تم القبض على رجل الأعمال الإخوانى حسن مالك الذى تدخل أعمال الصرافة ضمن نشاطه. واستقال أو أقيل محافظ البنك المركزي. وتم ذلك فى وقت يتدهور فيه الجنيه المصرى أمام الدولار والعملات الحرة الأخرى. وبدا الأمر وكأن الجنيه كان ضحية لتلاعب الأول وعدم توفيق أو ضعف فعالية سياسات الثاني. وهذا يدعونا لمناقشة وضع سوق الصرف وموقف الجنيه تجاه الدولار والعملات الحرة الأخرى بشكل علمى وموضوعى بعيدا عن نوازع الانتقام من هذا أو الشماتة فى ذاك.
ومن المعروف أن سعر صرف أى عملة تجاه العملات الأجنبية يتأثر بالعديد من العوامل الأساسية. وتعتبر حالة الموازين الخارجية للدولة على رأس تلك العوامل إذ إنها تحدد مدى وفرة النقد الأجنبى أو نقصه وتعطش السوق له. كذلك فإن سعر الفائدة الحقيقى على الودائع بالعملة المحلية بالمقارنة مع أسعار الفائدة الحقيقية على العملات الأخرى يعد عاملا مهما فى تحديد وضع أى عملة تجاه تلك العملات الحرة الرئيسية. كما أن المؤشرات الرئيسية المعبرة عن أداء أى اقتصاد مثل معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى ومعدل التضخم ومعدل البطالة تؤثر فى حركة سعر صرف العملة المحلية تجاه العملات الحرة الرئيسية. كذلك فإن حجم الاقتصاد الأسود المرتبط بالاستيراد من الخارج مثل تجارة المخدرات والسلاح يشكل عاملا مهما فى التأثير على حركة سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية.
وفى حالة وجود عمليات مضاربة على العملات الأجنبية سواء لتمويل الأنشطة الاقتصادية المشروعة أو غير المشروعة أو للاكتناز بغرض تعطيش السوق، فإنها تؤثر على حركة سعر الصرف. وهذه العمليات بالذات يكون تأثيرها أكبر من حجمها الحقيقى لأنها تخلق حالة من التوقعات باستمرار ارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية مما يترتب عليه حالة من الاكتناز وتأجيل بعض الحائزين لبيع العملات الأجنبية انتظارا لأسعار أعلى مما يترتب عليه ما يسمى تعطيش السوق. وهذا التعطيش يسهم فى تدهور سعر صرف العملة المحلية بصورة تخلو من المنطق. لكن تبقى العوامل الأساسية للسوق هى الحاكمة الحقيقية للسوق.
وخلال الاثنى عشر شهرا الأخيرة ارتفع سعر صرف الدولار مقابل الجنيه المصرى بنسبة 13% فى السوق الرسمية وأكثر من 15% فى السوق السوداء. وعندما ينخفض الجنيه أمام الدولار بنسبة معينة ترتفع أسعار كل السلع المستوردة بنفس النسبة على الأقل. وترتفع أسعار السلع التى تدخل فى صناعتها مكونات أجنبية ارتفع سعرها. وترتفع أسعار السلع المحلية المناظرة. وينتهى الأمر بموجة عامة من ارتفاع الأسعار يتحدد مداها وتأثيرها بالإجراءات المالية والنقدية والكلية التى تتخذ لمعالجتها.
وقبل تسعة أشهر تقريبا كتبت مقالا بعنوان »الجنيه والدولار وعودة لعبة الفأر والقط«. وكانت الفكرة الأساسية هى أن كل العوامل التى تسهم فى اضطراب سوق الصرف وتراجع الجنيه المصرى موجودة فعليا، وأن الحل يكمن فى معالجة جذور المشكلة وليس بعض أعراضها. وما زال الأمر كما هو تقريبا فى انتظار إجراءات جديدة للمعالجة.
الموازين الخارجية بحاجة ماسة للإصلاح
فيما يتعلق بالموازين الخارجية، تشير البيانات الرسمية المصرية إلى أن عجز الميزان التجارى سجل رقما قياسيا غير مسبوق وبلغ 38.8 مليار دولار فى العام المالى 2014/2015، مقارنة بنحو 34.1 مليار دولار عام 2013/2014، ونحو 30.7 مليار دولار عام 2012/2013.
لكن ميزان تجارة الخدمات حقق فائضا بلغ نحو 4,7 مليار دولار عام 2014/2015، مقارنة بنحو مليار دولار فقط عام 2013/2014، ونحو 5 مليارات دولار عام 2012/2013. وإذا أخذنا مجموع تجارة السلع والخدمات معا فإن العجز بلغ 34.1 مليار دولار عام 2014/2015، مقارنة بنحو 33.1 مليار دولار عام 2013/2014، ونحو 25.7 مليار دولار عام 2012/2013.
وتتلقى مصر تحويلات كبيرة من الخارج غالبيتها الساحقة وأحيانا كلها عبارة عن تحويلات المصريين العاملين فى الخارج. وقد بلغت قيمة تلك التحويلات نحو 21.9 مليار دولار عام 2014/2015، مقارنة بنحو 30.4 مليار دولار عام 2013/2014 وكانت تتضمن مساعدات ومنحا كبيرة من الخارج بالإضافة لتحويلات المصريين العاملين بالخارج. وكانت التحويلات قد بلغت 19,3 مليار دولار عام 2012/2013.
ونتيجة لهذه التحويلات التضخمة فإن العجز النهائى فى ميزان الحساب الجارى لمصر بلغ 12.2 مليار دولار عام 2014/2015، مقارنة بنحو 2.7 مليار دولار عام 2013/2014، ونحو 6,4 مليار دولار عام 2012/2013.
ويبقى هذا العجز عامل ضغط مهما على الجنيه المصرى يدفعه للتراجع امام الدولار والعملات الحرة الرئيسية. والأمر هنا لا يتعلق بكفاءة السياسة النقدية لمحافظ البنك المركزى السابق أو الحالى بقدر ما يتعلق بالسياسة الاقتصادية الكلية التى أنتجت هذا العجز والتى تحتاج للتغيير بصورة جوهرية تتسم بالكفاءة والمرونة والتدرج لمعالجة هذا العجز. وأحب أن أشير إلى أننى لا تربطنى أى علاقة جيدة أو سيئة بمحافظ البنك المركزى السابق.
وهناك حالات متعددة لتخفيض سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار والعملات الأجنبية الأخرى. فالدولة نفسها تقوم بذلك أحيانا استجابة لعوامل العرض والطلب فى السوق الحرة، أو لرغبتها فى جعل أسعار السلع والخدمات المحلية رخيصة عند تقديرها بالعملات الأجنبية مما يساعد على زيادة صادرات السلع والخدمات وزيادة جاذبية السوق المحلية للاستثمار الأجنبى كما فى حالة الصين. وفى هذه الحالة لا يقتصر الإغراء على رخص الصادرات السلعية والخدمية وضمنها السياحة وزيادة الطلب الخارجى عليها، بل إنه يمتد إلى الاستثمارات فى ظل زيادة قدرة العملات الأجنبية على شراء الأصول فى داخل البلد الذى يخفض عملته.
وهناك حالة أخرى قد تلجأ إليها الدولة لمعالجة العجز الكبير فى النقد الأجنبى لرفع تكلفة اقتنائه واستخدامه ككابح للطلب عليه. كما أن الدول المدينة قد تتعرض لضغوط لتخفيض عملاتها من الدول الدائنة ومن صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين يعملان كوكيلين للدول الدائنة. وهناك نموذج نظرى ينطلق منه صندوق النقد والبنك الدوليين مفاده أن تخفيض سعر صرف العملة المحلية يؤدى لرفع القدرة التنافسية لصادراتها فى الخارج بما يساعد على زيادتها، ويساعد على تنشيط الاستثمارات الأجنبية التى تتدفق لتلك الدولة والسياحة الخارجية الوافدة إليها لأن تخفيض العملة المحلية يؤدى إلى زيادة القدرات الشرائية للعملات الأجنبية فى ذلك البلد.
لكن هذا التصور النظرى قد لا يتحقق فى الواقع الأكثر تعقيدا، فالصادرات لن تزيد إلا إذا كان هناك إنتاج قادر على المنافسة العالمية نوعيا وسعريا وفائض عن حاجة الاستهلاك المحلى وقابل للتصدير، أو إنتاج موجه للتصدير فى اقتصاد ينمو ويتطور وتوجد به استثمارات جديدة وفعالة تنتج تلك السلع. والواردات لن تتقلص إذا كانت واردات ضرورية لا يمكن تخفيض الاستهلاك منها حتى بعد ارتفاع سعرها بالعملة المحلية. وهذا يعنى أن تخفيض العملة المحلية يؤدى لزيادة الأسعار وفقط فى هذه الحالة وليس كبح الواردات. وزيادة السياحة الأجنبية فى البلد ترتبط بعوامل أخرى حاسمة مثل الأمان والصورة الخارجية للدولة والبنية السياحية. وزيادة تدفق الاستثمارات الأجنبية للدولة يرتبط بوجود خريطة استثمارية جذابة ومغرية واستقرار أمنى وسياسى وكفاءة إدارية ومرونة فائقة فى متابعة الاستثمارات الأجنبية وإدارة الشركات المحلية العامة والخاصة معها على أسس عادلة ومتوازنة ونزيهة.
ومن الضرورى الإشارة إلى أن سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية ليس صنما مقدسا لجماعة وثنية، بل هو أداة يتم توظيفها لتحقيق أهداف اقتصادية متنوعة. وسواء كان سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية مقدرا بقيمته الحقيقية او أعلى منها أو أقل منها حسب اختيار السلطات النقدية، فإن الأهم هو أن يتسم هذا السعر بالاستقرار النسبى وبالتحرك البطىء فى أى اتجاه بصورة تسمح باستقرار الحسابات المستقبلية للاستثمارات أو للاقتراض بالعملات الأجنبية. كما أن تحديد سعر الصرف يكون له أهداف محددة لابد ان يتم تقييم هذا التحديد على أساسها.
وهناك سعر صرف مثالى لأى عملة مقابل العملات الأخرى يتمثل فى تطابق سعر الصرف السوقى مع القدرات الشرائية المقارنة بين العملات. لكن هذا السعر نادرا ما يوجد فى الواقع بالفعل. لكن من المهم لأى عملة أن تقترب منه كلما كان ذلك ممكنا ومساعدا على تحقيق الأهداف الاقتصادية. وعلى سبيل المثال تشير بيانات البنك الدولى إلى أن الناتج القومى الإجمالى لمصر المقدر بالدولار وفقا لسعر الصرف السائد بلغ 257 مليار دولار عام 2013، بينما بلغ هذا الناتج عند تقديره بالدولار وفقا لسعر الصرف المثالى أو تعادل القوى الشرائية بين الجنيه والدولار نحو 885 مليار دولار فى العام المذكور. ووفقا لسعر الصرف المثالى القائم على تعادل القوى الشرائية بين الجنيه والدولار، فإن الدولار كان يساوى أقل من جنيهين مصريين فى العام المذكور، بينما كان سعره فى السوق نحو 6 جنيهات.
سعر الفائدة الحقيقى سلبى
بالنسبة لسعر الفائدة الحقيقى على الودائع بالجنيه المصرى وهو يعادل سعر الفائدة الاسمى مطروحا منه معدل التضخم، فإنه سلبى منذ عام 2007 وحتى الآن باستثناء عامى 2012 و 2013. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولى بالاشتراك مع الحكومة المصرية إلى ان معدل التضخم سيبلغ 11% فى العام الحالى وهو معدل أعلى من سعر الفائدة بكثير مما يعنى أن سعر الفائدة الحقيقى سلبي. وهذا السعر السلبى يشجع على الاستهلاك وليس الادخار ويجعل العملة المحلية فى وضع ضعيف مقابل العملات التى تتمتع الودائع بها بأسعار فائدة إيجابية. وكان معدل التضخم قد بلغ نحو 11%، 11.7%، 16.2%، 11.7%، 11.1%، 8.6%، 6.9%، 10.1%، فى الأعوام 2007، 2008، 2009، 2010، 2011، 2012، 2013، 2014 بالترتيب.
ورغم أن سعر الفائدة الحقيقى الراهن على الجنيه المصرى يعد سلبيا، فإن رجال الأعمال لم يكفوا عن الضغط من أجل تخفيضه لتسهيل حصولهم على القروض بأسعار فائدة أقل، ولتشجيع الاستثمار فى البورصة، ولزيادة الاستهلاك والطلب على منتجاتهم ووارداتهم على حساب تراجع معدل الادخار البالغ التدنى أصلا. وإذا كان من المهم أن تعمل السياسة النقدية على تنشيط النمو الذى يتطلب تخفيض سعر الفائدة، فإن ذلك يتطلب العمل اولا على تخفيض معدل التضخم لمستويات أقل من سعر الفائدة عبر مكافحة الاحتكارات الإنتاجية والتجارية، وتنشيط الإنتاج من المشروعات القائمة العاطلة جزئيا أو كليا، وزيادة الاستثمارات الإنتاجية العامة والخاصة والتعاونية الجديدة.
كيف نعالج المأزق؟
هناك قاعدة نقدية تتمثل فى سيادة العملة المحلية فى سوقها، بمعنى ألا توجد أى عملة أخرى مستخدمة أو مسموح بحيازتها نقديا فى التعاملات فى السوق المحلية. ووفقا لهذه القاعدة يكون على كل حائز للنقد الأجنبى أن يحوله للعملة المحلية حتى يمكنه أن يسوى التزاماته داخل البلد. وهذه القاعدة تم اختراقها فى مصر بصورة مروعة وغير مسئولة منذ أربعة عقود. ودون الاحترام الصارم لهذه القاعدة سيظل الجنيه المصرى يعانى الضغوط التى تدفعه نحو التراجع بلا مبرر حقيقى فى الكثير من الأحيان.
وينبغى إدارة سياسة سعر الصرف بمنطق إدارة أزمة لأن هناك عجزا كبيرا فى النقد الأجنبي. وهذه الإدارة تتطلب النظر للكيفية التى ادارت بها دول تعرضت لأزمات مشابهة مثل ماليزيا فى عامى 1997، و 1998. وهناك ضرورة لترشيد الواردات بصورة جدية بالتوافق مع الغرف التجارية أو بقرارات سيادية تجمد استيراد السلع الكمالية والترفيهية. كما ينبغى العمل على تنشيط الصادرات والتوسع السريع فى الاستثمارات الإنتاجية فى تصنيع السلع الزراعية وفى الصناعات التحويلية لمواجهة الطلب المحلى وللتصدير سواء بتنشيط الاستثمارات المحلية أو بجذب الاستثمارات الأجنبية. وللعلم يصعب على مصر أن تحول الأحلام بجذب استثمارات عملاقة إلى واقع دون الإسراع فى تطبيق نظام الشباك الواحد الحقيقي، ولن تكون هناك فعالية عالية دون تجميع سلطات منح الأراضى للاستثمار الصناعى والزراعى والخدمى فى يد وزارة الاستثمار لتشرف على عملية تأسيس الاستثمارات، على أن ينتقل الإشراف بعد تأسيس الأعمال إلى الوزارات التى يقع المشروع الاستثمارى فى إطارها بعد ذلك. وبدون مضاعفة معدل الاستثمار البائس الذى تحققه مصر منذ سنوات طويلة لن تكون هناك إمكانية لتحقيق توازن فى التجارة الخارجية الشديدة الاختلال.
وإذا حققت مصر سيادة عملتها فى سوقها شأن كل الدول، وضمنت أسعار فائدة إيجابية عبر السيطرة على معدل التضخم ومكافحة الاحتكارات الإنتاجية والتجارية المسببة له، فإنها ستدعم موقف الجنيه مقابل العملات الحرة. لكن الدعم الأكبر والأكثر تأثيرا والأطول أمدا سيأتى مع زيادة الاستثمارات والناتج وتحقيق التوازن فى العلاقات التجارية السلعية والخدمية الخارجية. كما أنه لابد من السيطرة على تصرفات العديد من شركات الصرافة التى لم يكن لوجودها مبرر منذ البداية ولم تكن سوى تقنين لأوضاع تجار العملة فى السوق السوداء الذين خربوا الاقتصاد المصرى سنوات طويلة. وللعلم فإن بلدا مستقبلا عملاقا للاستثمارات الأجنبية مثل الصين لا يوجد به شركات صرافة وتتم كل التعاملات من خلال البنوك مع عقوبات قانونية رادعة لمن يتلاعب فى أسواق النقد الأجنبي. وللعلم فإن الجانب الأكبر من شركات الصرافة مملوكة للإخوان والسلفيين وهم غير معنيين باستقرار أو تطور الاقتصاد المصرى بل بالعكس تماما. لكن وحتى توضع الأمور فى نصابها فإن الأزمة لن تحدثها تلك الشركات أو ما يوجه من اتهامات لرجل الأعمال الإخوانى حسن مالك، بل إن الأزمة موضوعية وتتجسد بشكل جلى فى عجز الموازين الخارجية والفائدة السلبية على الجنيه، ولو تم علاجهما فإن اى عمليات تلاعب أو تعطيش لسوق الصرف ستكون محدودة الآثار ولا يمكنها توجيه سوق الصرف فى دولة ناهضة ولديها قواعد اقتصادية ونقدية تكفل حماية عملتها موضوعيا.