطياده، لانها جاءت بعد “حرب نفسية” مكثفة، اوحت بأن الرجل اصيب اصابة قاتلة، لدفعه الى اثبات عكس ذلك من خلال خروجه الى السطح من خلال شريط مصور، لاجراء التحليلات الاستخبارية اللازمة لتحديد مكانه وصحته لوضع خطط لاعتقاله، وهو ما لم يحدث، وجرى اصدار شريط فعلا لكنه كان صوتيا، مما يثبت ان هناك من يفهم قواعد الحرب النفسية الامريكية ومراميها.
الامر المحير ان الرئيس اوباما شكر الحكومة العراقية لتعاونها في هذه الغارة الارضية، ولكنه، او المتحدثة باسم مجلس الامن القومي في البيت الابيض، نفت نفيا قاطعا التنسيق مع الدولة التي وقعت فيها عملية الانزال، وهي سورية، فهل هذا يعني ان البيت الابيض يعترف بشكل “غير مباشر” بسيادة “الدولة الاسلامية” وحدودها على جانبي الحدود السورية العراقية، الامر الذي لا يطالبه قانونيا بالتنسيق مع الدولة السورية؟ ام ان الارض السورية كلها اصبحت ارضا مشاعا لامريكا وحلفاءها في الوقت الراهن تخترق سيادتها كما تشاء؟
***
ختاما يمكننا القول ان الجانب الاخطر في عملية “الكوماندوز″ هذه يكمن في كونها تشكل تصعيدا في هذه الحرب يمكن ان يؤدي الى اعمال انتقامية خارج حدودها الحالية، اي في سورية والعراق، سواء من قبل “الدولة الاسلامية” نفسها، او فروعها التي بايعت زعيمها وانضوت تحت لوائها في اماكن عديدة من العالم الاسلامي، وخلايا اخرى في اوروبا وامريكا ايضا.
انها حرب دموية شرسة نعرف كيف بدأت واين، ولا نعرف كيف، ومتى سوف واين ستنتهي.