لا يمرّ يوم من دون اكتشاف كم غيّرت الحرب الأوكرانيّة العالم. غيرته إلى درجة باتت فيها أوروبا مقتنعة بأنّها مهدّدة في الصميم.
ربطت أوروبا مستقبلها بما إذا كان فلاديمير بوتين سيتمكّن من إخضاع هذا البلد أم لا. لم يعد محور النقاش الدائر بين الأوروبيين، بحضور الأميركيين، إرسال أسلحة إلى أوكرانيا بمقدار ما أنّه يدور في المرحلة الراهنة حول ما إذا كان المطلوب دعم أوكرانيا بطائرات مقاتلة أم لا.
هناك انقسام أوروبي واضح في هذا الشأن، لكن المبدأ لم يتغيّر. يقول المبدأ المعتمد أوروبياً أنّ لا مجال لانتصار روسي في أوكرانيا. انتصار روسيا يعني العودة إلى أوروبا ما قبل سقوط جدار برلين في نوفمبر من العام 1989.
لم يساعد سقوط جدار برلين في إعادة توحيد المانيا فقط. مهّد ذلك لتحرّر دول عدة مثل تشيكوسلوفاكيا (انقسمت بعد ذلك إلى تشيكيا وسلوفاكيا) وهنغاريا وبولندا ورومانيا وبلغاريا. لدى ثلاث من هذه الدول، رومانيا وهنغاريا وبولندا، حدود مشتركة مع أوكرانيا.
فضلاً عن ذلك، ستعني السيطرة الروسية على أوكرانيا سقوطاً أوتوماتيكيا لدول البلطيق، استونيا ولاتفيا وليتوانيا، في الفلك الروسي. هذا ما يفسّر طلب السويد وفنلندا الإنضمام إلى حلف شمال الأطلسي بعدما كان الحياد في صلب السياسة الخارجيّة لهذين البلدين.
لم تساعد الحرب الأوكرانيّة في كشف طبيعة الرئيس الروسي وكونه شخصاً معزولاً متهوراً يتقن المناورة والابتزاز فحسب، بل كشفت أيضا عمق العلاقة القائمة بين «الجمهوريّة الإسلاميّة» في إيران وبوتين نفسه.
لم يتردّد الرئيس الروسي في التدخل عسكرياً بشكل مباشر في الحرب على الشعب السوري بمجرّد أن طلب منه قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني ذلك في سبتمبر 2015 بعدما صار الساحل السوري، معقل العلويين، مهدداً بالسقوط في يد المعارضة السوريّة.
أرسل بوتين قاذفات روسية إلى قاعدة حميميم قرب اللاذقية. منع ذلك سقوط الساحل السوري كما ساهم في بقاء بشار الأسد في دمشق. وفي أبريل من العام 2018، لعب ضباط سوريون محسوبون على روسيا دوراً في استخدام الأسلحة الكيميائية لإخضاع بلدة دوما القريبة من دمشق.
هذا ما كشفه حديثا تقرير لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي مقرها في لاهاي. سارعت وزارة الخارجية الروسيّة إلى التنديد بهذا التقرير ورفض التعاون مع فريق التحقيق التابع لهذه المنظمة.
يظلّ انضمام إيران إلى روسيا في حربها على أوكرانيا تطوراً في غاية الأهمّية. يستخدم الجيش الروسي مسيرات وصواريخ إيرانية في محاولته الدفاع عن مواقعه في أوكرانيا وترهيب الشعب الأوكراني. تعرف إيران قبل غيرها أنّ هزيمة بوتين في أوكرانيا ستعني هزيمته داخل روسيا نفسها، حيث لا حماسة شعبيّة لحرب مستمرة منذ سنة تستنزف بلداً يعاني من تناقص سنوي للولادات.
في ضوء الدور الذي تلعبه إيران في أوكرانيا، تحولت إلى تهديد للأمن الأوروبي. فجأة استفاقت دول أوروبيّة عدّة على وجود مشروع توسعي إيراني تتجاوز حدوده منطقتي الشرق الأوسط والخليج.
على سبيل المثال وليس الحصر، اكتشفت فرنسا أن لديها رهائن في إيران وأنّ «الجمهوريّة الإسلاميّة» لم تتوقف يوما عن ممارسة سياسة أخذ رهائن أوروبيين وأجانب لإخضاع دول معينة لرغباتها.
كذلك، اكتشفت فرنسا أنّ إيران تهرّب أسلحة إلى الحوثيين في اليمن. صادرت البحرية الفرنسيّة أخيراً كمية من الرشاشات والذخيرة والصواريخ المضادة للدبابات مرسلة بحراً إلى الحوثيين من أحد الموانئ الإيرانيّة. فعل الأميركيون الشيء ذاته.
لم يعد سرّاً أنّ النظرة الأميركيّة تغيّرت إلى إيران وبات هناك نوع من التسيق الأميركي - الإسرائيلي في مجال إفهام «الجمهوريّة الإسلاميّة» أنّ ليس في استطاعتها المضي في برنامجها النووي إلى النهاية. ضربت إسرائيل في داخل إيران. استهدفت بين ما استهدفته ما يعتقد أنّه مخزن، أو مصنع، للصواريخ في أصفهان. في الوقت ذاته، قصفت طائرات مجهولة، يعتقد أنّها أميركيّة، قوافل أسلحة إيرانيّة عبرت إلى سورية من العراق.
حدث ذلك في وقت كان في إسرائيل عدد من المسؤولين الأميركيين بينهم وليام بيرنز مدير وكالة الاستخبارات المركزيّة (سي آي إي) الذي لعب في الماضي دوراً في المفاوضات السرّية التي أدّت صيف العام 2015 إلى الاتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني.
بنيامين نتنياهو نفسه، «صديق» بوتين تغيّر. تظهر حاليا بداية إنحياز إسرائيلي إلى أوكرانيا بعد فترة طويلة من التردّد في اتخاذ موقف واضح من الحرب التي يشنها الرئيس الروسي على هذا البلد الأوروبي. لم يكن هناك اهتمام اوروبي باستقبال رئيس الحكومة الإسرائيلية لولا اكتشاف الدور الإيراني في أوكرانيا.
في الإمكان الإتيان بأمثلة كثيرة على مدى التغيير الذي طرأ على الموقفين الأميركي والأوروبي من إيران في وقت تشهد «الجمهوريّة الإسلاميّة» تحرّكاً شعبياً واسعاً يستهدف التخلص من نظام قائم على فكرة القمع.
إلى أي مدى سيذهب العالم الغربي، الذي اقتنع أخيراً بأن الصواريخ والمسيرات الإيرانيّة جزء من المشروع التوسعي الإيراني وأنّ هذه الصواريخ والمسيرات التي تستخدمها ميليشيات مذهبيّة منتشرة في كلّ أنحاء المنطقة لا تقل خطورة عن البرنامج النووي الإيراني؟
يوجد تحول في الموقفين الأوروبي والأميركي من إيران التي لم تخف يومياً أنّها تسعى إلى لعب دور القوّة المهيمنة على الخليج والشرق الأوسط، خصوصاً منذ سلمتها إدارة بوش الابن العراق على صحن من فضّة في العام 2003.
مؤسف أنّه كان على «الجمهوريّة الإسلاميّة» الذهاب إلى أوكرانيا كي يكتشف الأوروبيون والأميركيون مدى خطورة هذا النظام على الإيرانيين أنفسهم وعلى دول عربيّة مثل العراق وسورية ولبنان واليمن.
أن تستفيق أوروبا، ومعها أميركا، متأخرتين أفضل من ألّا تستفيقا أبدا. لكنّ الأكيد أنّ الحرب الأوكرانية التي تدخل في الرابع والعشرين من فبراير الجاري سنتها الثانية ستأتي بمزيد من التغييرات على مستوى المنطقة العربية والعالم وحتّى على مستوى دول مجاورة مثل أذربيجان بدأت تتعرض لمزيد من الاستفزازات الإيرانية أخيراً.