بقلم: عماد الدين أديب
لماذا سقطت كابول، ونجحت طالبان، وانهارت الحكومة، وفشل المشروع الأميركيّ؟سؤال متعدّد العناصر، لكنّه يعكس هالة منتصر، وحالة مهزوم، ولكن كيف ولماذا؟
فشلت واشنطن، كما فشلت في فيتنام ولبنان والعراق، لسبب جوهري وأساسي له علاقة بمنهج مقاربة الدول الأخرى، وهو منهج محاولة تطبيق منهج أميركي على مجتمعات مختلفة الثقافة الوطنية، ولها قانونها الخاصّ بها في التكيّف السياسي والتحوّل الاقتصادي والتطوّر الاجتماعي.
إنّه منطق "الكاوبوي السياسيّ" الذي يدخل قرية نائية على جواده الأبيض، ومسدّساته التي لا تفرغ من مخزون البارود، من أجل تطويع تلك القرية المتمرّدة، وتحويلها من حال إلى آخر بعدما يعيّن نفسه "شريف" يضبط الأمن والسلوك.
اعتقد الأميركيون حسب ثقافتهم الإدارية أنّ إعطاء قادة طالبان "كورس"علاقات عامّة وتسويق سياسي بشكل مكثّف في الدوحة بواسطة شركات أميركية كافٍ لإحداث تحوّل جذري
لا يوجد تراكم خبرة احتلال للولايات المتحدة، مثل الإنجليزي والفرنسي اللذين تقاسما النفوذ في مستعمرات حول العالم.
هذه مسؤوليّة الأميركي الأساسية، ولكن، للأمانة، هل نُلقي المسؤولية عن فشل المشروع الأميركي في أفغانستان على واشنطن وحدها؟
نجح الجنرال ماك آرثر في أن يحوِّل اليابان إلى دولة صناعية متقدّمة، ونجح الدعم الدولي الاقتصادي في تحويل ألمانيا النازية إلى عملاق اقتصادي متميّز.
ونجح النموذج الفيتنامي في التحوّل من نظام ماركسي ذي اقتصاد موجَّه إلى قوّة اقتصادية صاعدة في جنوب شرق آسيا.
بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، استطاع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذان تلعب فيهما واشنطن دوراً مركزيّاً، مساعدة كلّ مِن المجر وبولندا وسلوفاكيا والتشيك على إنجاز تحوّل اقتصاديّ ملموس.
لماذا نجحت هذه النماذج هناك، فيما المعاناة في العراق وأفغانستان وأراضي السلطة الفلسطينية تصل إلى حدّ الفشل الذريع؟
الإجابة في كلمة واحدة: "الفساد".
إنّ فتح تحقيق جدّي في كيفيّة إنفاق تريليون دولار في أفغانستان، و3.8 تريليونات دولار في العراق، وما يزيد على 5 مليارات دولار في فلسطين، سوف يوضح 3 حقائق مخيفة:
أولاً: إساءة التخطيط الأساسي لاقتصادات هذه الدول، وعدم إدراك طبيعة الأولويّات التي تحتاج إليها هذه المجتمعات.
ثانياً: فساد مخيف في نظام إداري حكومي قام على نهب المال العامّ من دون رقابة الجهات المانحة ولا مؤسسات الدولة الرقابية.
ثالثاً: اعتبار الشركات الأميركية نفسها الوريث الطبيعي والحقيقي لأيّ إنفاق حكومي أميركي في هذه الدول، بحيث احتكرت مشروعات البنية التحتية، والكهرباء، والصرف الصحّي، والمقاولات، وإعطاء الأولويّة للبضائع والمنتجات الأميركية من دون وجود رقابة على الجودة والأسعار وشروط المناقصات.
عشرون عاماً من الرؤية الاستراتيجية الخاطئة، والإدارة الجاهلة للمجتمعات، والحكومات الفاسدة المتعاونة مع بيزنس أميركي احتكاري.
وفي مجال بناء جيش وطني أفغاني تعامل الأميركيون مع أجساد الرجال وليس مع عقولهم ونفسيّاتهم.
لم يدرك الأميركيون أنّ أفغانستان مجتمع قَبَليّ تلعب فيه مسألة العرق والطائفة والعائلة الدور الأكبر العابر للانتماء الوطني.
لم يدرك الأميركيون أنّ القبيلة والمنطقة والطائفة هي الفكرة المسيطرة على عقول وقلوب الأفغان أكثر من فكرة الدولة الوطنية.
لم يدرك الأميركيون أنّ الأفغان استعانوا بهم ضد السوفييت، ثمّ استعانوا بباكستان، وتحديداً جهاز الاستخبارات الباكستانية، ضدّ الجميع.
ولم يعرف الأميركيون أنّ طالبان، المتأثّرة بالمدرسة "الديوباندية" من بين المدارس الدينية الإسلامية، هي حالة ثقافية عِرقية للبشتون وبعض الطاجيك.
الذي لا يعرفه الأميركيون أنّ طالبان القابلة للتحوّل في الولايات لا تغيِّر في الأهداف القبلية العرقية، ولكنّها تعقد الصفقات مع جيرانها من أجل شراء الوقت لبناء مشروع الولاية الإسلامية
لم يدرك الأميركيون أنّ ثقافة القبائل الأفغانية تقوم على مبدأ "لا حليف دائم ولا عدوّ دائم"، وعلى القدرة على التحوّل ليل نهار في التحالفات والصراعات تبعاً للمصلحة التكتيكية.
من هنا أخطأ الأميركيون أخيراً في الفهم الصحيح للأمور التالية:
1- اعتقدوا أنّ تنظيم دورات إعادة التأهيل الفكري والسياسي في قطر كافٍ لإحداث تحوّل في جذور الفكر والانتماء القبلي والمناطقي والمذهبي لدى قيادات طالبان.
اعتقد الأميركيون حسب ثقافتهم الإدارية أنّ إعطاء قادة طالبان "كورس" (course) علاقات عامّة وتسويق سياسي بشكل مكثّف في الدوحة بواسطة شركات أميركية كافٍ لإحداث تحوّل جذري.
2- الخطأ الثاني أنّهم بنوا جيشاً حكومياً بالاستعانة ببرامج تدريب من دون أن يسبق هذا البناء شيء أساسي هو غرس عقيدة.
لهذا كان بعض مقاتلي هذا الجيش، الذي فقد 50 ألفاً خلال 20 عاماً، يسأل: لأيّ سبب نموت؟ من أجل أيّ مشروع؟ ولماذا نقاتل أبناء قبائلنا أو أهل مناطقنا؟
من هنا كان تحصيلَ حاصلٍ رفضُ هذا الجيش إطلاق رصاصة واحدة على قوات طالبان وهي تزحف على 34 ولاية حتى وصلت إلى كابول.
3- الخطأ الثالث أنّ الأميركيين اعتقدوا أنّ ميليشيا قبلية مثل طالبان يمكن أن تحترم تعهّداتها المكتوبة والشفهية حرفيّاً. وما قامت به قوات طالبان من دخول كابول قبل الانسحاب الأميركي بـ27 يوماً كان نتيجة منطقية لثقافة "طالبان" البدائية التي لا تحترم المعاهدات الثنائية أو القانون الدولي. فهي تعيش في عالم خاصّ بها صنعته على هواها وثقافتها القبلية العرقية.
4- الخطأ الرابع، وهو الأخطر، والذي سوف تدفع ثمنه واشنطن غالياً، هو اعتبار الخروج من أفغانستان بهذه الطريقة الفوضوية انتصاراً لواشنطن لجهة تقليص الخسائر المتراكمة وترك "طالبان" في مواجهة الجيران، وعلى رأسهم الصين وإيران.
كانت التقديرات الأميركية في بحث فوائد الخروج الاستراتيجي من أفغانستان تعتمد على فلسفة "جيلو سوليفان"، مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن، التي تقول: دفعنا تريليون دولار وفقدنا قتلى وجرحى على مدار 20 عاماً كي نحمي، في النهاية، حدود إيران والحدود الصينية والطاجيكية والأوزبكستانية والتركمانية والباكستانية.
من هنا كان المنطق القائل: "دعنا نقلّص خسائرنا، ونصدّر هذه المسؤوليات والخسائر والتكاليف إلى جيران أفغانستان".
الذي لا يعرفه الأميركيون أنّ طالبان القابلة للتحوّل في الولايات لا تغيِّر في الأهداف القبلية العرقية، ولكنّها تعقد الصفقات مع جيرانها من أجل شراء الوقت لبناء مشروع الولاية الإسلامية القائم على الفهم "الديوباندي" لتطبيق الشريعة.
خلاصة الأخطاء الاستراتيجية الأميركية أنّها لم تعرف أن تنشئ حليفاً، وفي النهاية سلّمت البلاد والعباد والحليف نفسه للعدوّ الحقيقي لمشروع الدولة ظنّاً منها أنّه قد تغيَّر تماماً.
خلاصة القول أنّنا نعيش في عالم فيه تنويع جديد على لحن "الربيع العربي القديم" برعاية الدولة الأميركية ومساعدة ذراعين قطري وتركي.
الربيع العربي 2011 تمّ بطريقة خشنة أميركياً، ومفضوحة تركيّاً وقطريّاً.
بعد 20 عاماً بالتمام والكمال على غزو أفغانستان ثمّ العراق، وبعد عشر سنوات على مشروع الربيع العربي، يُعاد تدوير هذا المشروع بشكل أكثر ذكاء، وأقلّ كلفة للرعاة، وأقلّ خشونة.
من هنا يمكن فهم شخصية "نيوإردوغان"، وسلوك "نيوقطر"، والخروج الأميركي من مأزق الاحتلال العسكري.
ومن هنا يمكن فهم إعداد طالبان بواسطة شركات علاقات عامّة أميركية، وبتمويل قطري، حتى تصبح "نيوطالبان".
وعلينا أن نستعدّ لنتائج الخلاف المحتدم منذ عامين، والذي يتّجه إلى التصاعد، داخل التنظيم الدولي للإخوان، وقد ينتج عنه جيل جديد من القيادات من أبناء أحفاد مدرسة حسن البنّا التي مرّ عليها أكثر من 90 عاماً من دون تجديد.
وحينما يتمّ إنجاز الاتفاق النووي مع إيران سوف نرى تسويقاً جديداً لإبراهيم رئيسي من جانب واشنطن يتمّ فيه تناسي كونه عضو لجنة الموت "التي أمرت بقتل آلاف الإيرانيين".
و"نيوإيران" سوف تستتبعها بالضرورة "نيوأدوات" في المنطقة، فنرى تسويقاً جديداً للحوثيين وحزب الله والحشد الشعبي ومَن على شاكلتهم.
تذكّروا ما أقول: هذه الخطيئة السياسية الكبرى، والخطأ الاستراتيجي الفادح، والرهان الفكري الخاسر، ستكون حماقة "القرن العظمى" لواشنطن والحزب الديموقراطي وإدارة بايدن، التي قد تتسبّب بأن تفقد واشنطن إدارتها المنفردة لشؤون العالم خلال الحقبة الحالية.
الجهل المطبق للراعي الأميركي، والجهد الانتحاري اللامحدود الذي تقوم به تركيا وقطر من أجل إحياء الربيع العربي (الجزء الثاني) بشكل أكثر ذكاء وأقلّ خشونة مع الاستفادة من خسائر الجزء الأول، سوف يدفعان إلى المزيد من التدهور والفوضى والصراعات في الحقبة الحالية.
كلّ هؤلاء، واشنطن وأنقرة والدوحة، الذين يراهنون على "النيوإسلام" لإدارة شؤون المنطقة، يجهلون ألفباء فلسفة هذه التنظيمات.
تسيطر على طالبان، والحوثي، والحشد الشعبي، والقاعدة، وداعش ومَن على شاكلتهم، حالة من الاستلاب الأيديولوجي. فكلّهم شربوا من نبع "الحاكمية والتكفير" و"تزويد فرضية الجهاد" والفهم المغلوط للشريعة كما جاء في أصول مدرسة الإخوان التي أسّسها وقام بالتنظير لها حسن البنّا.
وسوف يظهر الشيخ يوسف القرضاوي في الدوحة وياسين افطاي (مستشار إردوغان المقرّب) في أنقرة يضغطان بقوّة أنظمتهما لإقناع واشنطن بتبنّي نظرية النيولوك الجديدة لإسلام سياسي يقود المنطقة، بدلاً من حكومات ذات خلفيّات عائلية وراثية أو نابعة من مؤسسات عسكرية.
هكذا تمّ تسويق النيوإسلام لإدارة بايدن بدلاً من الشيوخ والعسكر لإدارة المنطقة بسلام وولاء.
إنّ حسن البنّا وأسامة بن لادن والزرقاوي والحوثي وعباس الموسوي وقاسم سليماني وهشام عشماوي يقيمون الآن حفلاً في السماء بعد سقوط كابول، لأنّ الرئيس بايدن حقّق لهم الحلم الكبير، وهو إمكان انتصار ميليشيا الإرهاب التكفيري على أعظم دولة في العالم.