شكلت سيطرة الاحتكار في الإنتاج والتجارة وما يترتب عليها من ارتفاع مبالغ فيه في الأسعار، أحد الأسباب المهمة للاحتقان الاجتماعي في الأعوام العشرة الأخيرة.
كما أن الاقتصادات التي تتحرك شركاتها بشكل حر دون أي ضوابط للأسعار خلف أسوار عالية للحماية الجمركية طويلة الأجل، تكون في العادة اقتصادات مترهلة وغير قادرة على المنافسة. كما أنها تكون قائمة على ظلم اجتماعي واضح يتمثل في ترك المستهلكين، وهم عموم الشعب، لاستغلال المحتكرين دون حماية من الدولة، مع حرمانهم من فرصة الحصول على السلع بصورة أجود وأرخص من إنتاج بلدان أخرى.
وبعد ثورتين، دفع فيهما الشعب تضحيات كبرى، لم يعد مقبولا على الإطلاق العودة لسياسة حماية الاحتكار وأرباحه الشرهة تحت دعاوى زائفة بحماية الإنتاج المحلي. والحماية الحقيقية لهذا الإنتاج المحلي هى تقديمه سلعا جيدة وبأسعار قريبة من التكلفة وقبوله بمعدلات ربح معتدلة بدلا من الاعتداء على حقوق المستهلكين بأسعار مرتفعة. والغريب أنه يتم اتباع سياسة رأسمالية حرة في كل ما يحقق مصلحة الرأسمالية حتى ولو على حساب الشعب ومقتضيات العدالة الاجتماعية، وعندما تكون الحرية في مصلحة المستهلكين يجري الانقضاض عليها، وتظهر دعاوى حماية المنتجات الوطنية من جهات لا علاقة لها باعتبارات الاستقلال الوطني أصلا، ممن يعلنون دائما أن رأس المال لا وطن له سوى المصلحة!
هل عدنا لحماية احتكارات الحديد؟
فرضت الحكومة أخيرا رسوما جمركية نسبتها 7,3% على واردات مصر من حديد التسليح، وبما لا يقل عن 290 جنيه للطن، وذلك لمدة 200 يوم. وجاء ذلك الإجراء بطلب من منتجين، يشكل إنتاجهم أكثر من ثلثى إنتاج الحديد فى مصر، وفى مقدمتهم حديد الدخيلة (عز). وهذا الإجراء يمثل عودة لحماية الأرباح الاستثنائية للمحتكرين المحليين على حساب المستهلكين.
وإذا لم يكن المنتج المحلى قادرا على المنافسة رغم الامتيازات التى يحصل عليها، فإنه يعانى اختلالا كبيرا ويحتاج للمعالجة وليس لتسهيل اعتدائه على مصالح المستهلكين. ويحصل المنتجون المحليون على مواد الطاقة بأسعار مدعومة تقل عن ثلث أسعار المواد المناظرة فى الأسواق الدولية. كما أنهم يستخدمون العمالة المصرية منخفضة الأجر التى تقل أجورها بصورة هائلة عن أجور العمالة المناظرة فى الدول المصدرة للحديد بأسعار أقل مثل تركيا وأوكرانيا. كما أنهم عندما يبيعون إنتاجهم فى السوق المصرية لا يتحملون تكاليف النقل والتأمين من بلدان أخرى مثلما هو الحال عند موردى الحديد من الخارج، أى أن عندهم فرصة لتحقيق أرباح عالية إذا عملوا بكفاءة وباعوا إنتاجهم بأقل كثيرا من أسعار الحديد المستورد، أو حتى بنفس سعره وهذا أضعف الإيمان. وفى ظل ظروف كتلك فإن إصرار المنتجين المحليين على رفع أسعارهم عن أسعار الحديد المستورد هو تجسيد لنزوع شره لتحقيق أرباح استثنائية بالأساس.
ومن المفارقات أن قرار فرض رسوم جمركية على واردات الحديد يأتى بعد فترة قصيرة من خروج أهم من يملكون حصصا احتكارية فى السوق وهو أحمد عز من السجن!! وكان أحمد عز قد استحوذ على شركة حديد الدخيلة فى عهد مبارك بعد بيع حصة المال العام له فى صفقة مثيرة للجدل، بما جعل له حصة كبيرة فى السوق جعلته فى مقدمة المحتكرين فى سوق الحديد.
وتشير بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن سعر طن الحديد بلغ نحو 5316 جنيها فى سبتمبر 2014، مقارنة بنحو 5018 جنيها فى سبتمبر 2013. بزيادة نسبتها 6%. وتلك كانت هى حالة الأسعار فى ظل استيراد حديد يصل سعر الطن منه إلى أقل من أربعة آلاف جنيه، ويشكل ضغطا على حركة الأسعار. ومع فرض الرسوم الجمركية المشار إليها آنفا على الحديد المستورد، فإن أسعار المنتج المحلى ستكون أكثر تحررا فى الارتفاع، والخاسر الوحيد هو المستهلك. وتأتى الحكومة نفسها فى مقدمة الخاسرين، لأنها المستهلك الأكبر للحديد فى مشروعات البنية الأساسية.
وللعلم فإن مصر تحتاج لإجراءات شديدة الفعالية لمواجهة ارتفاع أسعار السلع والخدمات، لأن الاقتصاد المصرى فى الوقت الراهن هو اقتصاد تضخمى بطبيعته نظرا لاعتماده على تدفقات مالية كبيرة من تحويلات العمالة التى بلغت قيمتها 19268 مليون دولار عام 2012/2013، ومن إيرادات قناة السويس التى بلغت نحو5032 مليون دولار فى العام المالى المذكور، وتشير التقديرات إلى أنها بلغت أكثر من 5.3 مليار دولار فى العام المالى 2013/2014. ومن ريع ثروة مصر من النفط والغاز حيث بلغ صافى ميزان تجارة البترول نحو 6 مليارات دولار فى العام المالى نفسه، ومن إيرادات السياحة التى بلغت نحو 9.8 مليار دولار عام 2012/2013، وإن كانت التقديرات تشير إلى أنها تراجعت بشدة وستكون فى حدود 5 مليارات فقط فى العام المالى 2013/2014. وهذه التدفقات المالية الضخمة التى لا يقابلها إنتاج محلى من السلع والخدمات المطلوبة للمستهلكين المحليين، تعنى فى التحليل الأخير وجود فجوة كبيرة بين الطلب المحلى الضخم على السلع والخدمات، وبين العرض المحلى الأقل منه، وهى فجوة مغذية لانفلات التضخم.
كذلك فإن العجز الضخم للموازنة العامة للدولة يعد عنصرا رئيسيا مسببا للتضخم، لأنه عندما يحل أجل صكوك الدين العام من أذون وسندات الخزانة هى أو عوائدها العالية جدا بالمقارنة بالفائدة المصرفية، فإنها تتحول إلى أموال بيد من كانوا يحملونها، وتتحول بالتالى إلى طلب فعال فى السوق يؤدى لارتفاع الأسعار. ويبلغ العجز المقدر فى موازنة عام 2014/2015 بنحو 239 مليار جنيه. وقد ادى تراكم هذا العجز عاما بعد عام إلى تعملق الديون العامة الداخلية التى تجاوزت كل حدود الأمان وبلغت نحو 1817 مليار جنيه فى نهاية يونيو الماضي، مقارنة بنحو 1527 مليار جنيه فى نهاية يونيو 2013، بزيادة نسبتها 20% فى عام واحد وهو أمر منذر بالخطر ماليا، ويشير إلى استمرار التدهور المالي. وهذا التدهور سيستمر ما لم يتم تنشيط الإيرادات العامة وضم كل إيرادات الصناديق الخاصة إليها، وشمول النظام الضريبى كل المكاسب الرأسمالية والثروات الناضبة. وسيستمر التدهور أيضا ما لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة فيما يتعلق بإلغاء دعم الطاقة الذى يحصل عليه الأثرياء والرأسمالية الكبيرة المحلية والأجنبية دون وجه حق فى ظل بيعهم منتجاتهم بالأسعار العالمية.
ومن الصعب معالجة الطبيعة التضخمية للاقتصاد المصرى المتمثلة فى الاختلال بين نمو الاقتصاد الحقيقى المنخفض والنمو المالى السريع، إلا برفع معدل الاستثمار الحقيقى وتطوير الاقتصاد العينى المتمثل فى المشروعات الصناعية والزراعية والخدمية التى تنتج السلع والخدمات، بصورة موازية للتطور فى الاقتصاد الرمزى وفى التدفقات المالية.
وللعلم فإن الغلاء أو التضخم يضرب الفقراء وأصحاب الدخول شبه الثابتة من عمال وموظفين وأرباب معاشات قبل أى أحد آخر، حيث إن دخولهم تتحرك بعد حركة الأسعار وبمعدلات أقل من معدلات ارتفاع الأسعار عادة، مما يؤدى إلى تدهور دخولهم الحقيقية وتدنى الوضع المعيشى للفقراء والطبقة الوسطى. وبالمقابل يؤدى الغلاء أو التضخم إلى زيادة ثراء الأثرياء من منتجى وتجار السلع والخدمات وملاك الأصول والأراضي، بما يعمق التفاوت الطبقى والاحتقان الاجتماعى بكل ما يمكن أن ينتج عنه من توترات أو انفجارات. كما يضر بعائد قيمة العمل وبالنظرة الاجتماعية لها.
كما أن الغلاء بكل مسبباته، وعلى رأسها الاحتكار، يجعل حركة الأسعار مضطربة وجامحة ويؤدى إلى اضطراب حسابات الاستثمار القائمة على التقديرات المستقبلية لأسعار السلع والخدمات، مما يؤدى إلى كبح الاستثمارات الجديدة وتقييد فرص النمو الاقتصادى الحقيقي.
جنون الأسمنت دون مواجهة
فى مجال مواد البناء أيضا شهدت أسعار الأسمنت جنونا حقيقيا بارتفاعات كبيرة لا علاقة لها بتكلفة الإنتاج. واستغلت الشركات العاملة فى هذا المجال حالة غياب بعض أجهزة الدولة بعد الثورة وانفجار الطلب العشوائى المرتبط بالبناء غير المرخص به لترفع أسعار إنتاجها بصورة جنونية لا علاقة لها بتكلفة الإنتاج، دون أى ردع حكومى للمحتكرين وأسعارهم الاستغلالية التى تزيد عن ضعف التكلفة.
وتشير البيانات الرسمية إلى أن سعر طن الأسمنت بلغ 780 جنيها فى سبتمبر 2014، مقارنة بنحو 640 جنيها فى سبتمبر من عام 2013، بزيادة نسبتها أكثر من 21%. ويتجاوز السعر الفعلى الذى يصل به الأسمنت للمستهلكين 800 جنيه. وبلغ سعر طن الأسمنت الأبيض نحو 1360 جنيها فى سبتمبر 2014، مقارنة بنحو 1240 جنيها فى سبتمبر عام 2013، بزيادة نسبتها نحو 10%. وارتفع سعر طن الجبس ليبلغ 564 جنيها فى سبتمبر 2014، مقارنة بنحو 537 جنيها فى سبتمبر 2013، بزيادة نسبتها 5%. وليس هناك من مبرر لتلك الأسعار المرتفعة ولزيادتها سوى الاستغلال الاحتكارى للمستهلكين دون أى ردع من الدولة.
وتهيمن على إنتاج الأسمنت شركات أجنبية اشترت قطاع الأسمنت العام فى صفقات فساد مروعة، وكانت دائما تنسق فيما بينها فيما يتعلق بتحريك الأسعار، وهو سلوك احتكارى نموذجي. كما توجد بعض الشركات العامة التى تسير على درب الشركات الأجنبية فى استغلال المستهلكين الذين تتصدرهم الحكومة التى تعتبر أكبر مشتر للأسمنت الضرورى لمشروعات البنية الأساسية.
وتشكل مواد الطاقة نحو 60% من قيمة مكونات الأسمنت. وأكثر من 30% من تكلفته الشاملة التى تتضمن التكاليف التمويلية والإدارية والتسويقية والإهلاكات والعمالة والخدمات. وكل شركات الأسمنت العامة والخاصة والمحلية والأجنبية تحصل على الطاقة من غاز وكهرباء ومازوت بأسعار مدعومة من أموال الشعب المصرى الذى تستغله تلك الشركات كلها. ويظهر هذا الاستغلال فى أرقام الأرباح غير الطبيعية أو بمعنى أدق الاحتكارية التى تحققها تلك الشركات. كما تحصل تلك الشركات على المواد الخام اللازمة لصناعة الأسمنت بأسعار رمزية.
وكانت أسعار الأسمنت قد ارتفعت من 110 جنيهات للطن عام 2002، إلى 130 جنيها للطن عام 2003، ثم إلى 280 جنيها للطن عام 2004، قبل أن يتجاوز سعر الطن مستوى 300 جنيه عام 2005، ثم تجاوز 350 جنيها فى عام 2006، وتجاوز 450 جنيها عام 2007، وتجاوز مستوى 500 جنيه فى نهاية عام 2008، قبل أن يحقق قفزات قياسية وصلت به إلى مستواه الحالى المشار إليه آنفا. وهذه الأسعار ليست مسئولية الموزعين كما تحاول الشركات تصوير الأمر، بل هى مسئولية الشركات أولا حيث يخرج الأسمنت منها بأسعار احتكارية مرتفعة، كما أنها تتواطأ مع بعض الموزعين وتخصهم بكميات كبيرة للبيع بسعر بالغ الارتفاع مع تقاسم الأرباح معهم، وهو سلوك احتكارى معروف وقديم فى مصر والعالم.
وتشير الممارسات الاحتكارية فى مجال الأسمنت والحديد وغيرهما من المنتجات إلى الضعف الشديد لقانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار، فضلا عن ضعف وبطء تطبيقه وهو أمر يحتاج لتناول مستقل فى مقال مخصص لقراءة ونقد القانون واقترحات تعديله.
كما تكشف أزمة جنون الأسمنت الراهنة أيضا عن خطورة الخطيئة التى ارتكبتها الحكومات المتتابعة ببيع شركات الأسمنت لمستثمرين من القطاع الخاص المحلى والأجنبى الذين يتسم سلوكهم فى السوق بالشراهة والرغبة فى تحقيق الأرباح الاستثنائية على حساب الشعب والمال العام.
ومن الضرورى للدولة أن تستخدم سلطتها السيادية لضبط سوق الأسمنت وحماية المستهلكين. ويحتاج الأمر لإعادة النظر فى قانون حماية المنافسة ومنع الاحتكار لتغليظ العقوبات على المحتكرين المستغلين بصورة رادعة ومانعة فعلا للاحتكار. ومن ناحية أخرى يتسم الأسمنت بأنه سلعة قابلة للتلف بسرعة وتكاليف نقلها مرتفعة، وهذا يعنى أنه لو قرر كل مستهلكى الأسمنت فى مصر بما فى ذلك الحكومة كمستهلك رئيسى له، التوقف عن استهلاك المنتج المحلى الباهظ الثمن لمدة شهر واحد مع اشتراط تخفيض أسعاره لمستوى عادل لا يزيد عن 475 جنيها للطن، فإن تلك الشركات المستغلة ستتعرض لأزمة حقيقية، خاصة لو تم منع تصدير إنتاجها فى تلك الفترة.
وبالإضافة إلى الاحتكارات فى قطاعى إنتاج الحديد والأسمنت، فإن هناك احتكارات فى مجال صناعة الأسمدة والسيراميك وغيرهما من السلع. وهناك تكتلات لصناعة المفك التى تقوم بتجميع أجهزة أو سيارات تمت صناعتها فى الخارج ويقتصر دور المنتج المحلى على التجميع والمشاركة بأجزاء هامشية لا تمثل اى مشاركة تقنية أو تصنيعية حقيقية. وتلك التكتلات ذات الطابع الاحتكارى تتركز مهمتها فى السعى الدائم لإعفاء وارداتها من المكونات السلعية من الرسوم الجمركية تحت دعوى أنهم يقيمون صناعة محلية. وعلى سبيل المثال يضيع على الدولة قرابة أربعة مليارات جنيه من الرسوم الجمركية التى يتم إعفاء مكونات السيارات التى يتم تجميعها فى مصر منها. كما تعمل تلك التكتلات الاحتكارية على تعويق نمو الصناعة المحلية الحقيقية، وأيضا على إبقاء ورفع الرسوم الجمركية على المنتجات المستوردة المنافسة للأجهزة أو السيارات التى يقومون بتجميعها، حتى يستطيعوا الانفراد بالسوق المحلية واستغلال المستهلكين فيها.
كما أن هناك احتكارات تجارية لعل أهمها تلك التى تستحوذ على استيراد المواد الغذائية وتبيعها فى السوق المحلية بمعدلات ربح استغلالية لا علاقة لها بتكلفة الاستيراد أو باحترام حقوق المستهلك. وكل هذه الأنماط من الاحتكارات وما تعنيه من اعتداء على حقوق الشعب المصرى ستكون موضوعات لمقالات قادمة إلى أن يُقام ميزان الحق والعدل بين المنتجين والمستوردين من جهة والمستهلكين من جهة أخرى.