إنها الأميرة «فوزية» ابنة الملك «فؤاد الأول» حفيدة الخديو «إسماعيل» حفيد «محمد على» الكبير وشقيقة الملك «فاروق» التى ارتبطت بمصاهرة ملكية عندما تزوجت «محمد رضا بهلوى» ولى عهد «إيران» الذى أصبح الشاه حتى أطاحت به ثورة «الخمينى» الإسلامية فى فبراير 1979، وهذه الأميرة تحديداً هى واحدة من أجمل أميرات الأسرة العلوية التى حكمت «مصر» قرابة قرن ونصف، وعندما تقدم القصر الإمبراطورى فى «طهران» ليخطب ابنة أرقى العروش الحاكمة فى الشرق الأوسط، حينذاك لم يفكر المصريون ولا «الأزهر الشريف» وشيخه الكبير أنها أميرة «سُنية» سوف تتزوج أميراً «شيعياً»،
إذ لم تكن الفروق المذهبية مطروحة على الساحة بالشكل الذى نراه حالياً نتيجة التدخلات الأجنبية التى استثمرت الطوائف الدينية لخلق الفتن وتقسيم الأمم، بل كان الاعتراض العام وقتها هو أن الأميرة سليلة عائلة ملكية عريقة بينما ابن إمبراطور «إيران» هو ابن «شاويش» فى الجيش الإيرانى أتت به القوى الأجنبية على رأس السلطة فى «طهران»،
ومع أن الوصول إلى الحكم يخفى العورات التاريخية للأسر والحكام فإن الفارق الطبقى وليس المذهبى كان محل جدل فى ذلك الوقت، ولكن «فاروق» رحب بمشروع المصاهرة وقالت له شقيقته الأميرة: «مادمت أنت موافقاً فأنا موافقة»، وجرى تجهيز زفافها الأسطورى من أثاث القصور الملكية والتحف النادرة التى كانت أسرة «محمد على» معروفة باقتنائها حتى سقط «فاروق» وجرى نهب جزء غير معلوم منها، ولقد قادتنى الظروف لأقترب من قصة هذه الأميرة الراقية أو الإمبراطورة المتمردة مرتين فى حياتى؛ الأولى عندما أوفدت وزارة الخارجية (نجاراً) مصرياً لإصلاح بعض قطع الأثاث فى السفارة المصرية بـ«لندن» وتعاملت معه بحكم موقعى الدبلوماسى الصغير، حيث حكى لى الرجل أنه كان ضمن البعثة التى حملت أثاث ومنقولات الأميرة «فوزية» إلى «طهران» عند زفافها،
وكنت أستمع إلى الرجل كل يوم على امتداد الأسبوع الذى أمضاه ندباً من ديوان الوزارة بـ«القاهرة» إلى السفارة فى «لندن»، حيث كانت نفقات حضوره أقل على الدولة من العمالة الإنجليزية، ولقد ذكرتنى أحاديث ذلك النجار الطيب وهو يتحدث بتلقائية حول ذلك الزفاف الأسطورى والفارق الكبير الذى رآه بين القصور الملكية المصرية والقصور الملكية الإيرانية، ذكرتنى بقصة زواج «قطر الندى» ابنة «أحمد بن طولون» إلى قصر الخليفة العباسى فى «بغداد» قبل ذلك بعدة قرون، وقد قرأت بعد ذلك باستمتاع كتاب «كريم خليل ثابت» ابن صاحب ج
ريدة «المقطم» ذى الأصول الشامية، والذى كان مستشاراً للملك «فاروق» وقريباً منه، وقد حكى «ثابت» فصلاً عن قصة زواج الأميرة المصرية التى أصبحت الإمبراطورة الإيرانية، ولكنى لاحظت منه شيئاً من التحامل على «فاروق» لأن «كريم ثابت» أصدر ذلك الكتاب بعد قيام الثورة المصرية عام 1952، ولقد ساقتنى الظروف مرة أخرى لكى أقترب من تاريخ هذه الأميرة عندما أمضيت ساعات مع الدكتور «حسن كامل» فى العاصمة القطرية منذ عدة سنوات عندما كنت أعمل مع الرئيس الأسبق «مبارك»، ويومها فتح لى الدبلوماسى المصرى العجوز خزينة أسراره، فهو واحد من رفاق الدكتور «محمد صلاح الدين»، وزير خارجية حكومة «الوفد»، وقد ظل دبلوماسياً فى الخارجية المصرية إلى أن أطاحت به يد التطهير بعد ثورة 1952 عندما جرى استبعاد من كانت لهم صلات قوية بمراكز الحكم فى «مصر» من بين أعضاء السلك الدبلوماسى قبل الثورة،
وحكى لى «د. حسن كامل»، المستشار الأول لأمير «قطر» الأسبق الشيخ «خليفة بن حمد آل ثانى»، وقد رأيته يقدم الدبلوماسى المصرى أمامه فى الجلسات ويتحدث عنه كأستاذ له، فلقد كان الدبلوماسى المصرى الراحل يمضى مع الثمانينيات من العمر حينذاك، فهو خريج كلية الحقوق المصرية عام 1928 وقصته مع الأميرة «فوزية» لا يعرفها الكثيرون، فقد أوفده الملك «فاروق» فى زيارة غير معلنة إلى «طهران» بعدما علم أن أخته الإمبراطورة غير سعيدة فى حياتها وتشعر بتفاوت كبير بين ماضيها وحاضرها، لذلك ذهب الدكتور «حسن كامل» إلى «طهران» مبعوثاً إلى الأميرة وجلس معها منفرداً فى حديقة القصر، فقالت له: أبلغ جلالة الملك «فاروق» شقيقى أن شاه «إيران» يلهو بالنساء صباح مساء، ولا يعطينى ما أستحقه من اهتمام، ولا أشعر بسعادة معه. وعاد المبعوث المصرى حيث استقبله الملك «فاروق» منفرداً وعندما سمع منه شكوى شقيقته المتمردة على حياتها الزوجية بعد أن أنجبت أميرة صغيرة من إمبراطور «إيران» ظل «فاروق» يقهقه بصوت مرتفع ويقول لـ«حسن كامل»: لماذا لم تقل لها إن ملك «مصر» يفعل ما يفعله إمبراطور «إيران» الجديد، وعليها أن تعرف أن هذه هى حياة الملوك والأباطرة؟!
ولكن «فاروق» على ما يبدو كان قد عقد النية على تطليق شقيقته تغطية على طلاقه الذى كان متوقعاً من الملكة «فريدة» فطلب حضور شقيقته فى زيارة عائلية إلى «مصر»، فجاءت وفى صحبتها حاشية كبيرة من القصر الإمبراطورى الفارسى، وعلى رأسها شقيقة الشاه التوأم، ولكنها كانت زيارة بلا عودة، حيث جرى تطليق الأميرة المصرية من الشاه الإيرانى الذى كان يتطلع إلى ولى للعرش لم يجده فى زيجته الثانية من الإمبراطورة «ثريا»، ولكن جاءت به الزيجة الثالثة بالإمبراطورة «فرح ديبا»، ولكن ابنه لم يرث عرشاً لأن ثورة الشعب الإيرانى أطاحت بالإمبراطور وولى عهده واقتلعت كل أسرته بقبول «أمريكى» وحماس «فرنسى» وحفاوة «إسلامية» وقتها،
وظل الشاه يبحث عن مأوى بطائرته بعد أن لفظته بلاده ولم ترحب به دول العالم، بما فى ذلك «الولايات المتحدة الأمريكية»، حتى استقبلته «مصر» المضيافة صاحبة التقاليد العريقة فى احترام قواعد اللجوء السياسى، واحتفى به «السادات» حياً وميتاً، ودفنه فى مقبرة ملوك «مصر» فى مسجد «الرفاعى» فى «القاهرة»، وهى نقطة تحسب لـ«السادات» و«مصر» حتى باعتراف كثير من الإيرانيين الذين كانوا معادين لسياسة «الشاه» الذى كان داعماً لـ«إسرائيل» فى بعض مراحل ح
كمه. وقد تزوجت الأميرة «فوزية» بعد ذلك من الضابط المصرى «إسماعيل شيرين بك» الذى كان آخر وزير للحربية قبل ثورة يونيو 1952 وصاحب اليد البيضاء فى دعم لجنة استعادة «طابا» بالتحكيم الدولى، حيث أمدها بالخرائط والوثائق فى عصر الرئيس الأسبق «مبارك»، وقد عُرفت الأميرة «فوزية»- التى اختارت الإقامة بعيداً عن الأضواء فى منزلها الصغير بالإسكندرية- بعزة النفس والكبرياء،
فقد أرسل لها أحد العروش العربية الكبرى شيكاً عن طريق الحكومة المصرية بعدة ملايين من الدولارات ولكنها أعادته إليهم قائلة إنها لا تقبل هدية لا تستطيع ردها أو منحة لا تنتظرها، وقد عاشت الأميرة الراحلة تتابع أحزان عائلتها من شقيقها الملك ثم شقيقتها وصولاً إلى أمها التى ماتت فى «الولايات المتحدة الأمريكية»، وجرى دفنها وفقاً للتقاليد «الكاثوليكية» بعد محنة ابنتها «فتحية» التى قتلها زوجها موظف الخارجية المصرية السابق- القبطى المصرى- الذى هزت قصة تسلله إلى القصر الملكى أركان عرش «فاروق» فى وقتها وجعلته يغضب على شقيقته وأمها، إلى أن جاء الرحيل المأساوى له مرتين؛ الأولى بالنزول عن عرشه والثانية بالرحيل المفاجئ عن الحياة فى منتصف الأربعينيات من عمره، وهو رحيل أحاطت به ظروف غامضة وقصص مازالت تتجدد بين حين وآخر، ولكن الذى يعنينى هنا هو تلك الأميرة الرائعة التى تركت عرش «الطاووس» وعادت إلى حياتها فى وطنها الذى وُلدت على أرضه ودُفنت فى ترابه.