تتجه مصر نحو استكمال باقى خطوات خريطة الطريق فى وقت يضعف فيه تماسك تحالف 30 يونيو الذى أنجز الثورة على حكم الإخوان، بل ويتفكك فعليا، بما يستدعى إعادة هذا التماسك بكل ما يتطلبه ذلك من رحابة سياسية وإجراءات قانونية.
كما أن هذا الاستكمال يتم وسط أنواء إقليمية ودولية فى ظل فوضى غير خلاقة، بل وتخريبية كليا، بما يستدعى أقصى درجات الحرص لحماية المجتمع والدولة فى مصر من تلك الفوضى وممن يقف وراءها والأدوات الإرهابية التى تنفذها.
وإذا بدأنا بالداخل المصرى فإن تحالفا هائلا جمع عشرات الملايين من المصريين هو الذى أنجز الثورة على حكم الإخوان. وكان ذلك التحالف مكونا من عشرات الأحزاب والفرق السياسية، لكن الغالبية الساحقة من عشرات الملايين التى رفعته لمصاف الأحداث الاستثنائية فى تاريخ البشرية كانت عبارة عن مواطنين لا علاقة لهم بالقوى السياسية وجمعهم رفضهم لنتائج حكم الإخوان من تطرف وطائفية وفشل اقتصادى وسياسى وهوس بالاستحواذ على كل شىء.
لكن كل تلك الجموع الهائلة تدفقت للشوارع بعد تأكيد من الجيش والشرطة بأنهما سيحميان المتظاهرين. وبالتالى فهذه الجموع كانت فى غالبيتها الساحقة جموعا احتفالية، وليست ثوارا لديهم الاستعداد للفداء والتضحية. لكن فى القلب من هذه الجموع كان هناك بالتأكيد مركز قوى ممن ثاروا على نظام الإخوان منذ انقلاب د. مرسى غير الدستورى فى نوفمبر 2012 وحتى تم إسقاط نظامه. وذلك القلب يضم من ثاروا على حكم الإخوان فى أحداث «الاتحادية الأولى» فى نوفمبر وديسمبر 2012 وهم بلا حماية من شرطة أو جيش، واستشهد منهم من استشهد، وأصيب المئات بالجراح، وتم اعتقال البعض قبل الإفراج عنهم بعد ذلك.
وقد ضم ذلك القلب مواطنين ـ ثوارا وأحرارا ـ كانت مواقفهم سابقة ومتقدمة على مواقف النخبة السياسية التى كانت خاضعة لابتزاز «شرعية الصناديق» حتى ولو كانت بيد من انقلبوا على الدستور واقترفوا كل رزايا الاعتقال والتعذيب والقتل، فضلا عن الشكوك فى تزوير الصناديق أصلا. وكان ذلك القلب هو الآلة الرئيسية التى عملت بصورة دائمة ومنتظمة فى مواجهة نظام الرئيس المعزول د. محمد مرسي، ومنه خرجت قوى التمرد ضده وتمددت شعبيا بمساندة العديد من الأحزاب والقوى السياسية.
قانون التظاهر وضرورة المراجعة
بعد إسقاط نظام حكم الإخوان، وفى مواجهة تظاهرات العنف والإرهاب التى نظموها مع أنصارهم، تم إصدار قانون تنظيم التظاهر. وبدا الأمر وكأنه تنظيم لحق التظاهر، ولمنع استخدام هذا الحق فى العنف والإرهاب. ورغم أن القوانين الموجودة فعليا فى مصر كان من الممكن الاستناد إليها لتحقيق ردع بالغ القسوة لكل من يستخدم العنف والإرهاب فى التظاهر، إلا أن تنظيم حق التظاهر السلمى من خلال قانون كان أمرا مقبولا. وجاء القانون مخيبا للآمال، خاصة وأن من أتت به هى سلطة جاءت بالتظاهر السلمى لملايين المصريين، فإذا بها تضع قانونا لتقييد التظاهر السلمى وليس لتنظيم الحق فيه.
وقد كتبت وأشرت فى حينه إلى عيوب القانون، وأهمها المادة 10 التى تنص على حق وزير الداخلية أو مدير الأمن المختص فى رفض التصريح بالمظاهرة أو نقلها أو تأجيلها إذا حصل على معلومات تشير إلى أنها ستهدد الأمن والسلم. وهذه المادة تحول التظاهر السلمى من حق تتم ممارسته بالإخطار وفق ضوابط معينة إلى سلطة للمنح والمنع بيد الداخلية إذا نمى إلى علمها أن التظاهرة ستخرج عن السلمية، وهو أمر لا يمكن ضبطه ويعتمد على موقف الداخلية من المظاهرة، حيث إن القانون لا يلزمها بتقديم أية أدلة على ما نمى إلى علمها. كذلك فإن المادة 11 تنص على تنظيم استخدام حق الشرطة فى فض المظاهرة إذا خرجت عن الطابع السلمي، دون وجود طرف محايد يحدد خروج المظاهرة عن السلمية، حيث إن الاستعانة بمندوب منتدب من قاضى الأمور الوقتية بالمحكمة الابتدائية هى مسألة جوازية بيد مدير الأمن المختص مكانيا. والأفضل أن يكون هذا المندوب موجودا منذ البداية، وهو وحده الذى يحدد مسألة خروج المظاهرة عن السلمية، وبالتالى حق الشرطة فى الرد وفقا للضوابط التى حددها القانون.
وبغض النظر عن الموقف من قانون تنظيم حق التظاهر والملاحظات الواردة عليه، فإن الواقع العملى يشير إلى أنه تم تطبيقه بصورة مزاجية. ولأن إعادة التماسك والتلاحم لتحالف 30 يونيو تقتضى معالجة هذا الأمر بصورة حاسمة لتهدئة الخواطر الاجتماعية والسياسية من خلال استبعاد روح الانتقام، والالتزام باحترام حقوق وحريات الإنسان، والعدالة فى تطبيق الإجراءات. فليس من المعقول أو المقبول أن يقبع بعض رموز الثورة على مبارك ومن بعده ضد مرسى فى السجون، وهم أبعد ما يكونون عن العنف أو الإرهاب، فهذا الأمر يعطى انطباعا سلبيا حول عودة تغول الأجهزة الأمنية مرة أخرى بعد ثورة 25 يناير 2011 التى قام بها الشعب ضد نظام الظلم الاجتماعى والاقتصادى والفساد والاستبداد السياسى والقمع، ومن بعدها الموجة الثورية الهائلة وغير المسبوقة فى تاريخ البشرية فى 30 يونيو 2013 والتى انفجرت ضد الفاشية المتاجرة بالدين والقمعية أيضا، وتمكنت من الانتصار بفضل تلاحم الشعب الثائر والرافض لتلك الفاشية مع أجهزة الدولة التى أدركت أن تلك الفاشية كانت تستهدف هدم الدولة الوطنية قبل أى شئ آخر.
ولابد من احترام قاعدة تطبيق القوانين على الجميع على قدم المساواة، حيث يوجد خلل حقيقى فى تطبيق قانون التظاهر. فالتظاهرات المؤيدة للثورة ضد حكم الإخوان والمؤيدة لخريطة الطريق التى نتجت عنها تخرج عادة بدون تصريح وتتم حمايتها كما حدث فى 25 يناير الماضي، أما التظاهرات المعارضة فيتم تفعيل القانون ضدها سواء كانت عنيفة تستحق المواجهة بالقوة والعنف حتى لو لم يكن هناك قانون للتظاهر، أو سلمية ينظمها من شاركوا فى الثورة فى 25 يناير 2011، أو 30 يونيو 2013 ولديهم تحفظات أو اعتراضات على أداء الحكومة. ولأن الدستور هو القانون الأعلى أو الرئيسى فإنه يجب ما عداه، وهو يكفل حق التعبير الاحتجاجى السلمى، ويتناقض بالفعل مع القيود الواردة فى قانون التظاهر الراهن الذى يحتاج إلى تعديلات جوهرية بالفعل.
وقد قدم الرئيس نموذجا لعدم التدخل فى شئون القضاء. والقضاء نفسه لم يفعل سوى تطبيق قانون التظاهر بناء على الأدلة المتاحة لديه ومصدرها الشرطة صاحبة المصلحة فى تعزيز الاتهام لمن ألقت القبض عليهم تحت طائلة القانون. والمشكلة أساسا تكمن فى القانون نفسه الذى يحتاج لتعديلات جوهرية. وبقدر ما تتوافق الكثير من القوى السياسية فى هذا الشأن، فإن الرئيس الذى تعامل مع التظاهرات السلمية العملاقة للشعب بكل الإجلال والتقدير وانتصر لها فى مواجهة نظام الرئيس المعزول محاط بتطلعات قوية لتعديل القانون والعفو عن المتظاهرين السلميين الذين وقعوا تحت طائلته فى إطار إعادة التماسك واللحمة لتحالف 30 يونيو كظهير وسند لاستكمال خريطة الطريق والمستقبل، ومنع شياطين الفساد والقمع والظلم الاجتماعى والفشل من إعادة مصر للوراء وتعويق انطلاقتها نحو مستقبل يليق بقامتها وقيمتها الحضارية العظمى.
طوفان 30 يونيو وتمويل التنمية
من الضرورى الإشارة إلى أن الجموع الهائلة من المواطنين غير المسيسين التى اجتاحت الشوارع والميادين وشكلت المشهد الأسطورى لعشرات ملايين المتظاهرين فى 30 يونيو وما تلاه، هى نفسها التى تشكل قوة البناء والمساندة للتنمية فى الوقت الراهن. فوسط الظروف الملتبسة والدعايات من كل نوع، خرج المصريون طوفانا لشراء شهادات الاستثمار الخاصة بقناة السويس. وصحيح أنها بحسابات مالية واقتصادية تعتبر عالية العائد، لكن ذلك الشراء يعكس درجة عالية من الثقة فى المشروع والدولة، ورغبة حقيقية فى بناء المستقبل. وربما يكون ذلك محفزا لتسريع عملية البناء والتمويل للمشروعات سواء فى منطقة القناة أو فى أى مشروع آخر باستخدام الاكتتابات العامة لبناء مشروعات يملكها حملة الأسهم، أو من خلال شهادات الاستثمار التى يستخدم عائدها فى تمويل مشروعات تملكها الدولة. ولدى مصر عدد كبير من المشروعات التى تحتاج للتمويل وستشكل قاعدة هائلة للانطلاق الاقتصادي. وتلك المشروعات تتركز فى تصنيع الثروة المعدنية والمحجرية التى تملكها مصر، وتصنيع المنتجات الزراعية وتجهيز وتعليب الأسماك، وبناء صناعات البتروكيماويات والأسمدة والسيارات والسفن وغيرها من الصناعات. ويمكن لآلية الاكتتاب وشهادات الاستثمار أن تكون ملائمة لتمويل بناء تلك المشروعات.
وعلى أى حال فإن أهمية استعادة تماسك تحالف 30 يونيو، تتعاظم بشدة فى ظل التطورات الإقليمية والدولية التى تحمل الكثير من المخاطر، كما تحمل العديد من الفرص إذا تفاعلت مصر مع تلك التطورات وهى قوية ومتماسكة ومستقرة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.
الاستقلال الوطنى والتحالف ضد «داعش»
عندما تفكك الاتحاد السوفيتى السابق، وضع الرئيس الروسى آنذاك بوريس يلتسين بلاده على مائدة حلف الأطلنطي. وكان التحدى العسكرى الروسى قابلا للتحول لجزء من القوة العالمية المتحالفة مع الغرب. لكن ذلك الأمر كان يعنى بوار تجارة المجمع الصناعى العسكرى الأمريكي، كما يعنى أن أوروبا ستحقق أمنها بنفسها فى غياب التهديد الروسي، مما يعنى تراجع الأهمية الأمريكية بالنسبة لها. لذا عرقلت الولايات المتحدة أى تصور حول إدماج روسيا فى تحالف عسكرى مع الغرب. كما توترت العلاقة مع روسيا بالحرب فى البلقان ضد حلفائها. وكان ملفتا أن يصدر تصريح من قائد الحلف آنذاك يشير إلى أن استمرار الحلف وتماسكه سيستدعى التركيز على أعداء مثل المتطرفين الإسلاميين. وكان ذلك أقرب لاختراع الأعداء لتبرير استمرار وجود الحلف والإنفاق العسكرى الهائل. وهؤلاء المتطرفون الدينيون تمت تغذيتهم وتقوية شوكتهم بتمويل أمريكى وخليجى خلال الحرب الأفغانية ضد السوفيت. وبعد انسحاب القوات السوفيتية تحولوا للعنف والإرهاب فى بلدانهم وضمنها مصر والجزائر فى تسعينيات القرن الماضي. ولم يقدم الغرب الذى رعى تلك المجموعات الإرهابية أية مساندة للبلدان التى ابتليت بذلك الإرهاب.
وعندما انقلب السحر على الساحر وتعرضت بلدان مثل فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا لإرهاب المجموعات الدينية المتطرفة وكانت ذروتها أحداث 11 سبتمبر 2001، بدأ الغرب فى الحديث عن بناء تحالف دولى لمواجهة الإرهاب. وشكل ذلك الأمر مبررا للحرب فى أفغانستان ثم الغزو الاستعمارى الإجرامى للعراق، وهى أحداث ساهمت فى استمرار الإنفاق العسكرى الأمريكى العملاق وتغذية غول المجمع الصناعى العسكرى الأمريكي.
ومع انفجار الثورات ضد النظم الديكتاورية الفاشلة والظالمة اجتماعيا فى المنطقة العربية، تصاعدت قوة الدعوة لاستعادة الاستقلال الوطنى الذى أهدرته تلك النظم فى مصر وتونس بالذات. وكان ذلك الأمر جليا فى الموجة الثورية الهائلة فى 30 يونيو 2013 فى مصر. وإزاء تلك الدعوات الاستقلالية كان الهجوم الغربى المضاد الذى تمثل فى دعم القوى الدينية المتطرفة وعسكرة الثورة لتفقد حقوقها المدنية وتصبح عاجزة أمام النظام الحاكم حتى تطلب الإنقاذ الدولى متمثلا فى القوة الأمريكية والأطلنطية. وهذا هو ما حدث فى ليبيا التى تدخل فيها الأطلنطى وأصبحت على شفا التمزق بفعل قوى التطرف الدينى التى حصلت على الدعم من الغرب ومن المال النفطى والغازى القادم من الخليج. وحاولت الولايات المتحدة بمساندة المال النفطى والغازى الخليجى تكرار النموذج نفسه فى سورية، لكن الفيتو الروسى والصينى حرمها من الغطاء الدولي. وصحيح أن الغرب لم يتمكن من غزو سورية، إلا أنه أدخل الإرهابيين من كل نوع لتحطيم الدولة السورية الموحدة لمصلحة الكيان الصهيوني.
ووسط قوى الإرهاب التى تم دفعها إلى سورية برز تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام «داعش»، وهو تنظيم أسسه الأردنى أبو مصعب الزرقاوى المنشق على القاعدة. ولم يكن لهذا التنظيم أن يدخل سورية ويتصدر المجموعات الإرهابية التى تحاول تدمير وحدتها لولا المساعدات الهائلة التى حصل عليها من المال النفطى والغازى ومن الجمعيات السلفية المتطرفة المنتشرة فى منطقة الخليج بالذات. كما أن انطلاق التنظيم من تركيا التى شكلت ظهيرا له فى هجومه على سورية والعراق، يعنى أن ذلك تم بموافقة الولايات المتحدة أو دون اعتراض منها، لأن تركيا لا يمكنها أن تعمل مستقلة عن الولايات المتحدة فى هذا الشأن.
وعندما يجرى تشكيل تحالف دولى ضد قوة الشر المتخلفة المسماة «داعش» وتكون بعض القوى الرئيسية المكونة له هى نفسها المسئولة عن تمويله وتضخمه فى إطار الحرب الإرهابية الدولية ضد سورية، فإن الهدف من هذا التحالف يصبح محل شكوك منطقية. وتعززت هذه الشكوك مع إعلان الولايات المتحدة أنها ستوجه ضربات جوية للتنظيم داخل سورية بالتوازى مع تعزيز التمويل والتسليح الخليجى لجبهة النصرة الإرهابية وللجيس الحر الذى فقد استقلاليته من اللحظة الأولى وصار تابعا لمن يسلحونه ويمولونه فى الغرب والخليج. فالهدف الخفى قد يكون تحطيم قوة الدولة السورية وتسهيل انتصار قوى الإرهاب الأكثر التصاقا بدول التحالف لتحقيق هدف تخريب وتقسيم سورية.
ولأن وحدة سورية وقوتها تشكل جزءا من الأمن القومى العربى ومن الأمن القومى المصرى تحديدا، فإن الموقف المصرى المناهض للإرهاب ولصورته الإجرامية التى تشكلها «داعش»، والحريص فى الوقت نفسه على وحدة الدولة السورية، وعلى عدم السماح بانتهاك سيادتها تحت مزاعم ضرب قوى الإرهاب، ينبغى ان يتعزز. كما أن الاستعداد الذى أعلنت عنه سورية باستعدادها للتنسيق بشأن الضربات التى سيوجهها التحالف لتجمعات «داعش» يضع دول التحالف أمام اختبار حقيقي. فلو كان الهدف هو ضرب «داعش» فعليا سيتم التعاون مع سورية فى هذا الشأن.
أما إذا كان الهدف هو تخريب الدولة السورية وتسهيل تمزيقها واستكمال ما عجزت عنه قوى الإرهاب، فسوف يتم تجاهل العرض السوري، وستمضى قوى التحالف فى عدوان صريح على الدولة السورية. والحقيقة أن مصر نفسها تتعرض لهجوم من التنظيم الإرهابى «جماعة بيت المقدس» وغيره من قوى الإرهاب. وهى معنية تماما وبصدق وعمق حقيقيين بمكافحة الإرهاب ولا تجد مساندة غربية حقيقية. لكنها فى حالة إصرار التحالف ضد «داعش» على اختراق سيادة الدولة السورية، يجب أن تنأى مصر بنفسها عن هذا الأمر حتى لو كانت متفقة تماما مع هدف مواجهة «داعش» الذى انقلب على من مولوه، كعادة انقلاب السحر على الساحر.