أحمد السيد النجار
مع إعلان بعض الدول العربية عن نيتها تعزيز التعاون الاقتصادى والمالى مع مصر، أو تنظيم برنامج إسناد مالى كبير لها، بدأ الجدل العام يتجه نحو التركيز على الاستثمارات العربية والأجنبية كعامل رئيسى لتحريك الاقتصاد المصري.
وتعد قضية استقطاب الاستثمارات العربية والأجنبية المباشرة من أكثر القضايا التى تسود بشأنها أحكام انطباعية وتصورات غير واقعية. فالبعض ينظر إليها بشك كبير انطلاقاً من اعتبارات أيديولوجية وسياسية، والبعض الآخر يبنى موقفه منها انطلاقاً من تجربتها الواقعية البائسة فى مصر، ويخرج بتعميمات سلبية تغلق الباب أمام إمكان تطوير تجربة جذب تلك الاستثمارات، والبعض الثالث ينظر إليها على أنها المبتغى وأنها هدف فى حد ذاتها.
والحقيقة أن التعامل الأفضل مع الاستثمارات العربية والأجنبية ينهض على أساس تقييمها فى إطار التجربة العملية، مع رصد كيفية تطويرها لتحقيق مصالح مصر منها فى مجالات التشغيل والتطوير التقنى والإداري، وتحسين القدرة التنافسية والتصديرية، وتنويع وتطوير وتوسيع الجهاز الإنتاجى المصرى الذى تبقى عملية إصلاحه واستنهاض قدراته على التطور والنمو محلية بالأساس، أى أن الاستثمارات العربية والأجنبية ينبغى أن يتم النظر إليها كعوامل مساعدة، لأن الأساس دائما هو النهوض الاقتصادى المحلى اعتمادا على العقول والسواعد والأموال المصرية فى الداخل والخارج. كما أن دور الاستثمارات الأجنبية يتوقف على شروطها ومجالات عملها ومدى أهميتها للتطور الاقتصادى المصري.
وللعلم فإن السنوات الخمس الأخيرة، التى عبأت أكثر الاحتقانات الاجتماعية ضد نظام مبارك، هى نفسها التى شهدت أكبر تدفقات للاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى مصر. لكن تلك الاستثمارات كانت شروطها ومجالات عملها والفساد الذى اكتنف بعضها، غير ملائمة لمصالح مصر وشعبها وساعدت فى تعبئة المزيد من الاحتقانات ضد نظام مبارك وليس العكس. فجزء مهم منها كان فى شراء شركات عامة مطروحة للخصخصة، وترتب عليه تشريد مئات الآلاف من العمال ودفعهم إلى صفوف العاطلين من خلال المعاش المبكر. كما ترافقت تلك الاستثمارات مع صدور قانون الضرائب عام 2005 الذى كان متحيزا بصورة فجة للأثرياء والرأسمالية الكبيرة المحلية والأجنبية على حساب الفقراء والطبقة المتوسطة.
ووفقا لبيانات تقرير الاستثمار العالمى الصادرن عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (اليونكتاد) ارتفعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة التى تتدفق لمصر من 237 مليون دولار عام 2003، إلى 2157 مليون دولار عام 2004 وإلى 5376 مليون دولار عام 2005، وإلى 10043 مليون دولار عام 2006، وإلى 11578 مليون دولار عام 2007. وقد تراجعت بعد ذلك إلى 9495 مليون دولار عام 2008 بعد انفجار الأزمة المالية العالمية فى سبتمبر من ذلك العام، وتراجعت إلى 6712 مليون دولار عام 2009، وسجلت 6386 مليون دولار عام 2010. وبعد الثورة المصرية العظيمة فى 25 يناير 2011، حدثت حالة من الاضطراب والفوضى فى ظل افتقاد الأمن والثورة المضادة التى شنتها بقايا نظام مبارك وحزبه الوطنى المنحل. وتفاقم الأمر مع وصول الإخوان الى السلطة وإدارة الاقتصاد بنفس سياسات مبارك مع مستوى مروع من التخبط والجهل ومحاولة الاستحواذ السياسى على كل شئ، وهو ما أفضى الى تفاقم الاحتجاجات ضدهم وصولا إلى الموجة الثورية الهائلة فى 30 يونيو 2013 والتى قوضت حكم الإخوان بعد تضامن الجيش والشرطة مع ثورة الشعب.
وكانت الاستثمارات الأجنبية التى تتدفق لمصر جزءا من السياق العالمى حتى عام 2010. أما بعد ذلك العام فإن المؤثر السياسى فيها كان الوضع السياسى والأمنى فى مصر. وكانت تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى العالم قد ارتفعت من 559.6 مليار دولار عام 2003 إلى 742.1 مليار دولار عام 2004، ثم إلى 945.8 مليار دولار عام 2005، ونحو 1305,9 مليار دولار عام 2006. ثم ارتفعت إلى أكثر من 2003 مليارات دولار عام 2007، ثم تراجعت إلى 1816 مليار دولار عام 2008 بعد انفجار الأزمة المالية العالمية، وواصلت التراجع لتبلغ 1216 مليار دولار عام 2009، وعادت الى الارتفاع لتبلغ 1409 مليارات دولار عام 2010، وارتفعت إلى 1652 مليار دولار عام 2011، لكنها تراجعت بقوة تحت وطأة الأزمات المالية والاقتصادية الأوروبية لتبلغ 1351 مليار دولار عام 2012.
وحتى عندما ارتفعت الاستثمارات الأجنبية فى مصر فى الفترة من عام 2005 حتى عام 2008، فإنها كانت تتضمن قيمة المشروعات العامة التى تم بيعها للأجانب فى صفقات انطوت على مستويات مروعة من الفساد. وهى فى النهاية »استثمارات« زائفة لا تضيف أى طاقة إنتاجية جديدة للاقتصاد. كما تضمنت عائد بيع الأراضى للأجانب لاستثمارها عقاريا، وهو نوع من الاستثمار الأجنبى الهزلى بالنسبة لبلد مثل مصر، لديه شركات مقاولات صغيرة ومتوسطة وكبيرة، يمكنها القيام بكل المشروعات العقارية المطلوب تنفيذها. بل إن تدفقات الاستثمارات الأجنبية إلى مصر التى ذهبت لشراء الأراضى والاستثمار العقارى قد أدت إلى إشعال أسعار الأراضي، وجعلت السكن المعتدل السعر، حلما مستحيلاً للفقراء والطبقة المتوسطة. كما تضمنت الاستثمارات الأجنبية المباشرة،عمليات ذات طابع سيادى غير متكرر مثل بيع رخصة الشبكة الثالثة للتليفون المحمول للأجانب. كما تضمنت أرقام الاستثمارات فى قطاع النفط، وهى استثمارات لم تكن تحتسب ضمن الاستثمارات الأجنبية المباشرة، لأنها تُضخ فى قطاع أولي، كما ان قيمة الاتفاقات الاستثمارية المتعلقة بالتنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما، تتوزع على عدد كبير من السنوات ولا يصح احتسابها فى عام محدد، كما أنها تتضمن منح الطرف الأجنبى الذى يقوم بالتنقيب والاستكشاف، جزءا مهما من ثروة مصر النفطية والغازية يزيد على نصفها. وهى لا تشكل موضوعا للتفاخر، بل هى عنوان لمأساة إهدار جزء مهم من الثروة الطبيعية لمصر، كمقابل للتخلف العلمى والتكنولوجي.
وبما أن النتائج هى آلية موضوعية لقياس فعالية الاستثمار الأجنبى المباشر فى مصر، فإن الحجم الهزيل للوظائف التى أوجدتها المشروعات الاستثمارية العربية والأجنبية، وضعف الصادرات من السلع عالية التقنية التى ما زالت تضع مصر خلف بلدان عربية مثل تونس والمغرب ولبنان والسعودية والأردن، يؤكد عدم فعالية تلك الاستثمارات فى المساعدة على إحداث تغيير حقيقى فى الاقتصاد المصري. ووفقا لبيانات البنك الدولى فى تقريره عن مؤشرات التنمية فى العالم، بلغت قيمة الصادرات المصرية عالية التقنية نحو 96 مليون دولار عام 2010. وبلغت قيمة الصادرات المناظرة فى العام نفسه نحو 897، و611، و 279، و 201، و 122 مليون دولار فى كل من المغرب، وتونس، ولبنان، والسعودية، والأردن بالترتيب. وهذا الترتيب المتأخر لمصر لا يليق بقيمة وقامة مصر وتاريخها الصناعى الحديث الذى يمتد لقرنين من الزمان.
لا تناقض بين الاستنهاض المحلى وجذب الاستثمارات الخارجية
والحقيقة أن مصر تشهد، ومنذ سنوات طويلة، نظرة اتكالية فيما يتعلق باستقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتتصور أنه يمكن بناء النهوض الاقتصادى ورفع مستوى التشغيل وزيادة الناتج ونصيب الفرد منه من خلال الاستثمارات العربية والأجنبية. وهذه النظرة تتجاهل حقيقة ان دورات النمو والازدهار الاقتصادى فى أى بلد تتحقق بالأساس من خلال سواعد أبنائه والاستثمارات المحلية العامة والخاصة الصغيرة والمتوسطة والكبيرة. وعندما تبدأ دورات الازدهار الاقتصادى فى أى بلد، فإنها تغرى المستثمرين الأجانب على التوجه لذلك البلد والالتحاق بدورة ازدهاره، والمشاركة فى قطف ثمارها من خلال مشروعات مفيدة للطرفين.
كما أن هذه النظرة تتجاهل أهمية حالة الاقتصاد والمؤشرات الرئيسية المعبرة عن أدائه وانفتاحه على العالم، وحالة المجتمع ودرجة انفتاحه وتقبله للأجانب، وحالة السوق المحلية ودرجة احترامها لقواعد بناء الأسواق وتوسيعها أو ما يسمى حوافز السوق، باعتبارها العوامل الحقيقية التى تجذب الاستثمارات الأجنبية إلى أى اقتصاد نام ومزدهر للمشاركة فى الاستفادة من نموه وازدهاره. وفى كل الأحوال فإن بناء دورة النمو والازدهار الاقتصادى هو شأن محلى بالأساس كما هو ثابت من تجارب البلدان النامية والأقل نموا التى نجحت فى تحقيق اختراقات اقتصادية كبرى.
ومن الأمور اللافتة أن الرئيس المنتخب قد دعا بوضوح إلى الاحتشاد الوطنى والاعتماد على الذات من أجل إنجاز التنمية الاقتصادية ورفع معدل الاستثمار وتوفير الوظائف للعاطلين، وكذلك فعل منافسه فى الانتخابات. وهذا يعنى أن هناك توافقا وطنيا بشأن هذه القضية. وهذا الاعتماد على الذات لا يتناقض إطلاقا مع الترحيب بالاستثمارات العربية والأجنبية لتسريع عملية النهوض الاقتصادى وخلق الوظائف. ويجب على مصر أن تعتمد على سلة من السياسات المالية والنقدية والتفاوض المباشر مع المستثمرين المحليين والعرب والأجانب لتوجيه الاستثمارات الخاصة إلى القطاعات الأكثر حيوية والتى يحتاجها الاقتصاد والمجتمع فى مصر بصورة أكثر إلحاحا من غيرها.
الاستثمار الأجنبي الذى تحتاجه مصر
هناك تصورات عديدة حول نموذج الاستثمار الأجنبى الذى تحتاجه مصر. وهى تصورات ينطلق البعض منها من الرغبة فى تكرار نماذج محددة لتدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى بلدان أخرى. والحقيقة ان الاستثمارات الأجنبية المباشرة المطلوبة لمصر هى تلك التى تستقدم تقنيات جديدة يتدرب عليها المصريون من العاملين لديها. والتى توجد فرصا جديدة للعمل تمكن أعدادا كبيرة من العاملين المصريين من العمل وكسب عيشهم بكرامة وتطوير مهاراتهم. وهى أيضا التى تقبل توزيع القيمة المضافة التى يتم ايجادها فى نشاطها الاقتصادى بصورة متوازنة تعطى العاملين المصريين لديها حصة عادلة من تلك القيمة. وهى الاستثمارات التى تؤسس مشروعات تدفع ضرائب عادلة عن أرباحها الحقيقية بدون تلاعب لتحويل تلك الأرباح للشركة الأم فى الخارج. وهى أيضا الشركات التى تنشيء دورات متكاملة من التصنيع وخطوط إنتاج كاملة لصناعات متقدمة أو لأجزاء عالية التقنية من بعض السلع المعقدة كالطائرات والسفن والسيارات. وهى أيضا الشركات التى تسهم فى تحسين القدرات التنافسية والتصديرية لمصر. أما الشركات التى تتخذ منحى مختلفا عن ذلك فإنها لا تضيف للاقتصاد المصرى بل تمتص دماءه وتنزح منه فائض القيمة الذى أوجدته قوة العمل المصرية، وتستغل سوقه الضخمة وعلاقاته الدولية واتفاقيات تحرير التجارة الثنائية والمتعددة الأطراف التى عقدها لمصلحتها بصورة أنانية.
الاستثمار المحلى هو القدوة.. والأجنبى يعيد إنتاج النموذج
يعتبر تأسيس دورة من النمو والازدهار الاقتصادى فى مصر مسئولية مصرية بالأساس، وهو ما أكدته القوى السياسية والنخبة الثقافية والرئيس المنتخب فيما يشكل إجماعا وطنيا فى هذا الشأن. وهذا الازدهار مرهون بطبيعة السياسات الاقتصادية الكلية والمالية والنقدية التى يدار الاقتصاد المصرى على أساسها، ومرهون أيضابكفاءة ونزاهة الإدارة الاقتصادية التى تنفذ هذه السياسات والتى توظف الموارد وعناصر الإنتاج المتاحة لمصر وعلى رأسها عنصر العمل. ومرهون كذلك بتنفيذ إصلاح سياسى يحقق تحريرا سياسيا موازياً للتحرير الاقتصادي، بما يعنى تأسيس نظام ديمقراطى كامل وحقيقى يقوم على الفصل بين السلطات والتوازن. ومن المؤكد أن مصر تبدأ حقبة جديدة من تاريخها بتسلم الرئيس المنتخب مهام منصبه ليواجه الحمل الثقيل والمسئولية الجسيمة عن قيادة مصر للخروج من حالة التردى والتخبط الاقتصادى والاجتماعى والسياسى مسترشدا بالدستور الذى اقره الشعب.
كذلك فإن دورة النمو والازدهار ترتبط بتكريس ثقافة استثمار وادخار فعالة من خلال الجهازين التعليمى والإعلامي، وإعادة الاعتبار لقيمتى العلم والعمل كقيم حاكمة فى تحقيق النمو والازدهار والصعود الاقتصادى والسياسى والاجتماعى لأى أمة. وبالتالى فإن الاستثمارات الأجنبية المباشرة الحقيقية هى فى أفضل أحوالها عنصر مساعد على تواصل الازدهار، وليست عنصرا مؤسساً له.
وللعلم فإن الاستثمارات الأجنبية المباشرة تعيد إنتاج النمط الرأسمالى القائم فى البلد الذى تتوجه إليه. فهى ليست معنية أصلا بإصلاح هذا النمط، فإذا وجدت فى البلد الذى تتدفق إليه، صناعات متكاملة وتركيزا على الصناعات عالية التقنية والصناعات التصديرية المستندة إلى قدرة تنافسية عالية من زاويتى الجودة والسعر الذى يكون منخفضا بسبب قبول المنتجين والمصدرين بهوامش ربح معتدلة، فإنها تسير على الدرب نفسه.أما إذا وجدت نشاطات طفيلية وتضخما فى الاقتصاد الرمزى و«صناعات» تجميعية بائسة فإنها تقوم بنفس الأنشطة نفسها وبتجميع منتجاتها التى أنتجت أجزاءها خارج مصر. وإذا وجدت مغالاة فى معدل الربح واستغلال المستهلك بفرض أسعار تنطوى على أرباح استغلالية واحتكارية، فإنها تفعل الشيء نفسه.
وإذا وجدت الشركات غير المصرية فساداً فى التعاقدات العامة وفى تخصيص الأراضى وفى تأسيس الأعمال والتخارج منها، فإنها تدخل لعبة الفساد وتساهم فيها. وإذا وجد المستثمرون الأجانب أن الرأسمالية المحلية تقوم بدفع ما عليها من ضرائب وفق معدلات عادلة، فإنهم يفعلون الشيء نفسه غالباً. أما إذا وجدوا الإعفاءات الضريبية العشوائية والمفرطة والغبية، فإن إدراكهم لطبيعة وجدارة السوق المحلية يكون سلبيا باعتبار أنها تغطى وضعيتها المتدنية من خلال الإفراط فى الإعفاءات المبالغ فيها أو المعدلات الضريبية المتدنية بالمقارنة مع المتوسط العالمى ومع الأسواق الأخرى الجاذبة للاستثمارات. وإذا وجدوا أن التفنن فى التهرب الضريبى وتزوير نتائج الأعمال للتهرب من الضرائب هو السائد لدى الرأسمالية المحلية، فإنهم يفعلون الشيء نفسه....باختصار يعيد المستثمرون الأجانب إنتاج النمط الاستثمارى الرأسمالى القائم فى البلد الذى يضخون استثماراتهم إليه، وهو ما حدث فى مصر بالفعل فى عهد الرئيسين المخلوع والمعزول. وهذه الحقيقة تفرض على مصر فى عهد الرئيس المنتخب عبد الفتاح السيسي، ضرورة تطوير النمط الاستثمارى المحلى لجذب استثمارات أجنبية حقيقية وفعالة بصورة مختلفة عما جرى من قبل. ومصر الآن تبدأ بالفعل عهدا جديدا يعلق فيه شعب مصر جل آماله فى التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية على النظام الذى يجرى بناؤه وفقا لخريطة الطريق، عهدا سيشهد شعبا حاضرا لدرجة التربص من أجل تحقيق أهداف ثورته التى دفع الدماء والأرواح من أجلها.