بعد شهرين تقريبا ستكون مصر علي موعد مع افتتاح التفريعة الجديدة لقناة السويس ومعها تعميق المجري الملاحي في منطقة البحيرات. وهذا التطور الفارق فى تاريخ القناة سيمكنها من استيعاب المرور المتزامن لقوافل الشمال والجنوب، وينهي بالتالي فترة الانتظار الطويلة لسفن قافلة الشمال لما يتراوح بين ثماني ساعات وعشر ساعات. والتفريعة الجديدة ليست قناة كاملة وموازية لقناة السويس بل هي عبارة عن وصلة جديدة تماما تم حفرها علي الجاف بطول 35 كيلومترا، أي أكثر قليلا من خمس طول القناة الحالية. واضيف إليها عملية تعميق بطول 37 كيلومترا في منطقة البحيرات لتمكين السفن ذات الغاطس الكبير من المرور في القناة في الاتجاهين دون توقف.
وبقدر ما سيؤدي هذا التطور إلي تمكين القناة من استيعاب مرور عدد أكبر من السفن يمكن أن يصل إلي ضعف العدد الحالي، فإنه سيعزز دور القناة في تمرير التجارة العالمية ويزيد حصيلتها من رسوم المرور. لكن قناة السويس أكبر وأهم كثيرا من مجرد مجري ملاحي يمر منه نحو 18 ألف سفينة سنويا تحمل عشر التجارة السلعية الدولية في الوقت الراهن، فهذه القناة هي مركز ومحور لمنطقة يمكن أن تشكل قلبا صناعيا وتجاريا وسياحيا عالميا لو أُحسن توظيفها وفقا للمشروع الذي يتم تنفيذه في الوقت الراهن. وحتى دورها في التجارة العالمية يمكن أن يتضاعف في ظل تنفيذ التفريعة الجديدة وتعميق المجرى الملاحي، خاصة أنها تملك موقعا استثنائيا وفريدا في ملتقى قارات وأسواق وخطوط التجارة العالمية.
وذلك الموقع العبقري لم تستغله مصر بالصورة التي تحقق لها العائد الأمثل من ذلك الاستغلال خاصة في الفترة التى أعقبت التسوية السياسية مع الكيان الصهيوني، حيث أصبحت تنمية المنطقة وتوسيع نطاق استغلالها اقتصاديا أمرا ممكنا. وتتجسد الأهمية الاقتصادية لموقع قناة السويس في أنه يؤدي لانخفاض نفقات النقل والتأمين بينه وبين الأسواق الرئيسية في العالم. وفي ظل ارتباط مصر باتفاقيات مناطق تجارة حرة مع كل من دول الاتحاد الأوروبي والدول العربية ودول الشرق والجنوب الإفريقي، فإن إقامة الاستثمارات الصناعية من مختلف بلدان العالم وبالذات من دول الشرق الأقصي وروسيا والأمريكتين يصبح عالي الجدوى من أجل دخول السلع التي تنتجها تلك الاستثمارات إلي السوق المصرية وإلى الأسواق التي ترتبط معها مصر بمناطق تجارة حرة.
وبالنسبة للدول الأوروبية فإن إقامة استثمارات لها فى منطقة القناة وفى مصر عموما يمنحها ميزة استخدام عمالة يقل اجرها عن عُشر الأجور الأوروبية ويمنحها فرصة الدخول الحر للسوق المصرية الكبيرة والأسواق التى ترتبط معها مصر بمناطق تجارة حرة. كما أن وجود عدد كبير من الخامات المعدنية والمحجرية فى مصر بكميات تجارية، وقربها من مراكز مهمة لهذه الثروات الطبيعية فى إفريقيا، وقربها أيضا من منطقة الخليج التى تعد خزان النفط الرئيسى فى العالم، يجعلها مرشحة لاستقطاب استثمارات صناعية متنوعة من الشركات الكبرى التى تملك فوائض مالية وتبحث عن فرص لتوظيفها بصورة اقتصادية.
كما أن مرور نحو 18 ألف سفينة فى القناة سنويا وهو عدد مرشح للتضاعف بعد المشروع الحالي، يجعل منطقة القناة مؤهلة للقيام بدور التموين بالوقود والمؤن لهذه السفن، ومؤهلة أيضا لبناء أحواض لصيانة وإصلاح السفن، ولبناء السفن كليا بعد ذلك. كما أن أطقم السفن والتى تتجاوز المليون شخص سنويا يمكن أن تضيف رافدا جديدا للسياحة لو تم إعداد برامج قصيرة للسياحة والتسوق فى مصر لهذه الأطقم.
وهذا المشروع إجمالا هو أحد المشروعات القومية النموذجية فهو مملوك للدولة ملكية عامة خالصة، وتم تمويله من الشعب من خلال شهادات الاستثمار التى كُرست لتمويله والتى تعد بمثابة قرض من الشعب للدولة. كما أن العمالة التى تعمل فى هذا المشروع والبالغة أكثر من 41 ألف عامل وفنى هى من أبناء الشعب، ويضاف إليها عدد محدود من الفنيين الأجانب من أطقم الكراكات الأجنبية العملاقة. كما أن هذا المشروع فى مرحلته الأولى أى حفر التفريعة الجديدة وتعميق المجرى الملاحى يتيح إمكانية مضاعفة عدد السفن المارة والدخل المتحصل منها. وستتوقف سرعة حدوث ذلك على كفاءة ترويج صورة القناة وقدراتها الاستيعابية الجديدة وإدارة العلاقات مع الدول والشركات الكبرى المسئولة عن نقل التجارة العالمية وعن حركة السياحة البحرية.
وتجدر الإشارة إلى أن التجارة السلعية العالمية فى حالة حراك دائم، وتحتاج بالفعل إلى توسيع الطاقة الاستيعابية للقناة لاستيعاب حصة أكبر منها. وتتميز قناة السويس بأنها توفر ثلث زمن الرحلة بين الشرق الأقصى وأوروبا بالمقارنة بالمرور عبر رأس الرجاء الصالح، بكل ما يعنيه ذلك من توفير للنفقات والوقت المهم للغاية لدى نقل السلع القابلة للتلف. وتشير بيانات صندوق النقد الدولى إلى أن معدل نمو حجم (وزن) التجارة الدولية بلغ 2,6% عام 2013، ونحو 2,9% عام 2014. ومن المقدر له أن يبلغ نحو 3,1% عام 2015. وخلال السنوات الخمس الأخيرة نما بمعدل يزيد على 5% فى المتوسط سنويا بسبب الزيادة الهائلة بنسبة 14,8% عام 2010، والزيادة الكبيرة بنسبة 6,2% عام 2011.
وقد زرت موقع التفريعة الجديدة للقناة، وهو مجرد تلال فى الصحراء ووقتها تم تحديد عام واحد لإنجاز المشروع. وبدا الأمر وكأنه ضرب من الخيال، وزرت الموقع أخيرا وأذهلنى ما رأيته حيث تم إنجاز تلك التفريعة تقريبا وستكون جاهزة للافتتاح والتشغيل فى الموعد. وتلك التفريعة أوسع بـ 40 مترا من قناة السويس الأصلية ومشهدها العام مهيب بالفعل. ومن الضرورى الإشارة إلى أن تقليل مدة إنجاز هذا المشروع إلى عام واحد قد اضطر هيئة قناة السويس إلى استئجار بعض الكراكات العملاقة إلى جانب كراكات الهيئة التى كان يمكنها أن تنجز العمل فى ثلاثة أعوام لو تم الاعتماد عليها وحدها.
وفى مجرى تلك التفريعة يوجد بالفعل العدد الأكبر من الكراكات العملاقة الموجودة فى الخدمة عالميا وهى مستأجرة من بلجيكا وهولندا وغيرهما من الدول، وهى تعمل جنبا إلى جنب مع الكراكات العملاقة التابعة لهيئة قناة السويس على تسوية قاع التفريعة الجديدة للقناة. كما تتأهب المعدات الخاصة بحفر الأنفاق لحفر ستة أنفاق، منها نفق للسكك الحديدية لبدء أكبر ربط لسيناء بالوطن الأم بأنفاق منيعة يمكن حمايتها بدلا من الكوبرى المكشوف الذى يشكل صيدا أسهل نسبيا لأى عمل عدائي.
ولأننى كتبت ودعوت منذ سنوات طويلة إلى تطوير قناة السويس، وتعظيم الاستفادة منها عبر برنامج شامل لتنمية المنطقة واستغلال الموقع الأسطورى والاستثنائى لها، فإن متابعة هذا المشروع العملاق تبدو مسألة شخصية، فوق كونها واجبا وظيفيا فى مهنة مهمتها تقديم الحقيقة واستخدام العلم فى تحليلها واستهداف وجه الوطن ومصلحة الشعب قبل وفوق أى شئ آخر.
ويمكن القول إن هذا المشروع قد شكل أحد العناصر المهمة فى تحريك الاقتصاد منذ بدء العمل، فيه من خلال فرص العمل والدخول الموزعة على الأفراد والشركات الخاصة العاملة فيه. لكن هذا المشروع يمكن أن يقتصر دوره على زيادة عدد السفن المارة والإيراد المتحصل من مرورها لو توقف الأمر عند حفر التفريعة الجديدة وتعميق المجرى الملاحي، لذا فإن جهدا هائلا لابد أن يُبذل لتحقيق التنمية الشاملة للمنطقة، والاستفادة من الموقع الاستثنائى للقناة فى تحويل المنطقة المحيطة بها إلى مركز وطنى وعالمى للاستثمارات الصناعية وإلى مركز للسياحة العابرة وللتخزين وتجارة الترانزيت وكل اشكال التجارة الخدمية. وتلك المشروعات الصناعية والخدمية التى سيتم تأسيسها هى التى يمكنها أن تخلق عددا ضخما من فرص العمل بالتوازى مع تطور المنطقة وتتابع المشروعات التنموية التى سيتم إنشاؤها فيها.
ويعد المشروع الحالى لتعميق جزء من مجرى القناة وإنشاء تفريعة جديدة لها إنقاذا حقيقيا لقناة السويس من تهديدات إقليمية ودولية، حيث كانت المكانة العالمية لقناة السويس مهددة بالفعل، إذا لم تقم مصر بتطوير تعاملها مع القناة وتطوير قدرتها على خدمة حركة النقل العالمية، وبالذات من الجانب الصهيونى الذى يطمح لربط ميناء إيلات الصهيونى القائم على مدينة أم الرشراش المصرية المحتلة على رأس خليج العقبة، بميناء أشدود على البحر المتوسط. ورغم أن إمكانية تحقيق هذا المشروع تعتبر عالية، فإن تكلفته الهائلة والتى سيتم تحميلها على رسوم المرور، تجعل مثل هذه القناة غير قادرة على منافسة قناة السويس. أما إنشاء خط للسكك الحديدية لربط الميناءين بحيث تفرغ السفن شحنتها فى أحدهما ويتم نقلها بريا ليعاد تحميلها من الميناء الآخر، فإنه يضيف المزيد من التكلفة والمخاطر، كما أن الكيان الصهيونى الذى نشأ بالاغتصاب ويستمر بالعدوان لا يحتمل عسكريا أن تشكل مثل هذه القناة حاجزا مائيا يفصل قطاع غزة وجزءا من صحراء النقب عن باقى فلسطين المحتلة. كما أن مصر التى سمحت بالمرور الدولى الحر فى مضائق تيران قد تجد نفسها مضطرة لفرض رسوم على المرور فيها إذا كان ذلك المرور سيؤدى إلى الإضرار بمصالحها الاقتصادية الحيوية فى قناة السويس.
وعلى أى حال فإن المشروع الحالى لتطوير قناة السويس شكل ردا مبادرا لتعزيز مكانة قناة السويس ولقطع الطريق على أى محاولة لمنافستها فى الدور الحيوى الذى تقوم به للتجارة العالمية والذى يعود بالنفع على مصر ومختلف بلدان العالم.
وقد كتبت مرات عديدة عن المشروعات التنموية الممكنة فى منطقة القناة، لكن وبما أن مصر على أعتاب افتتاح مشروع تطوير القناة، بما يعنى إعطاء إشارة البدء للمشروعات التنموية فى الإقليم، فلا ضير من إعادة التذكير بتلك المشروعات مثل تطوير وتوسيع وإنشاء موانئ لاستقبال وتخزين البضائع شمال قناة السويس (بورسعيد وشرق التفريعة ودمياط وميناء العريش الذى يجرى إنشاؤه) وجنوبها (العين السخنة وسفاجا والأدبية)، وعقد الاتفاقيات المسبقة مع الشركات العالمية الكبرى المهيمنة على جزء كبير من نقل التجارة العالمية لاستغلال أو تأجير مواقع التخزين فى تلك الموانئ التى ستتحول بهذه الصورة إلى موانئ رئيسية للتجارة المحولة، أى تجارة الترانزيت. كما أن إقامة مشروعات لصيانة وإصلاح وبناء السفن ستكون ملائمة تماما لطبيعة المنطقة ولواقع مرور 18 ألف سفينة فى القناة حاليا يمكن مضاعفتها خلال أعوام. كما أن أطقم السفن المارة فى القناة سنويا يبلغ عدد أفرادها قرابة مليون شخص حاليا وهى مرشحة لزيادة كبيرة. ولو تم إعداد برامج سياحية قصيرة لمدة 24 ساعة أو يومين على الأكثر لزيارة المعالم السياحية فى القاهرة والجيزة والتسوق من مراكز تجارية كبرى يتم إنشاؤها فى منطقة القناة، لعرض إنتاج الشركات المصرية من جميع السلع بما فيها التذكارات السياحية، فإن ذلك يمكن أن يضيف قرابة من مليونين إلى ثلاثة ملايين ليلة سياحية لمصر. وهذا الأمر يحتاج للتنسيق مع الشركات السياحية المحلية والشركات السياحية العالمية والشركات المالكة للسفن المارة فى القناة، عبر تقديم عروض مغرية لها للسياحة والتسوق فى مصر. كما أن استقطاب السفن السياحية التى تقوم برحلات سياحية بين موانئ العالم يمكن أن يضيف لمصر ولمنطقة القناة بعدا تنمويا سياحيا بالغ الأهمية.
كما أن موقع منطقة القناة وانخفاض نفقات النقل والتأمين بينها وبين مختلف بلدان العالم يجعلها موقعا متميزا لإقامة الاستثمارات الصناعية الخاصة بالسلع كبيرة الحجم والوزن مثل صناعة السيارات. ويمكن باستخدام التنافس بين شركات السيارات العالمية أن تتم إقامة مصانع لإنتاج السيارات وليس تجميعها، وذلك لتلبية الاحتياجات المحلية الكبيرة والتى تبرر قيام صناعات للسيارات حاليا، وايضا للتصدير إلى المناطق التى يجمعها بمصر مناطق للتجارة الحرة مثل البلدان العربية والاتحاد الأوروبى وشرق وجنوب إفريقيا.
كذلك فإن هناك فرصا استثمارية كبيرة فى مجال الصناعات التحويلية القائمة على الخامات المحجرية والمعدنية والنفطية والغازية الموجودة فى هذه المنطقة أو فى الدول المجاورة. ويمكن تركيز هذه الصناعات فى صناعة تكرير النفط والبتروكيماويات بالاعتماد على الخامات المصرية أو الاستيراد من الدول المجاورة. وكذلك صناعة الزجاج من خامات الرمل الزجاجى المتوافرة فى جنوب غرب سيناء، والملح فى شمال سيناء وبورسعيد والسويس والبحر الأحمر حيث توجد رواسب ملحية عملاقة، وصناعات البوتاسيوم فى محافظة البحر الأحمر، اعتمادا على الاحتياطيات الموجودة فى المنطقة الواقعة بين الغردقة ورأس غارب. كما توجد إمكانيات كبيرة لبناء مصانع للأسمنت والسيراميك والحراريات عموما فى وسط وشمال سيناء حيث تتوافر خامات الطفلة والحجر الجيرى التى تعتمد عليها صناعة الأسمنت. كما يمكن تطوير الصناعات القائمة على خامات الجرانيت فى جنوب سيناء، حيث تتوافر احتياطيات ضخمة من الجرانيت فى جنوب وجنوب شرق سيناء، وتصنيع الدولوميت المتوافر بكثرة فى محافظتى جنوب وشمال سيناء، وصناعة المنجنيز الذى تتوافر خاماته فى جنوب غرب سيناء، وتصنيع الفيروز وأحجار الزينة وتحويلها لحلى وتذكارات سياحية، حيث تتوافر خاماتها فى شمال وجنوب سيناء والبحر الأحمر، وتصنيع الرمال السوداء المتوافرة فى شمال سيناء وجنوب محافظة البحر الأحمر. كما توجد فرص كبيرة لتطوير صناعة الأسمدة الفوسفاتية فى محافظة البحر الأحمر التى تدخل ضمن نطاق الخامات الفوسفاتية العظيم الممتد من سواحل البحر الأحمر مرورا بمحافظات سوهاج وقنا والأقصر وأسوان والوادى الجديد، وصولا إلى الصحراء الغربية المصرية حتى الحدود الدولية مع ليبيا. كما توجد فرص لتطوير استخراج وتصنيع الفحم من شمال سيناء، والذهب والقصدير من محافظة البحر الأحمر التى توجد بها ثروة هائلة من خامات الذهب بالذات والتى تم إهدار جزء مهم منها فى اتفاقية جائرة على مصر تتعلق بمنجم السكرى كما كتبت فى هذه الصفحة مرات من قبل.
كما أن المنطقة المحيطة بالقناة وبالذات فى وسط سيناء وشمالها مرشحة لأن تكون منطقة زراعية رئيسية يمكن زراعة أكثر من نصف مليون فدان فيها، مما يترتب على ذلك تربية للماشية وصناعات زراعية وكلها كثيفة الاستخدام للعمالة، بما سينقل كتلة سكانية مهمة إلى المنطقة. كما أنها مؤهلة تماما لمشروعات الاستزراع السمكى فى الأقفاص بالبحار على شواطئ شمال سيناء وبورسعيد والبحر الأحمر، وسوف ترتبط هذه المشروعات، ببناء مشروعات أخرى لصناعات تجهيز وحفظ وتعليب الأسماك. وميزة هذه المشروعات أنها يمكن أن تكون صغيرة وتعاونية وستسهم فى نقل كتلة سكانية جديدة من الصيادين وخريجى التعليم الزراعى إلى المناطق الخفيفة السكان فى البحر الأحمر وشمال سيناء، وهو عامل رئيسى فى الدفاع عن سيناء التى تعد تنميتها وزيادة الكتلة السكانية المقيمة بصورة دائمة فيها هى الدفاع الاستراتيجى المطلوب لها.