علي الرغم من المبالغة الشديدة في رد فعل الأسواق المالية العالمية على الإجراءات الصينية المتعلقة بخفض سعري الصرف والفائدة لمواجهة تباطؤ الاقتصاد والصادرات الصينية، فإنها تثبت أن الاقتصاد الصيني إذا عطس فإن العالم يصاب بالزكام. وكان هذا التأثير مقصورا على الاقتصاد الأمريكي العملاق والاتحاد الأوروبي فيما سبق، لكن النمو الاقتصادي الصيني الطويل الأجل وصل بالاقتصاد الصيني إلى هذه المكانة. وكانت موجة من الاضطراب في أسواق المال العالمية قد أعقبت الإجراءات الصينية المشار إليها، وإن كانت غالبية الأسواق قد شهدت موجات ارتدادية لأسعار الأسهم التي تراجعت بلا مبرر قوي فعليا. ولكن ذلك لم يمنع تصاعد المخاوف والأحاديث عن أزمة اقتصادية عالمية جديدة. والحقيقة أن العالم ما زال يعاني تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008 والتي لم يخرج الاقتصاد العالمي منها كلية، بل تظهر بؤر جديدة لها رغم التوجه نحو الخروج البطيء منها.
وقد اندفع الكثيرون للتبشير بأزمة اقتصادية عالمية جديدة بسبب التراجع المتوقع في قيمة التجارة السلعية العالمية في العام الحالي بنسبة 8,1% لتنخفض من 18817 مليار دولار عام 2014 إلى نحو 17285 مليار دولار عام 2015 حسب تقديرات صندوق النقد الدولي. لكن هذا التراجع هو في قيمة التجارة بسبب انخفاض أسعار النفط ومشتقاته وبعض السلع الغذائية والصناعية، وليس في حجم ووزن التجارة العالمية. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن حجم صادرات الدول النامية والناهضة سيرتفع بنسبة 4,9% عام 2015 مقارنة بالعام السابق عليه. وسيرتفع حجم تجارة الدول الصناعية المتقدمة بنسبة 3,1% عام 2015 مقارنة بعام 2014. وهذا يعني أن التجارة الدولية تتزايد حتى وإن انخفضت قيمتها للأسباب المشار إليها. وهذا يعني بالنسبة لمصر أن حركة المرور في قناة السويس ستتزايد بسبب زيادة حجم ووزن التجارة العالمية المنقولة بحرا رغم انخفاض قيمتها.
وعلى العكس من التوقعات المتشائمة بشأن الأزمة الاقتصادية العالمية فإن انخفاض أسعار النفط سيساعد كل الاقتصادات المستوردة الصافية له وضمنها مصر على اتخاذ إجراءات توسعية تساعد على حفز النمو، فضلا عن تحسين موازين مدفوعاتها وميزانياتها العامة. لكنه بالتأكيد سيؤثر سلبيا على اقتصادات الدول المصدرة الرئيسية للنفط ومنها دول الخليج وإيران وروسيا.
تحسن معدلات النمو يخالف توقعات الأزمة
من الصعب التسليم بأـن هناك أزمة اقتصادية عالمية جديدة على الأبواب، فمعدل النمو الاقتصادى العالمى من المقدر أن يرتفع من 3.4% عام 2014 إلى 3.5% عام 2015، وأن يواصل الارتفاع ليبلغ 3.8% عام 2016 حسب التقديرات الرسمية للدول لدى صندوق النقد الدولي. كما أن الاقتصادات الكبرى المؤثرة فى حركة الاقتصاد العالمى تتحرك نحو الخروج من حالة التباطؤ الاقتصادي. وتشير التقديرات إلى أن معدل النمو الحقيقى للناتج المحلى الإجمالى سيرتفع فى الولايات المتحدة من 2.4% عام 2014 إلى 3.1% عام 2015. وخلال الربع الثانى من العام الحالى حقق الاقتصاد الأمريكى نموا بلغ 3.7%. أما دول منطقة اليورو المأزومة فإن التقديرات تشير إلى أنها ستحقق نموا قدره 1.5% فى العام الحالى مقارنة بنحو 0.9% عام 2014، ونحو -0.5% عام 2013. أما الصين التى قادت الاقتصاد العالمى للخروج من أزمته التى انفجرت عام 2008 فإن معدل النمو الحقيقى لناتجها المحلى الإجمالى سيبلغ نحو 6.8% فى العام الحالى انخفاضا من 7.4% فى عام 2014، وهو أمر معلوم منذ أبريل الماضي. ومن المتوقع ان يتراجع النمو الاقتصادى الصينى إلى 6.3% عام 2016 وأن يحافظ على هذه الوتيرة من النمو حتى عام 2020. .
وهذا التراجع فى معدلات النمو الاقتصادى الصينى هو أمر طبيعى لاقتصاد حقق أطول وأقوى دورة نمو اقتصادى متصلة تقريبا. ففى مثل هذه الحالة يبدأ نوع من التشبع الاستثماري. كما تظهر صعوبات فى تصريف كل المنتجات فى ظل معدلات الاستثمار والتشغيل العالية ووجود فروق ضخمة فى توزيع الدخل بين أصحاب حقوق الملكية من جهة وأصحاب حقوق العمل من جهة أخرى. وكان اعتماد الصين على الطلب العالمى والتسويق الخارجى لمنتجاتها قد ضمن لها نموا طويل الأجل، لكن مع ظهور منافسين لنفس نوعية الإنتاج وعند مستويات أسعار مشابهة أو أقل فإن تنشيط الطلب المحلى يصبح ضرورة حياة للاقتصاد. كما أن تحسين توزيع الدخل كآلية رئيسية لتنشيط الطلب يصبح أمرا حيويا للنمو، فضلا عن كونه أمرا لازما للعدالة الاجتماعية.
وكان معدل النمو الحقيقى للناتج المحلى الإجمالى الصينى قد بلغ 6.4% سنويا خلال الفترة من عام 1965 حتى عام 1980، وكان أعلى من ذلك فى الفترة التى أعقبت إعلان جمهورية الصين الشعبية عام 1949 وحتى عام 1964. ثم ارتفع معدل النمو إلى نحو 10% فى المتوسط سنويا خلال الفترة من عام 1981 حتى عام 2013.
حصيلة النمو الصيني السريع والطويل الأجل
كانت حصيلة النمو القوى والطويل الأجل هى أن الناتج القومى الإجمالى للصين المحسوب بالدولار طبقا لسعر الصرف السائد أصبح 8.9 تريليون دولار (التريليون يعادل ألف مليار) عام 2013، وبلغ متوسط نصيب الفرد منه نحو 6560 دولارا. وللعلم فإن متوسط نصيب الفرد من الدخل فى الصين كان يبلغ نحو 350 دولارا فقد فى نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وكان يعادل نصف متوسط نصيب الفرد من الدخل فى مصر آنذاك.
أما الناتج القومى الإجمالى للصين المحسوب بالدولار طبقا لتعادل القوة الشرائية بين اليوان الصينى والدولار وهو الناتج الحقيقى فقد بلغ 16.1 تريليون دولار فى العام نفسه وهو ما يعادل 95% من الناتج القومى الأمريكى فى العام نفسه. كما يعادل قرابة ضعف قيمة الناتج القومى الإجمالى المحسوب بالطريقة نفسها لليابان وألمانيا مجتمعتين.
وبناء على معدلات النمو المقارنة لكل من الصين والولايات المتحدة يمكن القول إن الاقتصاد الصينى يتأهب لاعتلاء عرش الاقتصاد العالمى كأكبر اقتصاد فى العالم خلال أقل من عقد من الزمن إذا احتسب الناتج بالدولار طبقا لسعر الصرف، أما إذا احتسب وفقا لتعادل القوة الشرائية فإن ثلاثة أعوام فقط كفيلة بتفوق الاقتصاد الصينى على نظيره الأمريكى من زاوية الحجم.
من ناحية أخري، فإن الصين صارت تحتل الصدارة أو تنافس عليها فى كل شيء تقريبا. وبالنسبة لحجم الاستثمارات المباشرة الجديدة فإنها تبلغ فى الصين أكثر من 4 تريليونات دولار فى العام، أى قرابة ربع الاستثمارات الجديدة فى العالم بأسره، وهى بالطبع فى موقع الصدارة فى هذا الشأن معتمدة على استثماراتها المحلية بالأساس.
وحتى بالنسبة للاستثمارات الأجنبية المباشرة فإن الصين تأتى فى المرتبة الأولى عالميا فى استقبال تلك الاستثمارات، حيث يشير تقرير الاستثمار العالمى (2015) إلى أنها تلقت نحو 129 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة عام 2014.
وفى السياق نفسه تحولت الصين إلى ثانى أهم دولة مصدرة للاستثمارات المباشرة بعد الولايات المتحدة، حيث خرج منها استثمارات مباشرة لدول أخرى بقيمة 116 مليار دولار عام 2014. وربما تؤثر بوادر التباطؤ الاقتصادى بعد نمو سريع وطويل الأجل فى تدفق الاستثمارات الصينية المباشرة للخارج، لكن ذلك التأثير سيكون محدودا ومؤقتا على الأرجح، لأن هناك جبالا من الأموال متراكمة لدى الصين وشركاتها، ومن مصلحتها أن توظفها فى فرص استثمارية مربحة فى بلدان أخرى، خاصة أن الاستثمارات المحلية العملاقة يقابلها مدخرات سنوية تتجاوزها كثيرا، ولايحتاج تمويلها إلى السحب من أرصدة المدخرات والاحتياطيات المتراكمة من قبل. ومن المؤكد أن خفض سعر الفائدة يستهدف تشجيع الاستهلاك المحلى كمحفز للاستثمار ومنعش للنمو. وللعلم فإن معدل الادخار المحلى فى الصين يدور حول مستوى 50% من الناتج المحلى الإجمالي، وبلغ فى عام 2011 نحو 52.7% من الناتج المحلى الإجمالي. وحتى ندرك استثنائية هذا المستوى المتواصل للادخار فى الصين، فإن المتوسط العالمى يبلغ نحو 21%، بينما بلغ هذا المعدل 5.2% فى مصر فى عام 2013/2014. وترتيبا على ذلك فإن تأثير تشجيع الاستهلاك عبر خفض سعر الفائدة لن يضر بوفرة التمويل المحلى الضرورى لتمويل الاستثمار.
أما بالنسبة للصادرات السلعية فقد تحولت الصين منذ خمسة أعوام إلى أكبر مصدر للسلع فى العالم. والغالبية الساحقة من الصادرات الصينية أو نحو 95% منها عبارة عن سلع صناعية. والأهم من سيطرة السلع الصناعية على قوائم الصادرات الصينية هو أن الصين أصبحت تشغل المرتبة الأولى عالميا بالنسبة لصادرات السلع عالية التقنية، حيث تصدر الصين ما يعادل 26% من إجمالى الصادرات العالمية عالية التقنية، مقارنة بنحو 9.3% للولايات المتحدة وهى الدولة التى تأتى فى المرتبة الثانية بعد الصين.
فرص مواجهة الاضطرابات المالية
إذا كان اضطراب أسواق المال الصينية قد بدأ بعد ظهور مؤشرات تباطؤ الاقتصاد الصيني، وتلتها الأسواق العالمية، فإن الصين نفسها تملك قدرات هائلة على معالجة هذا الاضطراب من خلال احتياطياتها التى تقارب 4 تريليونات دولار. وهى احتياطيات تتعزز سنويا بسبب استمرار فائض ميزان الحساب الجارى الصينى الذى بلغ 2% من الناتج المحلى الإجمالى عام 2014. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولى إلى أن هذا الفائض سيرتفع إلى 3.2% فى العام الحالي، وسيستمر عند نفس المستوى عام 2016. وهذا المستوى من الفائض إضافة إلى الاحتياطيات الصينية العملاقة يتيح لبكين مرونة كبيرة فى الحركة فى معالجة حالة التباطؤ الاقتصادى الطبيعية والتى دخلتها كل الاقتصادات التى حققت دورات طويلة من النمو والتحول الاقتصادي. كما أنه يخلق الفارق فى القدرة على مواجهة أى اضطراب مالى بين دولة لديها فائض هائل واحتياطيات عملاقة، ودول أخرى مثل الولايات المتحدة التى سقطت فى هوة الأزمة عام 2008 لأنها ببساطة لم يكن لديها ذلك الفائض وتلك الاحتياطيات.
ولغرض المقارنة فإن ميزان الحساب الجارى الأمريكى يسفر عن عجز بلغ 2.4% من الناتج المحلى الإجمالى الأمريكى عام 2014. ومن المقدر له أن يتراجع إلى 2,3% عام 2015، وأن يعاود التزايد إلى 2.4% عام 2016. ومن المؤكد أن العجز الأمريكى والفائض الصينى يشيران إلى قوة مسيطرة لكنها عجوز متراجعة وأخرى فتية صاعدة.
وإذا كان الاقتصاد العالمى الذى يفتقد للعدالة الداخلية فى كل بلد وللتوازن والتكافؤ فى العلاقة بين مختلف الدول، سيظل يعانى من أزمات مالية واقتصادية من حين لآخر بسبب هذه الاختلالات الجوهرية، فإن ما يجرى فى الصين حاليا هو تطورات تبدو عادية لبلد ينفض حمى النمو السريع ليدخل مرحلة النمو المتوسط، قبل أن يصبح مثل الاقتصادات الصناعية المتقدمة التى صارت بطيئة النمو بعد أن أحرزت مستويات عالية من الثراء والتشبع.