بقلم : خالد الدخيل
هل السعودية دولة سلفية؟ أمام هذا السؤال البسيط والمباشر ستجد إجابات كثيرة، بل ومتناقضة أحياناً. أنصار التيار الديني المحافظ، أو السلفيون سيجيبون على السؤال بنعم مع تشديد واضح، وربما استنكار لطرح السؤال أصلاً. أما إجابة أنصار التيار السلفي الجهادي مثل تنظيم «القاعدة»، وخصوصاً تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) المتوحش فهي على العكس من ذلك. إذ يعتبر أتباع هذا التيار أن السعودية دولة مرتدة وتوالي الكفار وأعداء الإسلام. ولذلك جاءت تعليمات تنظيم «داعش» لأتباعه من السعوديين بجواز قتل أقربائهم ممن يعملون في الأجهزة الأمنية للدولة السعودية، وإن هذا الفعل في نظرهم يعتبر من القربات إلى الله. هناك إجابة ثالثة تتبناها إيران وأتباعها في المنطقة، تعتبر أن السعودية دولة سلفية تكفيرية، وأنها المسؤولة عن تفشي التكفير والإرهاب في العالم، بما في ذلك «داعش» تحديداً. وهذا ليس جهلاً من هؤلاء، وإنما تعبير عن عداء سياسي سافر تلتقي فيه إيران مع الجهادية السلفية في العداء للسعودية على رغم الاختلاف العقدي بينهما. وهو التقاء يكشف هشاشة رؤية كل منهما لهذا الموضوع وانتهازيتهما السياسية.
يختلف أنصار التيار السلفي التقليدي المحافظ تماماً في منطلقات موقفه وأهدافه. فالسعودية بالنسبة الى هؤلاء دولة إسلامية تطبق الشرع. لكن انطلاقاً من زاوية نظرهم وقناعاتهم الدينية، يميلون إلى اختزال هذه الدولة في بعدها الديني، وبالتالي فهي في نظرهم ليست أكثر من دولة سلفية. وهذا ليس صحيحاً ولا دقيقاً ولا يتفق مع واقع حال دولة ليست، ولم تدّع يوماً أنها دولة دينية. فهي أولاً وأخيراً كانت ولا تزال دولة عربية إسلامية، وبمثل هاتين الصفتين لا يمكن اختزالها في بعد من دون آخر. الخطاب الديني لهذه الدولة هو خطاب سلفي تقليدي، ولم يكن يوماً منذ إعادة تأسيسها في بدايات القرن الماضي خطاباً سلفياً جهادياً. على العكس، اصطدمت السعودية عسكرياً مع المخالفين لهذا الخطاب التقليدي (الإخوان) عام 1929، ومع السلفيين الجهاديين عام 1979. وكانت لا تزال في حال قتال مع تنظيم «القاعدة» منذ تسعينات القرن الماضي، ومع «داعش» منذ العام الماضي.
يقودني الحديث عند هذه النقطة إلى مقالة غريغوري غوس، أستاذ أميركي في العلوم السياسية، نشرتها صحيفة «لوس آنجلوس تايمز» الأميركية يوم الثلثاء الماضي. ينطلق الكاتب من سؤال مباشر يقول: هل يمكن لأي دولة أن تكون مستهدفة من الإسلاميين المتطرفين (الجهادية السلفية)، وفي الوقت نفسه مسؤولة عن أفعالهم؟ ينطوي السؤال على تشكيك عميق في دعوى أن السعودية، وتحديداً الوهابية، مسؤولة عن تفشي التطرف الإسلامي، وهي أحد أبرز أهدافه. يجادل غوس بأن الوهابية كخطاب ديني محافظ وليس مسيساً، لا يجيز عقدياً الخروج على ولي الأمر. وهذا أمر طبيعي بالنسبة الى خطاب يمثل في حقيقته أيديولوجيا للدولة، وليس ضدها. يضيف غوس أن السعودية، ومعها الولايات المتحدة، دعمتا الجهاديين في أفغانستان ضد الغزو السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي. بعد ذلك يبدأ خط الافتراق بين السعودية والجهادية العالمية. فنجاح الجهاديين في أفغانستان أعطى للجهاد الإسلامي جرعة ثورية سياسية تتناقض مع الرؤية السياسية المحافظة للوهابية. منذ مرحلة أفغانستان أخذت السلفية بالتحول إلى حركة دينية بأوجه وتمظهرات سياسية مختلفة. وما الوهابية بتقليديتها الاجتماعية ومحافظتها السياسية إلا أحد تمظهرات هذه السلفية. والحال كذلك، يقول غوس، إن الضغط على السعوديين حتى يكونوا أقل وهابية لن يؤثر كثيراً في الحركات الجهادية كـ «القاعدة» أو «داعش». لماذا؟ لأن مسار الأحداث يقول إن السعوديين (بوهابيتهم وليس من دونها) فقدوا السيطرة على الحركات السلفية.
إلى جانب ذلك السعودية على المستوى السياسي دولة براغماتية، وليست دولة سلفية بأي حال. ولعل نص المادة الأولى من النظام الأساسي للحكم يعبر عن ذلك بصورة واضحة ومباشرة. يقول النص: «المملكة العربية السعودية دولة عربية إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنّة رسوله (صلى الله عليه وسلم)، ولغتها هي اللغة العربية، وعاصمتها مدينة الرياض». لاحظ أولاً صفة عروبة وإسلامية الدولة واقترانهما معاً. ثم لاحظ ثانياً أن دين الدولة هو الإسلام، هكذا بإطلاق من دون تحديد الالتزام بمذهب أو تيار إسلامي بعينه. ثالثاً يتكامل مع ذلك النص على أن دستور المملكة يتمثل في الكتاب والسنّة معاً، هكذا، ومرة أخرى، بإطلاق، من دون إشارة الى مصطلح الشريعة، ولا تحديد لقراءة أو رؤية مذهبية بعينها للمصدرين الأول والثاني للتشريع. سأدع جانباً رأيي بأن القرآن كوحي منزل لا يمكن أن يكون دستوراً لدولة بعينها، فهذا بتفاصيله ليس مكانه هنا. ما يهمني في الموضوع هو تكامل الصفات الثلاث لتجعل من نص المادة الأولى (نظرياً) نصاً مفتوحاً على مختلف القراءات القانونية، بل والفلسفية الممكنة لمفهوم الإسلام، وللكتاب والسنّة. يوفر هذا النص بصفته هذه
للدولة حتى الآن مساحة واسعة في مجال التشريع، والتكيف مع مختلف الظروف التشريعية ومتطلباتها. يمكن القول إنه لم تتم الاستفادة كثيراً من مرونة وانفتاح نص المادة الأولى في عملية التشريع. وهذا صحيح، ويعكس وطأة الواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمع حتى على النصوص الدستورية بمعانيها وتطبيقاتها. لكن هذا لا يلغي صفة المرونة بذاتها. وآخر الأمثلة على ذلك إقدام الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز على إصدار أمر ملكي (تشريعي) بدخول المرأة كعضو في مجلس الشورى، وأن يكون تمثيل المرأة في المجلس بما لا يقل عن 20 في المئة من أعضائه. يتعلق هذا الأمر بموضوع الولاية العامة للمرأة، والخلاف حول جوازه من عدمه قديم وواسع بين الفقهاء. والمؤسسة الدينية السعودية تتبنى الرأي الذي لا يجيز هذه الولاية للمرأة، وبالتالي لا تجيز عضويتها في المجلس. لكن مرونة نص المادة الأولى، والإرث التقليدي للدولة السعودية الذي تستند إليه هما ما سمح للملك بإصدار أمره الملكي ضمن المساحة التشريعية التي يتيحها له ذلك، ثم قبول الجميع بمشروعيته. الشاهد في كل ذلك أن الدولة كمؤسسة وكعمليات اجتماعية وسياسية واقتصادية وتشريعية، وليس كأفراد وتيارات بعينهم، هي في واقع الأمر ليست دولة سلفية كما يتردد، وبالمعنى الضيق كما هو شائع.
لعل الملمح الأوضح لصفة البراغماتية المشار إليها يبرز في السياسة الخارجية للدولة السعودية. هنا لم ينتبه كثيرون أن هذه الدولة تحالفت مع حافظ الأسد العلوي في سورية ولمدة ثلاثة عقود من الزمن. وتحالفت مع علي عبدالله صالح الزيدي في اليمن، ومع حسني مبارك وقبله أنور السادات، وبعده عبدالفتاح السيسي، وكلهم من السنّة في مصر، حيث يهيمن المذهب الشافعي. تحالفت وتتحالف مع ملكيات وجمهوريات من داخل المنطقة وخارجها. وتتحالف في الوقت نفسه مع دول غربية علمانية، لها جذور مسيحية، مثل الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا. هل يمكن أن تكون هذه السياسة الخارجية سياسة دولة سلفية بالمعنى التقليدي الضيق، دع عنك المعنى الجهادي المتطرف؟ الأمر الذي يشير إلى الخطل الكبير للمقاربات التي تضع المسؤولية الرئيسة لتفشي الجهادية الإسلامية على السعودية. إذا كان الأمر كذلك، أين تقع هذه المسؤولية؟