بقلم - عبد المنعم سعيد
ربما لا توجد انتخابات في العالم تماثل في إثارتها الانتخابات الأميركية رغم تعقيداتها وتعدد مراحلها. وفي كل مرة تجري متابعتها يكون طاغياً ذلك الإحساس الذي يصاحب نقطة فارقة في تاريخ البشرية، رغم كل ما هو شائع عن الولايات المتحدة كدولة مؤسسات ودستور يمثل «الألجوريثم» أو «الخوارزمية» التي تدير الجماعة البشرية الأميركية إلى قدر معلوم هو في العادة مجيد المقام وبهيّ الطلعة. وللحق فإنَّ المتابع للمرحلة الحالية من الانتخابات الرئاسية سوف يجد أن استخدام كلمة ومفهوم «التاريخ» يتكرر بإصرار عجيب على أساس أن ما يحدث لم يحدث من قبل. وربما منذ جون كيندي، وإلى حدٍّ ما منذ دونالد ريغان، لم تطغَ شخصية على العملية الانتخابية كما هو حادث الآن مع شخصية الرئيس الحالي دونالد ترمب. المراجعة التاريخية تجد منافسة كيندي مع ريتشارد نيكسون كانت بنفس الحدة أمام تاريخ يبدو كما لو كان يمشي على قدمين، ما بين جيل الحرب العالمية الثانية، والجيل الذي أتى بعدها. العجيب أنه بعد كيندي جاء جونسون ومن بعده أتى نيكسون لفترة انتخابية أولى ثم فترة ثانية سقط في منتصفها على الأسنان الحادة لفضيحة «وترغيت». على أي حال، إنه مع حلول شهر سبتمبر (أيلول) من الحلقة الانتخابية فإن الوقت يكون قد حان لخلع القفازات، وهذه المرة فإن الانقسام والمنافسة من الحدة بحيث تبدو كما لو كانت نوعاً من «الحرب الأهلية». وفي الحقيقة فإن هناك نوعاً من الاستعادة بالفعل لهذه الحرب التاريخية (1860 – 1865) منذ قتل الشاب الأسود جورج فلويد في ولاية مينيسوتا، حيث دخلت الديار الأميركية كلها إلى حالة من العنف والعنف المضاد شمل أكثر من ولاية أميركية. أصبح الموضوع، مضافاً إلى عشرات الموضوعات الأخرى، حالة اتهام مستمرة من الجمهوريين للديمقراطيين أنهم يشجعون الفوضى والعنف مهما كان نفي جو بايدن المرشح الديمقراطي ليس فقط لهذا الموقف وإنما أيضاً إدانته. ولكنه بالمقابل دفع بأن المسؤولية عن العنف جاءت من مواقف ترمب التي تشجع المتطرفين البيض على العنف إزاء السود والملونين والمختلفين في الدين والأقليات بصورة عامة.
الخلاف حول: من هو حقاً العنصري؟ يقودنا فوراً إلى أصول المسألة الانتخابية التي تراكمت عبر سنوات طويلة، وهي أنه بينما يعتمد الجمهوريون على الأغلبية البيضاء، فإن الديمقراطيين يعتمدون على ما يعدّونها أغلبية تجمع الأقليات في الدولة الأميركية. في هذه الحالة فإن الفارق الذي يقود إلى الفوز في الانتخابات سوف يتحدد بالمدى الذي تنجح فيه التعبئة الجماهيرية للمؤيدين بحيث يذهبون إلى صندوق الانتخابات. الجديد في الأمر أن الحملات الانتخابات الراهنة تجري وسط حزمة من الأزمات المركّبة التي تبدو فيها الأزمة الخاصة باللون أو الاختلاف العرقي عامة مجرد فرع لأزمة كبرى تشغل الدولة الأميركية، وهي سابقة، وربما سوف تكون لاحقة أيضاً، للانتخابات الراهنة. هي أزمة تبدأ من نقطة: هل لا تزال الولايات المتحدة دولة قائدة في العالم عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً؟ وهل لا يزال «الحلم الأميركي» مصدر إلهام للدنيا كلها أم أن هناك أحلاماً أخرى تولّدها الصين؟ الأزمة الأعمق، ربما، هي أن الانقسام السياسي الأميركي طال أكثر مما ينبغي، وببساطة فإن توافق الوسط ما بين يسار الجمهوريين ويمين الديمقراطيين لم يعد موجوداً إزاء كل القضايا الجوهرية التي تشغل بال المجتمع الأميركي من أول الرعاية الصحية وحتى القضية القاصمة للظهر والخاصة بالهجرة إلى الولايات المتحدة. في الأصل فإن الدولة الأميركية قامت على الهجرة، ولكنّ بعضاً من هذه الهجرة كان قسرياً عندما جرى جلب «العبيد» لأسباب اقتصادية وثقافية، وهو ما خلق أزمة مزمنة لم تحلّها لا الحرب الأهلية، ولا قوانين الحقوق المدنية. ولكن هذه ازدادت تعقيداً مع موجات الهجرة الأخرى التي جاءت من أميركا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط. لم تعد الهجرات مجرد لجوء إلى بلد حر أو للبحث عن عمل أو لقمة العيش، وإنما أصبحت أصواتاً مضافة إلى جانب الديمقراطيين، ويرغب الجمهوريون في حرمانهم منها حتى ولو استدعى الأمر بناء حوائط كثيرة.
هذه الأزمات الهيكلية ليست كل أسباب الاحتقان الأميركي، وعندما جاءت أزمة «كوفيد - 19» ثبت أن المجتمع الأميركي لم يكن مستعداً لها، وتحت ظلال الانتخابات فإن المسؤولية تقع على الرئيس والإدارة، ولكن الرئيس الذي يريد فترة رئاسية ثانية لا يرى في الفيروس الذي أصاب العالم كله سبباً للمسؤولية. أياً كانت المسؤولية وأين تقع على وجه التحديد، فإن الدولة الأميركية بمجالسها وولاياتها لم تنجح في وضع صيغة فيدرالية للتعامل مع عدو قومي. وفي 30 أغسطس (آب) المنصرم نشرت جينفر روبين في صحيفة «واشنطن بوست» مقالاً عدّدت فيه ما رأتها «أغبى خمس حجج من الجمهوريين لترمب» نفت فيه أولاً أن الرئيس سوف يمنح – إذا ما نجح بالطبع – الأميركيين الأمن والنظام ما دام الأميركيون يخسرون أسبوعياً للفيروس التاجي ضِعف من قُتلوا في عمليات 11 سبتمبر الإرهابية. ما يحدث حالياً في المدن الأميركية من فوضى وانعدام للنظام والأمن هما مسؤولية رئيس قام بالتحريض بشكل مستمر ضد الأقليات على اختلاف أنواعها. وثانياً أنه ليس صحيحاً أن ترمب كان رائعاً بالنسبة للاقتصاد، لأن الاقتصاد كان رائعاً حقاً في عهد سابقه باراك أوباما، وأن ما اتخذه من إجراءات إضافية مثّلت تكلفة عالية على الأميركيين، وأكثر من ذلك فإن أزمة «كورونا» أغلقت أبواب الشركات وزادت من البطالة وأوجبت ديوناً قاسية. وثالثاً أن ادّعاء ترمب أن جو بايدن هو اشتراكي تحت القناع الجمهوري ومن ثم سوف يحقق الكثير من تدخل الدولة في الاقتصاد، هو مزايدة تخالف حقيقة تاريخ بايدن، مضافاً إليها أن التدخل الحقيقي من جانب الدولة الأميركية حدث في سلوكيات ترمب وجماعته المحافظة التي تتدخل بصورة مستمرة لصالح أصدقائها والمقربين منها. ورابعاً إذا كان ترمب يرفض الإجهاض ويقدس الحياة فهي وجهة نظر جمهورية يمكن تفهمها، ولكنه لا يمكن تفهم السماح بمقتل أميركيين على أساس اللون أو وفاة 180 ألف أميركي بسبب الوباء. وخامساً أن ترمب لم يحقق هدف القضاء على الوباء، فهناك عدد أكبر من الوفيات بسبب المرض أكثر من أي بلد آخر على كوكب الأرض، وعدد الوفيات للفرد أكبر بكثير من العديد من البلدان المتقدمة، ولا يوجد برنامج وطني للاختبار والتعقب. وبرفضه الاسترشاد بالحقائق العلمية (سواء كان ذلك بشأن جودة الهواء والماء، أو تغير المناخ أو «كوفيد - 19»، يعرّض ترمب للخطر صحة وحياة ملايين الأشخاص في أميركا وحول العالم.
الحجج الخمس يوجد ما يقابلها كالمرآة على الجانب الجمهوري تجاه الجانب الديمقراطي الذي بات معادياً للحرية، ومتخلياً عن المسؤولية الوطنية، ولديه شخصية مرشحة كبيرة السن وعاجزة عن القيادة. كل القفازات مخلوعة الآن!