«هل ستفوز الصين؟»... كان ذلك عنوان غلاف مجلة «ذي إكونوميست» البريطانية في وقت سابق من الشهر. وجاء أسفله تقرير مطول حول كيف يمكن أن تخرج من أزمة فيروس «كورونا» الحالية.
وليست هذه المرة الأولى التي يشير فيها قطاع من وسائل الإعلام الغربية، الذي غالباً ما يتضمن «ذي إكونوميست»، إلى الأنظمة الديمقراطية الغربية؛ خصوصاً الولايات المتحدة، باعتبارها الخاسرة، مقارنة بدول أخرى منافسة أو معادية.
جدير بالذكر أنه في ثمانينات القرن الماضي، قرعت المجلة ذاتها الطبول حول أن «اليابان أصبحت رقم واحد»، مرددة بذلك آراء البروفيسور عزرا فوغل حول ما سمَّاه «النموذج الاقتصادي المثالي». وفي التسعينات، خرجت مجلة «ذي إكونوميست» بصورة الرئيس سوهارتو على غلافها، وتنبأت بصعود إندونيسيا كواحدة من القوى الاقتصادية العالمية الكبرى. وعام 2005، خرجت المجلة بغلاف مثير آخر يحمل عنوان «هل فازت إيران؟».
والآن بالعودة إلى «فوز» الصين الوارد في العدد المشار إليه، فإن المرء يحق له التشكيك في جوهر اللعبة التي من المفترض أن تخرج منها الجمهورية الشعبية فائزة. في الواقع، فإن وباء «كوفيد - 19» يشكل كارثة عالمية، وليس ساحة للتنافس الدولي، ومن غير المحتمل أن يخرج منه أي طرف فائزاً.
وحتى لو كان المقصود بـ«الفوز» هنا الإشارة إلى حجم الضرر الناجم عن الوباء على الصعيدين الإنساني والاقتصادي، فإن فوز الصين هنا ربما يكون محل شك. في وقت كتابة هذا المقال، اعترفت بكين بوجود 82000 إصابة بفيروس «كوفيد - 19» و4632 وفاة، ما يشكل معدلاً لافتاً، قياساً إلى عدد سكان يتجاوز 1.5 مليار نسمة.
وإذا كانت هذه الأرقام صحيحة، فإنها تزداد إثارة للاهتمام لدى مقارنتها بالأرقام المرتبطة بدول غرب أوروبا والولايات المتحدة. ومع هذا، فإن العنصر المحوري هنا يكمن في كلمة «إذا كانت صحيحة». هل ينبغي أن نصدق التأكيدات بأن فيروس «كوفيد - 19» حصد عدداً من الضحايا في إسبانيا يفوق بمقدار ستة أضعاف ما أسقطه في الصين التي يزيد عدد سكانها عن إسبانيا 30 ضعفاً؟
أيضاً، تقوم فرضية أن الصين «تفوز» على الادعاء بأن بكين كانت في صدارة الجهات التي تقدم المساعدات إلى الدول بمختلف أرجاء العالم، للتصدي لتحدي «كوفيد - 19»، الأمر الذي عزز بالتالي سمعة الجمهورية الشعبية الصينية، باعتبارها فاعلاً دولياً حقيقياً.
ومع هذا، يبقى هذا الادعاء هو الآخر عرضة للتشكيك، ذلك أنه بينما أقر الاتحاد الأوروبي من خلال «نادي باريس» تجميداً على سداد ديون أكثر دول العالم فقراً، رفضت بكين تقديم ولو أقل قدر ممكن من تخفيف عبء الديون على ما يزيد على 70 دولة، أغلبها داخل أفريقيا، ترزح تحت أغلال الديون منذ تسعينات القرن الماضي.
أثناء الأزمة، شرعت الجمهورية الشعبية كذلك في عدد من الإشكالات التي لا تليق بقوة عظمى. على سبيل المثال، في يناير (كانون الثاني) الماضي، قدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي كان ولا بد غير مدرك حينها لحقيقة الخطر الذي يتهدد بلاده ذاتها، هدية في صورة خمسة ملايين قناع جراحي إلى الجمهورية الشعبية.
وعندما بدا واضحاً أن فرنسا نفسها ربما تكون في حاجة ملحة إلى هذه الأقنعة، خرجت بكين بسيل من الأعذار لتجنب إعادة الأقنعة. وعندما وافقت فرنسا على شراء الأقنعة بثلاثة أضعاف سعرها، وقَّعت الصين التعاقد؛ لكنها مع ذلك باعت جزءاً كبيراً من الأقنعة مقابل خمسة أضعاف سعرها في اللحظة الأخيرة، لجهات خاصة من الولايات المتحدة. ونفذت بكين الحيلة ذاتها في مواجهة عدد من الدول الأخرى، أبرزها تشيلي التي قدمت اعتراضاً رسمياً الأسبوع الماضي.
إضافة لذلك، فإن ادعاء الصين أن الوباء ربما جرى تخليقه من جانب أعداء أجانب، أضر كثيراً بسمعة البلاد. وفي عدد من المدن الصينية، تعرض الطلاب الأفارقة والعمال المهاجرون على وجه الخصوص إلى اعتداءات من جانب مجموعات من الغوغاء، وطردوا من وظائفهم ومساكنهم، بعد اتهامهم بأنهم «حاملون للفيروس». وتسبب ذلك في تردي علاقات بكين مع عدد من الدول الأفريقية، بينها نيجيريا وكينيا وأوغندا.
وجاء مستوى أداء سفيرَي الصين في باريس وطهران رديئاً، بتدخلهما في جدل داخلي حول السبيل للتعامل مع الوباء. ففي باريس، استدعى وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان سفير الصين وقرأ عليه قانون الشغب. وفي طهران، افتقر مسؤولو الجمهورية الإسلامية إلى الشجاعة للإقدام على تصرف مشابه مع السفير الصيني لدى بلادهم، وذلك بناءً على اعتقاد طهران بأنها ربما تحتاج إلى قوة «الفيتو» التي تحظى بها بكين داخل الأمم المتحدة. ومع هذا، فإن وسائل الإعلام - بما في ذلك شبكات التواصل الاجتماعي - فعلت ما هو مطلوب لتذكير بكين بأخطائها الدبلوماسية.
من ناحية أخرى، فإن الاشتباه في تسرب فيروس «كوفيد - 19» من أحد المعامل في الصين، أثر سلباً على صورة البلاد داخل كثير من الدول؛ خصوصاً الولايات المتحدة وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وكوريا الجنوبية واليابان. وليس بمقدورنا الإدلاء برأي قاطع حول هذا الادعاء، لافتقارنا إلى الأدلة اللازمة؛ لكن يبقى شيء واحد مؤكد: الرأي العام داخل كثير من الدول أصبح اليوم معادياً تجاه التعامل مع الصين. ومن الممكن أن يضر ذلك بالاتفاقات التجارية العادية والأخرى «المميزة»، مثل تلك التي تسعى بريطانيا لإبرامها مع «هواوي».
كما انطلقت حملات لمقاطعة السلع الصينية عبر أكثر عن 40 دولة في جميع القارات. وربما تتلاشى هذه الدعوات عندما يعود العالم إلى أجوائه الطبيعية؛ لكن الضرر الذي لحق بصورة الصين لا ينبغي التهوين من أمره.
وفي سياق متصل، فإن الادعاءات بأن الصين ربما استغلت بعض الكيانات الدولية، بما في ذلك منظمة الصحة العالمية، لا يمكن دعمها بأدلة قوية؛ لكنها بدأت فصلاً جديداً تماماً في مراقبة سلوك الصين.
وماذا عن الجانب الاقتصادي للأزمة؟ هل يمكن أن تبلي الصين بلاءً أفضل عن غالبية الاقتصادات الكبرى الأخرى؟ في الواقع تشير التوقعات المتعلقة بغالبية الاقتصادات الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلى حدوث تراجع يتراوح بين 8 في المائة و10 في المائة في إجمالي الناتج الداخلي خلال عام 2020، مع وصول معدلات البطالة إلى 30 في المائة.
وتبدو الأرقام التي يتوقعها صندوق النقد الدولي للاقتصاد الصيني أقل دراماتيكية؛ لكن المشكلة فيما يخص الإحصاءات والأرقام المتعلقة بالجمهورية الشعبية تظل دوماً ما إذا كان يمكن الثقة بالأرقام التي تعلنها.
ومع ذلك، فإن تخمين التأثير الاقتصادي للوباء يعتمد على كيفية نظر المرء إلى الأزمة الحالية. من جانبه، يرى بن بيرنانكي، الرئيس السابق لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الأزمة، باعتبارها «أقرب بكثير لكونها شبيهة بعاصفة ثلجية، أو كارثة طبيعية كبرى، عن موجة كساد على غرار ما حدث في ثلاثينات القرن الماضي».
على النقيض، نجد أن بيرنارد كوهين، المستشار الاقتصادي السابق لرئيس الوزراء الفرنسي، يتوقع حدوث حالة كساد أعمق بكثير من الموجة التي تسببت في الانهيار الكلاسيكي السابق لـ«وول ستريت».
حسناً، لا نعلم ما الذي سيحدث؛ لكن في اعتقادي، حتى لو اعتبرنا «الانهيار» الكلاسيكي نموذجاً، فإن الأنظمة الديمقراطية من اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا، في وضع أفضل يؤهلها لامتصاص الصدمة، عما وصفه المفكر الإنجليزي تشيسترتون عام 1932 بـ«الرأسمالية الرديئة» للصين.