من الطبيعي أن تكون هناك صور متناقضة في أي بلد، وبالذات في لحظة تغيير وحراك لا يسير فيها كل شىء بشكل متناغم بل في مسارات متفاوتة وأحيانا متناقضة كليا. ومن الطبيعي أيضا أن يدفع كل الحريصين على مستقبل الوطن وعلى كل قيم التحضر والتنوير والحق والعدل والحرية والتنمية والتقدم والإنجاز في اتجاه أن تكون الصور الإيجابية نموذجا، وأن تكون هناك معالجة حاسمة للصور والظواهر السلبية حتى لا تتحول إلى قواعد وتطمس الوجه البهي للوطن.
ولنبدأ بصورة مشرقة تليق فعلا بقيمة وقامة مصر، وهي الأكاديمية المصرية للفنون في روما، مساء الخميس الماضي شاركت في ندوة بالأكاديمية المصرية للفنون في روما. وكان الطرف الثاني هو أحد أهم علماء الآثار الإيطاليين (باولو ماتيا)، وكان الحضور خليطا من الجالية المصرية ومن بعض الدبلوماسيين العرب ومن النخبة الثقافية الإيطالية، وبالذات من المهتمين بالشأن المصري والعربي، فضلا عن السفير المصري وممثلي أجهزة الدولة المصرية المبعوثين رسميا في روما. وأدارت الندوة المديرة الرفيعة الكفاءة للأكاديمية المصرية للفنون في روما الدكتورة جيهان زكي المعجونة بعشق مصرنا العظيمة. ورغم أن الندوة كانت مكرسة لتناول مكانة ودور المرأة المصرية في التاريخ من ألق العهد المصري القديم إلى الواقع الراهن والتأثيرات السلبية للمجتمعات المحافظة والأقل تحضرا على المجتمعات المتحضرة في لحظات أزمتها الاقتصادية، والأدوار الهائلة للمرأة في التاريخ الحديث وفي ثورة 25 يناير 2011 وموجتها الثانية في 30 يونيو 2013، وفي إقرار الدستور، إلا أن أسئلة الحضور دفعت النقاش في مسارات أخرى في مجالات السياسة والاقتصاد. وقد أدهشتني شجاعة العالم الإيطالي الرافض لكل أشكال الغزو والتخريب الغربي في بلادنا، وبالذات في سوريا ومن قبلها ليبيا والعراق، وما ترتب على التدخلات الغربية فيها بصورة مباشرة أو عبر قطعان الإرهابيين من تدمير مروع للآثار التاريخية للحضارات القديمة في تلك البلدان ومن سرقة وسطو عليها لبيعها في سوق النخاسة العالمية لامتهان حضارات الشعوب وشواهدها الأثرية.
منارة مصرية رائعة
كانت الندوة إجمالا تجسيدا حيا لفكرة الحوار مع الآخر وتبادل التأثير بصورة تخدم القضايا العادلة للوطن. وأسرتنى سيدة إيطالية وهى تلح فى العمل على تغيير الصورة العامة عن مصر لأنها منفتحة وآمنة بأكثر من الكثير من الدول الأخرى وتستحق أن يتدفق إليها السياح من إيطاليا وأوروبا والعالم عموما.
ولمن لا يعرف هذا التصرف الرائع فإن الأكاديمية المصرية للفنون فى روما هى واحدة من 17 أكاديمية للفنون فى تلك المدينة التى تعد أروع الإطلالات الأوروبية على الساحل الشمالى للمتوسط بكل ميراثها الرومانى المذهل وميراث البلدان التى سيطرت عليها ونهبت آثارها وصارت جزءا من ملامح المدينة وتحديدا المسلات المصرية العظيمة الشاخصة بجلال نحو قلب السماء والتى ترسخ بصمة مصر الحضارية وتأثيرها التاريخى الهائل كأم لكل حضارات المتوسط. وكان الفنان الرائع راغب عياد هو أول من فكر فى إقامتها فى أثناء بعثته لدراسة الفنون فى روما بتمويل من الأمير يوسف كمال الذى يعتبر الراعى الأعظم للفنون والذى أنشأ مدرسة الفنون الجميلة عام 1908 وظل ينفق عليها منفردا حتى عام 1925 فى نموذج يندر أن يتكرر بين الأثرياء لرعاية الفنون وبناء قيم الجمال والرقى والتحضر.
ورغم تناقض التصميم الخارجى الحديث والجاف لمبنى الأكاديمية المصرية للفنون فى روما مع النقوش المصرية القديمة (الفرعونية) التى تزدان بها، فإن الداخل يعطى إحساسا آخر وينقلك على الفور لتحس بدفء مصر يغمر كل حنايا المكان. واستوقفتنى صور عظماء الفنون المصرية التى تزدان بها جدران الأكاديمية، ومتحف المستنسخات الخاصة بآثار مقبرة توت عنخ آمون والتى تشكل إبهارا مذهلا لكل من يزور الأكاديمية، وهى إضافة من المديرة الحالية بحكم كونها عالمة آثار قبل أن تصبح مديرة للأكاديمية.
ومن اللافت أن مصر لم تكتف بامتلاك تلك الأكاديمية فى روما والتى أعطت لإيطاليا مقابلها أرضا لتقيم عليها أكاديميتها فى مصر، بل إن تمثالا رائعا لأمير الشعراء أحمد شوقى نحته المثال جمال السجينى ينهض شامخا فى ميدان قريب من تلك الأكاديمية شاهدا على أن عظماء مصر يستحقون أن تزدان بهم ساحات أوروبا. والأمر الرائع أيضا أن مصر اشترت من سويسرا جناحا فى بينالى فينيسيا عام 1952 وما زالت هى الدولة العربية الوحيدة التى تملك جناحا فى هذا البينالى الأشهر على الصعيد العالمي. ويزخر تاريخ الأكاديمية المصرية للفنون فى روما بأسماء عظيمة سجلت إنجازات كبيرة ولعل أبرزها وزير الثقافة ثروت عكاشة، وصلاح يوسف كامل الذى ادارها من عام 1956 حتى عام 1979. باختصار هذه الأكاديمية فخر لمصر ويمكن تطوير توظيفها لتصبح شعلة نشاط على مدى العام وهو أمر أحسب أنه ممكن تماما بالتعاون والتوافق بين الوزارة ومديرة الأكاديمية.
البيانات غير الدقيقة لاتساعد على الإنجاز
على عكس الصورة الإيجابية الرائعة للأكاديمية المصرية للفنون فى روما ونشاطها وإدارتها الوطنية الرفيعة الكفاءة، فإننى صدمت بالبيانات الخاصة بالبطالة والتى يصدرها الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى مصر والتى تفتقد الدقة والمنطقية. وهذه البيانات من المفترض أن تقدم الصورة الحقيقية للبطالة فى مصر كآلية لحشد المواقف المجتمعية والحكومية لمواجهة الظاهرة على قدر حجمها وخطورتها. كما أن تلك البيانات تشكل الأساس الذى يبنى عليه الرئيس والحكومة خطة مواجهة البطالة فى مصر، لكنها بصورتها الراهنة لا يمكن الاعتماد عليها فى هذا الشأن.
وحتى تكون الكلمة للمنطق وللعلم فإن بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى مصر تشير إلى أن تعداد قوة العمل (عاملين وعاطلين) بلغ 27,7 مليون شخص عام 2014، مقارنة بنحو 27,6 مليون عام 2012. أى أن قوة العمل المصرية لم تزد خلال عام كامل إلا بنحو 100 ألف عامل!!
وترتيبا على هذا النمو البطىء لتعداد قوة العمل فإن معدل البطالة المحسوب بهذه الطريقة انخفض من 13,2% عام 2013، إلى 12,9% عام 2014، وهو بيان يشجع على التراخى فى مواجهة مشكلة البطالة مادامت أنها تحل نفسها بلا استراتيجية أو خطط للمعالجة. لكن الحقيقة أن هذا البيان بعيد عن المنطق من واقع بيانات أخرى لدى الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء نفسه. وتشير بيانات الجهاز الخاصة بخريجى النظام التعليمى فى مصر إلى أن عدد خريجى التعليم المتوسط (الدبلومات التجارية والصناعية والزراعية) بلغ 546 ألف خريج، بينما بلغ عدد خريجى الجامعات والمعاهد الفنية نحو 358 ألف خريج. أى أن مجموع خريجى التعلم المتوسط والجامعى بلغ 904 آلاف خريج. وهذا يعنى أن الغالبية الساحقة من هؤلاء تنضم لقوة العمل. ويضاف إلى ذلك الداخلون الجدد لسوق العمل من غير المتعلمين أو من الذين تسربوا من التعليم ليبلغ مجموع الداخلين الجدد لسوق العمل من المتعلمين وغير المتعلمين أكثر من 1,1 مليون شخص سنويا. ومع خروج أعداد من العاملين من سوق العمل بالمعاش أو الوفاة ، فإن صافى الداخلين الجدد لسوق العمل لا يقل عن سبعمائة ألف سنويا، فكيف تقلص بقدرة قادر إلى مجرد مائة ألف؟! وبالنسبة لدخول بعض الخريجين فى الخدمة الوطنية (العسكرية)، فإن أعدادا مقابلة لهم تكون قد أنهت خدمتها ودخلت سوق العمل، وبالتالى فإن التأثير متعادل فى هذه الحالة، ليبقى رقم الداخلين الجدد أعلى من 700 ألف سنويا.
ولو تأملنا البيانات الخاصة بقوة العمل المصرية سنجد أن هذا الخلل مستمر منذ سنوات وينقطع ليعود للظهور بغرض تخفيض حجم البطالة ومعدلها. وعلى سبيل المثال بلغت قوة العمل 20,9 مليون شخص عام 2004، وارتفعت إلى 22,1 مليون عام 2005 بزيادة صافية قدرها 1,2 مليون شخص، وارتفعت إلى 23,2 مليون عام 2006 بزيادة صافية قدرها 1,1 مليون شخص، وارتفعت عام 2007 إلى 24,3 مليون بزيادة صافية قدرها 1,1 مليون شخص، وارتفعت عام 2008 إلى 24,7 مليون بزيادة قدرها 400 ألف فقط، وهى زيادة محدودة لا تتسق مع معدلات الزيادة الطبيعية فى قوة العمل فى السنوات السابقة بل تبلغ نحو 36% من تلك الزيادة فى العام السابق مباشرة.
وارتفع تعداد قوة العمل المصرية عام 2009 إلى 25,4 مليون بزيادة قدرها 700 ألف شخص، وارتفع عام 2010 إلى 26,2 مليون بزيادة 800 ألف شخص، وارتفع عام 2011 إلى 26,5 مليون بزيادة قدرها 300 ألف فقط وهو أمر مجافى للمنطق والعلم. وارتفع التعداد فى عام 2012 إلى 27 مليونا بزيادة 500 ألف شخص، وارتفع عام 2013 إلى 27,6 مليون بزيادة 600 ألف شخص، قبل أن يتم قصر الزيادة على 100 ألف فقط فى عام 2014 ليصل تعداد قوة العمل إلى 27,7 مليون شخص فى معاندة حقيقية للواقع وللمنطق الديموجرافى ولبيانات الجهاز نفسه بشأن خريجى النظام التعليمي. ولو كانت قوة العمل قد زادت فى عام 2014 بنفس العدد الذى زادته عام 2013 رغم ان كليهما منخفض عن الواقع لارتفع معدل البطالة إلى 14,5%، بدلا من الانخفاض غير المنطقى الذى تسجله بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء.
ومجددا لابد من التأكيد على أن ارتفاع معدل البطالة يحدث فى كل الاقتصادات فى أوقات أزمتها وأبرزها الدول الأوروبية فى الوقت الراهن وبالذات بلد مثل اسبانيا حيث يبلغ معدل البطالة فيه 23,8% من قوة العمل. لكن احترام الحقائق وتشجيع الإنجاز يفرض على الجهاز الإحصائى مصارحة الحكومة والشعب بالوضع لخلق حالة من الاحتشاد الحكومى والمجتمعى لمواجهة هذه الظاهرة الأخطبوطية التأثير فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. أما خروج البيانات بهذه الصورة غير العلمية فإنه يخلق حالة من التراخى فى معالجة البطالة وهذا لا يصب فى مصلحة جهود مكافحة البطالة بكل آثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الوبيلة.
المتفوقون من أبناء العمال والفلاحين أحق بنيابة مصر
فى نفس سياق الصور السلبية التى لابد لمصر من إنهائها باعتبارها علامة رديئة على التمييز الطبقي، تأتى صورة المتفوقين من أبناء العمال والفلاحين المحرومين من دخول النيابة لمجرد أنهم أبناء السواعد التى تبنى وتفلح الأرض وتنتج الخير لمصر وشعبها. إن حرمان هذا النبت المكافح فى أرض مبتلاة بالحشائش السامة للواسطة والمحسوبية منذ سنوات طويلة، يغلق بوابات المستقبل أمام بعض من أنجب خريجى كليات الحقوق. وإذا كان الأمر يتعلق بالمنتمين للجماعة الإرهابية والمتورطين فى أنشطتها العنيفة فإنه تم استبعادهم بالفعل، ولا علاقة للمجموعة الباقية التى لم يتم تسليمها عملها فى النيابة بعد صدور قرار مجلس القضاء الأعلى بتعيينهم فى 24/6/2013 بهذا الأمر. والأمر الحاسم فى هذا الشأن هو تقارير أجهزة الدولة التى من المفترض أن تقوم بدورها بصورة نزيهة وعادلة بشأن علاقة أى من هؤلاء الخريجين المتفوقين بالعنف والتطرف الذى يوجب استبعاده بدون أى تردد. وما عدا ذلك من أمور مثل الانتماء الطبقى أو تعليم الأبوين فإنه ضد قواعد الحق والعدل. وإذا كان وزير العدل المستقيل قد صرح بأن أبناء عمال النظافة لا يحق لهم دخول السلك القضائى فإنه فى الحقيقة لم يكن يغرد فى هذا السياق وحده، بل هو كان أكثر استقامة فى التعبير عن روح التمييز الطبقى الردىء الذى يكتنف الكثيرين من العاملين فى هذا القطاع بلا أى مبرر منطقى أو أخلاقى أو علمي. إن أى دولة تبنى على مثل هذه القيم التمييزية الرديئة تحرم نفسها من روافد للتطور والإبداع والإنجاز بحرمانها نفسها من المتفوقين من أبنائها، وتعيين الفاشلين والأقل تفوقا من أبناء الطبقة العليا أو ابناء العاملين فى القطاع المعنى فى محسوبية فجة ومدمرة لكفاءة أجهزة الدولة.
ويكفى أن نذكر للعنصريين الذين لا يحترمون حقوق ابناء العمال والفلاحين أن انعدام الحس بالعدل والحق وعدم احترام القانون موجودة فى كل الطبقات والمهن، فرئيس إحدى النيابات وشقيقه تورطا فى تجارة الآثار، وغيرهما كثيرون تورطوا فى كل أنواع الجرائم. والرئيس المخلوع وأبناؤه وهم بالضرورة من الطبقة العليا تورطوا وفقا للحكم القضائى بحقهم فى عملية سطو على المال العام، بما يعنى ان الإجرام لا يعرف طبقة دون غيرها، ولأن الموضوع فى يد الرئيس الآن، وهو من بيده إنفاذ الحق، فإننى آمل أن يطلب التقارير الخاصة بموقف هؤلاء المتفوقين من خريجى كليات الحقوق من قضايا التطرف والعنف، ومن لم يثبت بحقه أى انتماء لمجموعات متطرفة أو عنيفة، فإن الإنصاف يقتضى إنفاذ قرار تعيينهم الذى اصدره مجلس القضاء الأعلى عام 2013، لأن الموقف المضمر بعدم تعيينهم لأنهم أبناء فلاحين أو عمال هو سبة وعار كنا نحسب أنه انتهى منذ قام الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بتعيين ابن الفلاح المتفوق فى النيابة العامة رغم عدم موافقة مجلس القضاء الأعلى آنذاك. وكلى أمل أن يصدر قرار ينتصر للحق والعدل والدستور الذى شارك العمال والفلاحون وأبناؤهم فى إقراره والذى ينص على إتاحة الوظائف العامة على أساس الكفاءة وليس المحسوبية أو مؤهل الوالدين.