بقلم - نجيب صعب
سعي الدول للوفاء بالتزاماتها في تخفيض انبعاثات الكربون، والتقلُّبات التي تواجهها أسواق الطاقة، أعادا إنتاج الكهرباء من الطاقة النووية إلى الطاولة. فهي لا تُصدر انبعاثات كربونية، ويمكنها أن تعمل دون انقطاع. لكن معظم جماعات البيئة تعارض المحطات النووية، بسبب المخاطر الكبرى على الطبيعة والبشر من الحوادث المحتملة، وصعوبة التخلُّص المأمون من الفضلات المشعّة الناجمة عن التشغيل التي يقتصر التعامل معها على تأجيلها للمستقبل.
بعض مريدي الطاقة النووية يروجونها بوصفها حلاً سحرياً لمشكلات الطاقة والمناخ، ويقلّلون من مخاطرها المحتملة. وفي المقابل، يرفضها بعض البيئيين بشكل قاطع، مع تضخيم لمخاطرها وتقليل من محدوديات البدائل، مطالبين بالاعتماد الكلّي على الطاقات المتجددة.
والواقع أنّ مواقف الطرفين تتّسم بخلفيات آيديولوجية متشددة. وأذكر أنّه حين أَدخل المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) الطاقة النووية باعتبارها من العناصر الممكنة في مزيج الطاقة، في تقريره عن الطاقة المستدامة عام 2013، اعتبر بعضهم هذا الأمر خيانة لقضية البيئة. ولم يكن سهلاً إقناعهم بأنّ التصدّي لتحديات البيئة والمناخ المعقّدة يتطلّب دراسة جميع البدائل الممكنة، على أسس علمية واقتصادية؛ دون استبعاد أي منها.
هناك اتفاق كامل على وجوب إحداث تخفيض كبير وسريع في الانبعاثات الكربونية قبل سنة 2050، وصولاً إلى الصفر. هذا ما أقرّه العِلم شرطاً أساسياً لوقف ارتفاع معدّلات الحرارة عند حدود لا تتسبب في انهيار كامل لمقوّمات الحياة. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا عن طريق تدابير معروفة، لكل منها فوائده ومحدوديّاته.
ولما كان حرق الوقود الأحفوري هو المصدر الأساسي للانبعاثات الكربونية، تعمل بلدان منتجة -في طليعتها السعودية- على تطوير تقنيات تلغي الانبعاثات من دون أن تلغي النفط.
يبدأ تخفيض الانبعاثات من تعزيز كفاءة استخدام الطاقة، ووضع حدّ للهدر، إما مباشرة في الكهرباء ووسائل النقل والمصانع، وإما عن طريق ترشيد أنماط الاستهلاك عامة؛ لأن صناعة كلّ المنتجات تحتاج إلى طاقة. المسار الثاني لخفض الانبعاثات يقوم على توسيع استخدام المصادر المتجدّدة والنظيفة للطاقة، مثل الشمس والرياح. وتنفّذ بعض الدول العربية؛ خصوصاً مصر والإمارات والسعودية والمغرب والأردن، برامج كبرى للطاقات المتجدّدة.
أما المسار الثالث فهو التعامل مع الكربون الصادر من محطات الطاقة والمصانع العاملة بالوقود الأحفوري، عن طريق احتجازه وتخزينه على نحو مأمون. وتقود السعودية حاليّاً مبادرة «اقتصاد الكربون الدائري» التي تقوم على تجميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون لإعادة استخدامه في منتجات جديدة. وإلى أن تصل هذه التكنولوجيا إلى مرحلة التطبيقات الصناعية بتكاليف معقولة، لا يجوز إهمال التدابير الأخرى المضمونة لخفض الانبعاثات، وهي أرخص كلفة. والأكيد أن نجاح تطبيقات «الكربون الدائري» مهم جداً، ليس للدول النفطية فقط؛ بل أيضاً لاستقرار إمدادات الطاقة عالمياً.
قبل الاضطرابات التي شهدتها إمدادات الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا، كان السؤال المطروح: إذا قصرت جميع التدابير الأخرى عن خفض الانبعاثات الكربونية إلى المستوى المطلوب وفي الوقت المحدّد، فهل يمكن للطاقة النووية أن توفّر حلاً سريعاً، ولو مرحليّاً؟ وقد ارتفعت أسهم هذا الخيار خوفاً من مضاعفات أحداث غير محسوبة، مثل حرب أوكرانيا. وكانت تكنولوجيا المفاعلات النووية قد شهدت تطوراً سريعاً خلال السنوات الأخيرة، مما جعلها أكثر أماناً وفعالية، كما انخفضت المدة الوسطية لإنشاء محطة نووية لإنتاج الكهرباء إلى 5 سنوات. لكن لخيار الطاقة النووية اشتراطات محدّدة: من العوامل الاقتصادية إلى معايير السلامة، مروراً بوجود القدرات العلمية والبشرية اللازمة. فالكلفة الأولية المرتفعة تتطلّب مصادر تمويل ضخمة، إما داخلياً وإما بالاستدانة من الخارج، وهذا غير متاح إلا لبلدان قليلة. كما أن المفاعلات النووية تتطلب طاقات علمية وكادرات فنية مؤهلة للتشغيل والمراقبة، مع خطط طوارئ يمكن تنفيذها للتعامل مع الحوادث المحتملة. ويشمل التخطيط برنامجاً للتخلُّص من الفضلات النووية المشعّة الناجمة عن التشغيل. وهذا يتجاوز العمر الافتراضي لتشغيل المفاعل النووي الذي يقدَّر بما بين 20 و25 سنة.
من الطبيعي أن تأخذ الدول العربية القادرة الخيار النووي في الاعتبار، باعتباره جزءاً من مزيج الطاقة، وذلك للاستفادة من فوائد امتلاك التكنولوجيا المتطوّرة، وتخفيف الانبعاثات وتنويع المصادر في آن معاً.
وأذكر حديثاً، قبل عشر سنين، مع وزير صديق من دولة عربية نفطية كانت بين أُوليات الدول التي قررت إنتاج الكهرباء النووية في المنطقة، إذ سألته: «لماذا تحتاج دولة من كبريات الدول المنتجة للنفط في العالم إلى الخيار النووي الذي قد يكون منافساً لثروتها النفطية؟»، فأجاب: «نسعى إلى تطوير قدراتنا العلمية والتكنولوجية، والالتزام بالعمل المناخي، مع البقاء روَّاداً في سوق الطاقة. التكنولوجيا النووية تساعدنا على هذا، إذ إنّ النفط معرّض للنضوب، عدا أنّ تدابير إنقاص الانبعاثات الكربونية قد تفرض وقف الضخ قبل الأوان، إذا لم يتم التوصل في الوقت المطلوب إلى تقنيات عملية واقتصادية لاحتجاز الكربون بأمان».
خيار الطاقة النووية لا يزال صالحاً اليوم للدول القادرة، شرط أن تتوفر متطلبات التمويل والعِلم والتدريب والأمان، من التشغيل إلى الفضلات والتعامل مع الحوادث. ولا يمكن استسهال الأخطار الناشئة عن التلوُّث الإشعاعي في جميع المراحل الذي تمتد آثاره لمئات السنين، على البشر وذرياتهم كما على الطبيعة.
لكن التطوُّر الذي يشهده قطاع الهيدروجين، بوصفه ناقلاً ومُخزّناً للطاقة، سيقلّل من أهمّية المحطّات النووية باعتبارها مصدراً مضموناً لإنتاج الكهرباء على نحو متواصل دون انبعاثات كربونية. فتكنولوجيا إنتاج الهيدروجين من الماء بالتحليل الكهربائي موجودة منذ زمن طويل، ومجرد تطوير تقنيات رخيصة تعتمد على مياه البحر والكهرباء المنتَجة من مصادر متجدّدة، سيضع الهيدروجين سريعاً في متناول الجميع بأسعار رخيصة. هكذا يمكن استخدام الهيدروجين الخالي من الانبعاثات الكربونية لتشغيل المصانع والآليات ووسائل النقل مباشَرة، أو لإنتاج الكهرباء النظيفة في أي وقت. ويمكن للدول النفطية العربية أن تكون رائدة في الإنتاج والتصدير، وهي الغنية بالعناصر الأساسية لإنتاج الهيدروجين النظيف، أي الشمس والبحار. كما يمكنها إنتاج الهيدروجين باستخدام كهرباء مولّدة من الوقود الأحفوري الذي تملكه، بالترافق مع التقاط الكربون وتخزينه.
تنويع مزيج الطاقة مهمّ جدّاً؛ لكن يبقى الهيدروجين مصدراً أضمن وأكثر أماناً لإبقاء الدول النفطية لاعباً أساسياً في أسواق الطاقة في المستقبل. عدا أنّ الهيدروجين لا يحمل مخاطر الطاقة النووية.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»