وحدها الشعوب هي التي تدفع الثمن الدموي للإرهاب. وأيا كان الموقع أو الأصل العرقي أو الدين أو الطائفة فإن تلك الشعوب التي تتعرض للإرهاب تستحق أحر التعازي والتعاطف والدعم. الشعب الفرنسي يستحق هذا الدعم. كما يستحقه الشعب اللبناني الذي استهدفه إرهابيو داعش في الضاحية الجنوبية لبيروت التي أهدتنا هي وكل الجنوب اللبناني نصرا هائلا وكاملا علي الكيان الصهيوني فأهداها حشرات الإرهاب الوهابي دمارا ودماء. كما يستحقه الشعب العراقي الذي يسيل نهر من دماء أبنائه كل يوم بأيدي الإرهابيين القتلة الذين ما كان لهم وجود قبل الاحتلال الاستدماري الإجرامي الأمريكي للعراق والذي فتح كل بوابات جهنم التي أتي منها الإرهاب ببنائه نظاما طائفيا خربا. كما يستحقه الشعب الفلسطيني قبل الجميع حيث يرزح لدهر تحت رجم العصابات الصهيونية ومن بعدها الكيان الصهيوني الغاصب برعاية غربية حاسمة. ومصر تدرك أهمية المساندة المطلوبة لكل البلدان التي تتعرض للإرهاب لأنها ببساطة واحدة من الدول الرئيسية التي يستهدفها الإرهاب.
لكن المذهل حقا في الحملة الدولية التي استنفرتها الأحداث الإرهابية الإجرامية في باريس أن أصحاب المصادر الفكرية للإرهاب الديني وكل رعاة الإرهاب ومنشئيه ومموليه ومسلحيه انضموا لتلك الحملة وكأنهم ليسوا المسئولين عن دماء كل ضحايا الإرهاب. وهذا الأمر جعل من حملات الدعم لضحايا الإرهاب واحدة من أكثر حملات النفاق العالمي سفورا.
والحقيقة أنه عندما يتم خلط السياسة بالدين فإن النتيجة الحتمية هي نفي الآخر وتكفيره وربما استحلال دمه وأرضه وعرضه وماله, خاصة ممن لا يملكون سوي ميراث وثقافة الغزو والسلب والنهب والسبي وجفاف الروح. فكل الأديان تعتبر المتدينين بأديان أخري أغيارا أو كفارا أو مشركين. وبعض النصوص في هذا الدين أو ذاك يمكن ان تتسم بالتسامح لكن ستجد نصوصا أخري في منتهي القسوة والعنف تجاه الآخر الذي تعتبره كافرا. وهنا يتوقف الأمر علي من يختار أن يطبق جانبا من الدين حسب توجهه. والحل لهذا الأمر يكمن في إبقاء الدين في عليائه علاقة خالصة بين الإنسان وربه, وأن يكون القانون الوضعي هو أساس العلاقات بين المواطنين والدولة, وبين المواطنين وبعضهم البعض علي قاعدة المواطنة وتساوي الجميع أمام القانون.
ويعتبر الإرهاب الديني وهو أسوأ أنواع الإرهاب وأحطها, لأنه يستخدم الدين في تبرير جرائم مروعة ضد الإنسانية وضد الحياة نفسها. ويتم تسويق صورة انطباعية أن هذا الإرهاب الديني مرتبط بالإسلام وهي صورة فاسدة وكاذبة. فالحرب الإسبانية المقدسة ومحاكم التفتيش المروعة وقعت من ذلك العالم المسيحي الأوروبي ضد المسلمين. وجرائم الإرهاب التي ارتكبتها العصابات الصهيونية لترويع وطرد الشعب الفلسطيني واقتلاعه من أراضيه ارتكبها اليهود الصهاينة. والجرائم الإرهابية المروعة للعهد الاستدماري ارتكبتها دول أوروبية احترفت القتل والاحتلال والنهب لقرون عدة وعلي رأسها بريطانيا وفرنسا وإسبانيا وكلها لم تعتذر عن جرائمها التاريخية ولم تعوض الشعوب التي احتلت أراضيها ونكلت بشعوبها ونهبت مواردها.
وأقرب الجرائم الإرهابية الدولية هي تلك التي اقترفتها الولايات المتحدة وبريطانيا في غزو العراق وتخريبه وتدميره, بناء علي أكاذيب دنيئة تم تدبيرها في ظلمات العقول الاستدمارية الخربة وأوكار الاستخبارات المعادية للإنسانية في الدولتين. وانتهي الأمر بالعراق ممزقا بالحروب الداخلية والإرهاب ومحكوما بنظام قائم علي المحاصصة المذهبية والعرقية ويحمل بذور تدمير الدولة الموحدة الموجودة شكليا وليس فعليا في الوقت الراهن.
وفي ليبيا شاركت فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة في تدمير الدولة الليبية مع إصرار علي منع تسليح الجيش الوطني الذي يكافح لاستعادة وحدة ولحمة البلاد في مواجهة قطعان الإرهابيين المدججين بالسلاح من تلك الدول من فترة المواجهة مع نظام القذافي.
أما في سوريا فقد رعت الدول الغربية, وعلي رأسها الولايات المتحدة وفرنسا, المجموعات الإرهابية المسلحة التي رفعت سلاحها في مواجهة الشعب والدولة. وأعمي هدف تدمير الدولة السورية الموحدة وإسقاطها كليا تلك الدول عن طبيعة القوي الإرهابية التي استخدمتها لتحقيق غرضها. وكان ذلك تكرارا للجريمة الأمريكية في استخدام الدين في تعبئة وتجييش القوي في أفغانستان والدول العربية والإسلامية لمحاربة السوفييت. وكانت تلك الجريمة الأمريكية قد أهدت للعالم تنظيم القاعدة الإرهابي الذي مولته وسلحته المخابرات المركزية الأمريكية. وساهمت بعض الدول النفطية الصغيرة والمولدة والراعية للتطرف والإرهاب الديني في رعاية وتمويل وتسليح قوي التطرف الديني التي تحاول هدم الدولة السورية القائمة علي المواطنة. وأنتج كل ذلك تعملق الشياطين الإرهابية المتمثلة في تنظيمي داعش وجبهة النصرة. وكل منهما منطلق من نفس المنظومة الفكرية التكفيرية الوهابية. أما تركيا الأردوغانية بكل هوس قيادة العالم الإسلامي الذي يسيطر عليها فإنها ساهمت بدورها في محاولات هدم الدولة السورية وسهلت مرور الأسلحة والإرهابيين, خاصة أن تنظيمي داعش والنصرة اللذين يواجهان الأكراد في مناطق الصدام والتماس يخدمان أهدافها في محاربة الأكراد وتنظيماتهم.
ولو نظرنا تاريخيا فسنجد أن الدول الغربية وحلفاءها الإقليميين هم من رعوا إنشاء وتسليح وتمويل أكثر المجموعات الإرهابية تطرفا وتخلفا من الإخوان والسلفيين والقاعدة وجبهة النصرة وداعش والمجموعات الجهادية الأخري. وكانت تلك الدول تحتضن قيادات التطرف لتؤذي به بلداننا العربية, متصورة أنه لن يرتد إليها وإلي مواطنيها. لكن تلك المراهنة بدت خاسرة منذ وقت طويل. ورغم ذلك لا تمل الدول الغربية من تكرار المراهنة والوقوع في خطأ دعم الإرهاب علي اعتبار أنه بعيد عنها ثم تفاجأ بأنه يضرب بعنف ودناءة في قلب عواصمها.
وفي مواجهة الإرهاب وقواه الإجرامية المخربة في سوريا, وإزاء المشاهد المروعة للحرق والقتل الجماعي وأكل الأكباد والاغتصاب والسبي اضطرت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلي نفض يدها ظاهريا من تنظيمي داعش والنصرة الإرهابيين والإعلان عن حملة قصف تلك التنظيمات في سورية والعراق. واستمر القصف لأكثر من عام وتلك التنظيمات تتمدد ولا تنكمش. كما أن تنظيم داعش بالذات تلقي الكثير من الأسلحة الأمريكية تحت دعوي انها أسقطت له بالخطأ المتكرر!! وبدا الأمر وكأن هناك قوة خارقة لدي تلك التنظيمات وأن هزيمتها مستحيلة, لكن الحقيقة هي أن من صنع الإرهاب لم يرد وأده بل أراد الاستمرار في توظيفه.
وعندما بدأت روسيا في قصف مواقع الإرهابيين في سورية أحرزت تقدما هائلا وسريعا بالتعاون مع الجيش العربي السوري الذي تقدم علي الأرض بالتوازي مع ذلك القصف. وحدث تغير كبير في ميزان القوي علي الأرض لصالح الدولة السورية. وبدا واضحا أن هزيمة تلك التنظيمات ممكنة لمن يريد أن يكافحها باستقامة.
وتصاعدت دعاوي عراقية للاستعانة بروسيا في محاربة تنظيم داعش. وعند تلك النقطة تعاملت الولايات المتحدة بجدية أكبر حتي لا تخسر حلفاءها في بغداد. لكن الإرهاب كان قد تعملق ونشر أذرعه الأخطبوطية في بلدان أوروبية, وبالذات تلك التي سمحت بسفر المتطرفين منها لمحاربة الدولة السورية.
وفي مؤتمر جنيف اتفق المجتمعون فيه علي وقف إطلاق النار بين الدولة والقوي التي ستشملها العملية السياسية, وعلي بدء العملية السياسية. لكن الغريب أن تصدر تصريحات من البعض تتمسك بمنطق العنف وتصر علي أنه لو سمح ببقاء الرئيس السوري فإنها ستدعم المعارضة المسلحة لإسقاطه. وهذا المنطق يتضمن تجاوزا فظا علي سيادة الدولة السورية وعلي حق الشعب السوري في تقرير من يحكمه دون تدخل من أحد, خاصة من الدول المحكومة بنظم لم تعرف نسائم الحرية والديمقراطية إليها سبيلا.
وعلي الصعيد الاقتصادي سيكون قطاع السياحة والقطاعات الاقتصادية المرتبطة به مثل النقل الجوي والبري والبحري والفنادق والمطاعم وصناعة التذكارات السياحية هو الأكثر تأثرا بموجة الإرهاب الأخيرة. وكذلك الأمر بالنسبة للاستثمارات التي تتدفق بين دول العالم.
وتجدر الإشارة إلي أن عدد السياح عالميا بلغ1215 مليون سائح عام2014, وبلغت إيرادات السياحة الداخلة لكل دول العالم نحو1381 مليار دولار. وجاءت فرنسا في الصدارة العالمية من حيث عدد السياح حيث تدفق إليها نحو84.7 مليون سائح. وبلغت إيراداتها السياحية نحو66.1 مليار دولار. أما الولايات المتحدة فبلغ عدد السياح الذين تدفقوا إليها نحو69.8 مليون سائح, لكن إيراداتها بلغت214.8 مليار دولار بسبب طول فترة بقاء السياح فيها وارتفاع إنفاقهم. وتأتي بعد ذلك إسبانيا بنحو60.7 مليون سائح, ودخل بلغ67.6 مليار دولار. وتأتي الصين بعد ذلك بنحو55.7 مليون سائح ودخل سياحي بلغ 56.4 مليار دولار. أما أهم الدول الموردة للسياح فهي الصين التي خرج منها نحو98.2 مليون سائح وبلغت مدفوعاتهم في الخارج نحو138.3 مليار دولار. وبالنسبة لمصر فقد بلغ عدد السياح الذين زاروها عام2014 نحو9.2 مليون سائح, وبلغت إيراداتها نحو7.3 مليار دولار, بينما خرج منها5.8 مليون سائح غالبيتهم للحج والعمرة, ودفعوا في الخارج نحو35 مليار دولار.
ورغم الحالة العالمية التي تبدي التضامن في مواجهة الإرهاب, فإن هذه المواجهة يصعب أن تكون قوية ومستقيمة وحاسمة في ظل وجود قوي مولدة وممولة ومسلحة للإرهاب ضمن القوي الرئيسية التي تدعي مكافحة الإرهاب, فصناع الإرهاب لن يكافحوه, لذا فإنه إما أن تتغير تلك القوي أو أن يتم استبعادها.
كما أن العوامل التي تخلق أرضا خصبة لنمو التطرف والإرهاب ينبغي ان تتم معالجتها. فغياب العدل في العلاقات الدولية واليأس من الحصول عليه يولد العنف ويسهل لشياطين التطرف والإرهاب ان تصطاد عقول بعض الشباب. وما يجري في فلسطين التي تم اغتصابها وإذلال شعبها وإهانة مقدساتها يولد كل أنواع اليأس ليس في فلسطين فحسب, ولكن في المنطقة كلها. كما أن انتشار الفقر والبطالة وعجز البشر عن كسب عيشهم بكرامة في ظل فروق هائلة في توزيع الدخل والثروة يؤدي بدوره إلي اليأس وخلق بيئة خصبة للاحتقان والتطرف والعنف الجنائي والسياسي( الإرهاب). وتشير البيانات الرسمية العربية إلي ان هناك نحو18 مليونا من العاطلين, لكن الرقم الحقيقي يبلغ ضعف هذا العدد مخلفا أعدادا ضخمة من العاجزين عن كسب عيشهم بكرامة بكل ما يؤدي إليه ذلك من احتقان واستعداد للعنف.
ورغم ما كتبته في هذه الصفحة من قبل عن الفوارق الهائلة في توزيع الدخل والثروة في العالم إلا أنه لا ضير من التذكير بأن 0.7% هم أغني سكان العالم ممن يملكون مليون دولار فأكثر يملكون ثروات تعادل 44% من الثروة العالمية. وأن أغني8.6% من سكان العالم يمتلكون ثروات قيمتها تعادل 85.3% من ثروات العالم تاركين 14.7% من ثروات العالم لنحو 91.4% من سكان العالم طبقا لتقرير الثروات العالمي.
وداخل كل بلد هناك سوء توزيع دخل مروع في غالبية بلدان العالم. وفي مثل هذا العالم الذي تغيب فيه قيم العدل والتكافل والنهوض المشترك, من الطبيعي أن نتوقع تصاعد العنف الاجتماعي والجنائي والسياسي والطائفي والعنصري في داخل البلدان المنقسمة طبقيا بحدة وغلاظة, وبين البلدان المختلفة في مستويات معيشتها وفي حصتها من الاستحواذ علي ثروات العالم.
كذلك فإن فضاء الحرية والديمقراطية كلما يضيق عن استيعاب صرخات المظلومين والمحتجين سلميا فإنه يدفعهم دفعا نحو العنف أو الانسحاق, وكلاهما مدمر لأي مجتمع وبيئة مواتية لنمو الإرهاب. فعندما تغيب السياسة يرتفع صوت العنف. أما ما يستحق التأمل حقا فهو الأزمات المتلاحقة للرأسمالية العالمية والتي تدفعها لمستويات أعلي من العدوانية والرغبة في الانقضاض علي فضاء الحريات وهو نزوع مولد للعنف والإرهاب المقابل. ولن يكون هناك من حل أمام البشرية سوي التوجه نحو نظم أكثر عدالة وحرية وقادرة علي تحقيق التنمية المتواصلة المبنية علي توزيع عادل للدخول. ورغم أهمية المواجهات الأمنية الآنية للإرهاب والإرهابيين, فإن حل المعضلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية هي الضمانة الحقيقية لعالم بلا إرهاب.