أحمد السيد النجار
تحول الانقلاب الثورى فى 23 يوليو إلى ثورة اجتماعية حقيقية بعد التلاحم الشعبى الهائل مع "الضباط الأحرار". وكان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، القائد الحقيقى لحركة ونظام يوليو منحازا بصورة جلية وقاطعة للعدالة النسبية، ولقضايا الفقراء والطبقة الوسطي، ولإعطاء الأولوية لضرورات التنمية وتعزيز القوة الشاملة لمصر. وكان الرجل فوق كل ذلك قادما من عالم الأساطير فيما يتعلق بالنزاهة وتقديس حرمة المال العام.
المشروع الأعظم عالميا فى القرن العشرين
وبقدر حيوية وشباب حركة الضباط الأحرار وزعيمها، كانت الإجراءات الثورية على نفس القدر من الحيوية والسرعة. وبعد شهر ونصف الشهر تم البدء فى الإصلاح الزراعى الأول، وتم وضع حد أدنى للأجور بقيمة 18 قرشا فى اليوم، أى نحو خمس جنيهات شهريا، وهو رقم تعادل قدرته الشرائية أكثر من ألفين من جنيهات الوقت الراهن. وخلال ستة أشهر تغير وجه مصر وأقرت قواعد مجانية الرعاية التعليمية والصحية، وتمت تهيئة البيئة القانونية لسلسلة طويلة من التغييرات الثورية.
وخلال الخمسة عشر عاما الأولى من عمر نظام يوليو، تمكنت مصر من مضاعفة قطاع الصناعة التحويلية خمس مرات، واقتحمت صناعات جديدة. وأقرت قاعدة تعيين خريجى النظام التعليمى فى وظائف حقيقية فأنهت البطالة بينهم. واقتصرت البطالة على الأميين فى الريف بصورة أساسية. واصبحت مصر تتصدر الدول النامية الأكثر تقدما. وفى عام 1965 ووفقا لبيانات صندوق النقد الدولى الواردة فى تقريره "المؤشرات المالية الدولية"، بلغ الناتج المحلى الإجمالى لمصر نحو 5,1 مليار دولار، بينما بلغ نظيره فى كوريا الجنوبية نحو 3 مليارات دولار. وفى العام المذكور بلغت قيمة الصادرات المصرية 605 ملايين دولار، مقارنة بنحو 175 مليون دولار فقط لكوريا الجنوبية.
كانت مصر تنهض فتية بطموحات تطال السماء، وكان وهج ثورتها ونموذجها التنموى يلهب المشاعر فى طول العالم وعرضه، خاصة بعد تأميم قناة السويس وتمصير المملتلكات الأجنبية فى أعقاب العدوان الثلاثى الدنئ على مصر عام 1956، وبدء حركة التأميمات الكبرى فى ستينيات القرن العشرين. وإن كانت الدول الأوروبية نفسها قد اجرت عمليات تأميم عملاقة منذ ثلاثينيات القرن العشرين وحتى ستينياته. وكانت مصر تمد يدها لمساندة الثورات وقوى التحرر فى العالم، فحازت لنفسها ولزعيمها آنذاك جمال عبد الناصر مكانة استثنائية. وقادت الدول النامية لإنشاء مجموعة عدم الانحياز بالتعاون مع الهند بزعامة نهرو، ويوغوسلافيا بزعامة تيتو.
وكان الهاجس الأكبر لمصر هو ترويض النهر الاطول على الكرة الأرضية: النيل الذى كانت مصر خاضعة لأهوائه ونزقه فى الفيضانات المخربة ودورات الجفاف الرهيبة التى كانت تقضى على الزرع والثروة الحيوانية والبشر أنفسهم. وكان ذلك الترويض ضرورة لإطلاق طاقات القطاع الزراعى وتحديثه ولإعفاء مصر من التكاليف الرهيبة للفيضانات والجفاف. وكان إيمان عبد الناصر بضرورة هذا الترويض للنيل عميقا وقويا إلى أبعد الحدود، ودافعا لملحمة بناء سد مصر العالي.
وبداية فإن مصر عندما فكرت فى بناء السد العالى لم تتجاوز على حقوق أى دولة أخري، لأنها ببساطة هى دولة المصب أو الدولة الأخيرة على مجرى النيل. وبالتالى فإن اى تصرفات لها لا تضر أى دولة اخري. وهى تصرفات استهدفت إنقاذ المياه التى تصل إليها من التبدد فى البحر فى موسم الفيضان. وتم ترتيب حياة البشر والزرع والثروة الحيوانية على كل قطرة من مياه النيل التى تشكل الحصة المصرية.
ويعتبر السد العالى رمزا خالدا لعظمة مصر على مر العصور. وهو أهم إنجازات العهد الناصرى والمشروع الذى يختصر طبيعة ذلك العهد. وقد تم تكريمه عالميا باختياره كأعظم مشروع بنية أساسية فى العالم فى القرن العشرين وبالتالى فى التاريخ لأن التقدم العلمى والتقنى فى ذلك القرن، سمح بإقامة مشروعات لم يكن الإنسان يحلم أو يتصور إقامتها قبله. ولسخريات القدر فإن ذلك الاختيار تم فى الولايات المتحدة التى حاولت بكل السبل إحباط مصر ومنعها من إقامة السد العالي. وقد تم الاختيار من قبل الشركات العقارية العملاقة وشركات التصميم الهندسى وشركات بناء السدود، على هامش معرض إنشائى وصناعى وتجارى عملاق فى هامبشاير الغربية فى نهاية القرن الماضي. وجاء فى حيثيات اختيار السد العالى كأعظم مشروع بنية أساسية فى العالم فى القرن العشرين، أنه عمل إنشائى وهندسى عالمى أحدث تغييرات إيجابية كبيرة فى حياة شعب بأكمله.
والحقيقة أن السد العالى حول مصر من دولة خاضعة لمشيئة نهر النيل وتقلباته خلال العام وتقلباته من عام لآخر، إلى دولة متحكمة فى هذا النهر الأطول على الكرة الأرضية. ولإدراك ما كانت التقلبات العنيفة فى نهر النيل تفعله فى مصر، يكفى أن نعلم أن أدنى التقديرات لعدد سكان مصر عند نقطة الميلاد أى قبل 2010 سنوات، كانت عشرة ملايين نسمة. وعندما تم إجراء أول تعداد حقيقى للسكان فى أوائل القرن التاسع عشر فى عهد محمد على كان عدد سكان مصر نحو 2.5 مليون نسمة فقط. وكان ذلك الانهيار السكانى ناجما عن الظلم والقهر والجزية والضرائب المختلفة التى كان الحكام الأجانب يخضعون المصريين لها لمئات السنين بما سحق قدرة الأمة على العيش والتطور. لكن سببا أساسيا لذلك الانهيار السكاني، كان يكمن فى التأثيرات المدمرة لموجات الجفاف السباعية التى كانت تضرب منابع النيل وكانت تقضى فى الغالب على أكثر من ثلثى سكان مصرز وتلك الموجات هى السبب الرئيسى لظهور ثقافة وضع اليد لدى المصريين، إذ كانت قرى كثيرة تخلو من كل سكانها بالموت جوعا، وعندما يأتى الغوث بالفيضان بعد الجفاف، كان الأحياء من السكان من أية قرية أو مدينة أخرى يضعون أيديهم على الأراضى التى أصبحت بلا مالك أو وريث بعد موت كل من لهم علاقة مباشرة بها.
المقريزى وتسجيل ويلات دورات الجفاف السباعى
فى كتابه "إغاثة الأمة بكشف الغمة" الذى سجل الذكريات الرهيبة لإحدى دورات الجفاف السباعى للنيل، يقول المقريزي: ثم وقع الغلاء فى الدولة الأيوبية وسلطنة العادل أبى بكر بن أيوب وكان سببه توقف النيل عن الزيادة وقصوره عن العادة ، فانتهت الزيادة الى اثنى عشر زراعا، وأصابع ، فتكاثر مجيء الناس من القرى الى القاهرة من الجوع ، ودخل فصل الربيع فهب هواء أعقبه وباء وفناء، وعدم القوت حتى أكل الناس صغار بنى آدم من الجوع، وفى آخر الربيع احترق ماء النيل فى برموده حتى صار المقياس فى بر مصر، وانحسر الماء منه الى بر الجيزة، وتغير طعم الماء وريحه، ثم أخذ الماء فى الزيادة قليلا قليلا الى السادس عشر من مسرى فزاد أصبعا واحدا، ثم وقف أياما، وأخذ فى زيادة قوية اكثرها ذراع الى أن بلغ خمسة عشر ذراعا وست عشرة أصبعا، ثم انحط من يومه ، فلم تنتفع به البلاد لسرعة نزوله. وكان أهل القرى قد فنوا، حتى أن القرية التى كان فيها خمسمائة نفس لم يتأخر بها سوى اثنين أو ثلاثة.
وفى موضع آخر من الكتاب يقول: واستمر النيل ثلاث سنين متوالية لم يطلع منه الا القليل ، فبلغ الأردب من القمح الى ثمانية دنانير، وأطلق العادل للفقراء شيئا من الغلال، وقسم الفقراء على أرباب الأموال، وأخذ منهم اثنى عشر الف نفس وجعلهم فى مناخ القصر وأفاض عليهم القوت، وكذلك فعل جميع الأمراء وأرباب السعة والثراء ، وكان الواحد من أهل الفاقة اذا امتلأ بطنه بالطعام بعد طول الطوى سقط ميتا فيدفن منهم كل يوم العدة الوافرة، حتى أن العادل قام فى مدة يسيرة بمواراة نحو مائتين وعشرين ألف ميت، وتعطلت الصنائع وتلاشت الأحوال، وفنيت الأقوات والنفوس حتى قيل: سنة سبع افترست أسباب الحياة ، فلما أغاث الله الخلق بالنيل لم يوجد أحد يحرث أو يزرع.
وقد اختصرنا الكثير من المآسى التى رصدها المقريزى والتى تسبب فيها انخفاض ايراد النيل المتحكم فى حياة البشر فى مصر فى الماضي. أما فى ظل الزيادة الهائلة فى عدد سكان مصر فى الوقت الراهن فإن جفافا كبيرا مثل ذلك الذى حدث لمنابع النيل طوال الفترة من العام 1979 حتى العام المائى 1988 كان كفيلا بإحداث مآسى مروعة تحصد أرواح مئات الآلاف وربما الملايين من المصريين وتماثل المآسى التى وقعت لبلدان منابع النيل طوال الثمانينيات وبصفة خاصة إثيوبيا وأوغندا. والفضل فى عدم تعرض مصر لذلك يرجع إلى الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذى وقف بكل قواه وقاد مصر فى ظروف عصيبة فى مواجهة أعتى قوى البغى والتسلط الإستعمارى من أجل إنجاز مشروع السد العالي. فذلك المشروع هو الذى كفل الأمن المائى والحياتى والغذائى لمصر بما اختزنه من مياه فى بحيرة ناصر، أو البنك المركزى للمياه.
السد العالى وسدود العالم
يحتل سد مصر العالى مكانه متقدمة وسط أهم السدود فى العالم، فمن ناحية سعة التخزين فى بحيرة ناصر (بحيرة السد العالي) فإنها تأتى فى المركز الأول عالميا بسعة قدرها 182.7 مليار مترمكعب عند مستوى 185 مترا . وإن كان التخزين حتى مستوى 185 مترا حالة استثنائية، فى حين أن السعة التخزينية العادية لها تبلغ نحو 164 مليار متر مكعب ، وفى هذه الحالة يأتى السد العالى فى المرتبة الثانية عالميا بعد سد “براتسك” الروسى الذى تبلغ السعة التخزينية لبحيرته نحو 179 مليار متر مكعب. ومن ناحية حجم المواد المستخدمة فى بناءه ، يعتبر السد العالى ثامن سد فى العالم من جميع الأنواع، حيث استخدم فى بنائه نحو 43 مليون مترمكعب من المواد المختلفة بما يزيد عن 17 مرة قدر المواد المستخدمة فى بناء الهرم الأكبر. وإذا قارنا السد العالى من زاوية حجم المواد المستخدمة فيه بالسدود الركامية فقط وهو واحد منها، فإنه يأتى فى المرتبة الثانية بعد سد “نوريك" الذى بناه الاتحاد السوفيتى السابق. أما بالنسبة لقدرة المحطة الكهرومائية للسد فإنها كانت تأتى فى المركز الثامن بقدرة تبلغ 2100 ميجاوات ويسبقها خمسة سدود فى الاتحاد السوفيتى السابق واثنين فى الدانمارك. لكنها تأخرت مركزين بسبب بناء سدود أخرى لديها محطات أعلى قدرة فى توليد الكهرباء، وستتأخر مركزا آخرا غذا تم بناء المحطة الكهرومائية لسد النهضة الإثيوبى وفقا للطاقة المصممة حاليا.
وقد اكتمل بناء السد العالى فى 15 يناير 1971 فى توقيت بالغ الحساسية فهو ذكرى ميلاد جمال عبدالناصر زعيم مصر والأمة العربية الذى قاد معركة بناء السد العالى وشكل انتصاره فيها إحدى العلامات البارزة فى تاريخه وتاريخ مصر السياسى والاقتصادى وتاريخ المنطقة أيضا بعد أن أدت تداعيات معركة السد العالى الى الكثير من التغيرات فيها . كما جاء اكتمال بناء السد العالى وانتصابه شامخا يضبط نهر النيل ويحمى مصر من الفيضانات ويؤمن لها تخزين المياه لاستخدامها بانتظام على مدار العام ولاستخدام المخزون فى البحيرة فى السنوات العجاف التى يشح فيها ايراد النيل وتنشر محطته الكهرومائية النور فى ربوع مصر ... جاء ذلك الاكتمال فى وقت كانت مصر كأسد جريح يلعق جراح هزيمته فى يونيو 1967، وكانت فى أمس الحاجة اقتصاديا ومعنويا لاكتمال السد كرمز لقوة واستقلال الإرادة المصرية التى كانت تشكل الرصيد الروحى والمعنوى الهائل الذى كان يؤجج الرغبة الشعبية المصرية فى خوض حرب جديدة ضد الكيان الصهيونى لاستعادة الأراضى المصرية التى تحتلها وللثأر لشرف مصر العسكرى وكرامتها الوطنية من كل مامسهما فى حرب يونيو 1967 ... وكان اكتمال السد العالي، ذلك الهرم الهائل يمثل إضافة كبيرة لمعنويات الشعب المصرى وهو يتأهب لخوض معركته ضد العدو الصهيوني.
وكما كان اكتمال بناء السد كأعظم المشاريع التى بنتها مصر فى العصر الحديث وكأعظم مشروع للبنية الأساسية فى العالم يثير زهو مصر ويرفع الروح المعنوية لشعبها، فإن اكتماله أطلق سيلا من الجدل حوله فى سبعينيات القرن الماضي. وانطلق القليل جدا من ذلك الجدل من محاولة التقييم الموضوعى للمشروع، بينما كان أغلبه يتفجر بالحقد على مصر أو على شخصية عبدالناصر باعتباره الأب الشرعى لذلك المشروع وكان نوعا من تصفية الحسابات مع فترة حكم عبدالناصر حتى ولو على حساب مشروع وطنى عظيم.
السد ينتصر لنفسه ولعبد الناصر
انطوى الجدل والحوار حول السد العالى بعد بنائه على مختلف أنواع المزايدات السياسية وابتذال الحوار فى كثير من الأحيان بما يتنافى مع ضرورة التناول الموضوعى للقضايا الوطنية الكبرى لتحقيق مصلحة مصر بعيدا من منطق تصفية الحسابات . هذا فضلا عن أن الحوارات الخارجية وهى فى غالبيتها الساحقة غربية ، لم تخل من أغراض سياسية بل وأدير الكثير منها بطريقة مخابراتية .
ولم تمض على احتفال مصر باكتمال بناء السد العالى ومحطته الكهرومائية سوى خمسة أسابيع حتى نشرت جريدة لبنانية كانت معروفة بميولها الغربية وبعدائها للاشتراكية والمد القومى العربى وهى جريدة الحياة اللبنانية، مقالا فى 21/2/1971 بعنوان "التجربة الاشتراكية فى الواقع العربى . مشروع مياه .. لمياه أقل" . ويذكر المقال أن "الذين يقومون بدراسة موضوع السد العالى على ضوء الحقائق والأرقام الفنية والعلمية والزراعية والهندسية والكيمائية يتوقعون أن يثير هذا الموضوع فى القريب العاجل أعظم فضيحة فنية فى التاريخ، ويتوقع الذين يتابعون هذه القضية عن كثب أن تنشأ عنها مضاعفات كبيرة على الصعيد الدولى لأنها ستكون أول مثال على أن الدول الكبرى لاتتورع فى سبيل مصالحها التوسعية وأطماعها السياسية والمالية والاقتصادية عن أن تلعب أسوأ الأدوار وأن تورط الدول الصغيرة أو الفقيرة فى أسوأ المشاريع وأكثرها كلفة وأقلها فائدة ومردودا فى سبيل ماتطمع فى تحقيقه من أغراضها التوسعية أو مانتطلع اليه من أطماعها وأهدافها"، وقد تم توقيع هذا المقال باسم مستعار. ورغم أنه كان مجرد مقال مشبوه وغير مستند لأى أساس علمى فى جريدة مغمورة آنذاك ومعروفه بخدمتها لأهداف الغرب والقوى المضادة لعبد الناصر والفكر القومى والتقدمي، إلا أنه كان بداية حملة الهجوم على سد مصر العالى .
ومع تعرض إيراد النيل للإنخفاض فى عام 1972 ، إضطرت مصر للسحب من مخزون بحيرة ناصر أو خزان السد العالى مما حمى مصر من التعرض لجفاف فى العام المائى 72/1973 مما خفف الهجوم على السد العالى مؤقتا حيث اضطر كل الراغبين فى الهجوم عليه الى تأجيل ذلك إزاء الأثر الجليل للسد فى حماية مصر من الجفاف فى ذلك العام.
وفى إطار الحملة الخارجية على السد، فقد بعض المهاجمين صوابهم وبدأوا فى توجيه اتهامات للمشروع لا تخرج عن نطاق العبث. ففى بداية عام 1972 ، نشرت جريدة "أورور" الفرنسية خبرا زعمت فيه أن خبراء أمريكيين قالوا أن السد سينهار بعد خمس سنوات.
ومع بداية الثمانينات صمت الكثيرين من المهاجمين للسد عندما ضرب الجفاف الرهيب الهضبة الإثيوبية وهضبة البحيرات الاستوائية. فقد شح الإيراد المائى للنيل واضطرت مصر للسحب من مخزون السد العالى طوال سنوات الثمانينيات العجاف وحتى العام المائى 88/1989 حينما أغيثت مصر بفيضان مرتفع جعل ايراد النهر الواصل اليها عند أسوان يناهز 106 مليارات متر مكعب. وكان مستوى المياه فى بحيرة ناصر قد وصل قبل ذلك الفيضان الى مستوى 149 مترا، ولم يكن باقيا سوى مترين حتى يصل منسوب البحيرة الى مستوى 147 مترا، وهو المنسوب الذى تتوقف عنده المحطة الكهرومائية وتتعرض التوربينات للتشقق. ولم يكن باقيا من المخزون المائى الحى فى بحيرة السد العالى سوى 5.4 مليارات متر مكعب ... لقد أنقذ السد مصر خلال سنوات الجفاف فى الثمانينات، فتحولت المناقشات تحت قبة البرلمان الى تساؤلات تنطوى فى غالبيتها على الرغبة فى الاطمئنان على السد العالى وعلى مخزون بحيرته بعد أن ظلت عقول وقلوب المصريين معلقة به فى سنوات الجفاف خلال الثمانينات والذى لم يمس مصر بسوء بفضل سدها العالي.
ومن أهم ماصدر عن السد العالى ما أورده اثنان من الخبراء الأمريكيين زارا السد العالى فى نوفمبر 1971 وهما وليم هـ. وايزلى مدير جمعية المهندسين المدنيين بالولايات المتحدة، والبروفسور وليم ل. هيوز رئيس قسم الهندسة الكهربائية بجامعى أوكلاهوما، وكانا يرافقان السناتور هنرى ل. بلمون عضو الكونجرس الأمريكي. وقد دون وليم وايزل مدير جمعية المهندسين الأمريكية انطباعاته تحت عنوان "الناس وتأثير البيئة والسد العالي" ويقول تحت هذا العنوان "ان العديد من المتحفظين والصحفيين أثاروا اعتراضا على بعض الآثار الجانبية للسد العالى ومنها :
1ـ الشك فى امتلاء بحيرة السد العالى بسبب ارتفاع نسبة الفاقد بالبخر والتسرب. ويعلق وليم وايزلى على ذلك بقوله "يجب ملاحظة أن الغرض من بحيرة ناصر انما هو تخزين مياه فيضانات النيل لتكون مصدرا مستمرا وثابتا لرى الأراضى الزراعية وتوليد الكهرباء وإن ملء البحيرة حتى الآن يتم كما كان متوقعا ، لكن من متابعة ملء البحيرة خلال السنوات الماضية نلاحظ أن معدل الفاقد بالتبخر والتسرب لايتجاوز الحدود المقررة له فى التصميم وأنه حتى الآن لم تظهر أى مناطق ضعيفة تتسرب منها المياه بقاع البحيرة.
2 ـ ترسيب الطمى فى البحيرة بصورة تؤثر على السعة التخزينية لها من ناحية وتحرم الأراضى الزراعية فى مصر من الطمى الذى كان يزيد من خصوبتها. ويعلق "وايزلي" على ذلك بقوله "أنه من بين الستين مليون طن من الطمى التى كانت تحملها مياه النيل كل عام كانت نسبة مايذهب منها للبحر مع مياه الفيضان تبلغ 88% ونسبة مايرسب منها على الأراضى 9% بينما يرسب الباقى فى قاع الترع . أى أن 5.4 مليون مترمكعب من الطمى هى التى كانت ترسب فى الأراضى الزراعية سنويا . وتقدر الخسارة من عدم ترسيب تلك الكمية من الطمى بما يعادل 13 ألف طن من سماد نترات الكالسيوم فى السنة، وتكاليف شراء هذه الكمية من السماد تقل عن تكلفة تطهير الترع من الطمى الذى كان يرسب بها قبل بناء السد. أما بالنسبة لتأثير الطمى المترسب فى بحيرة ناصر على سعتها التخزينية فان تصميم سعة البحيرة يسمح بتخزين 30 مليار متر مكعب من الطمي. وهذه السعة تكفى لرسوب الطمى بالمعدلات المعتادة لمدة خمسمائة عام.
3 ـ تزايد النحر فى مجرى نهر النيل بعد أسوان . وتعقيبا على ذلك ذكر "وايزلي" أن المياه الخالية من الطمى خلف السد تمر بسرعة كبيرة لكن التغير الكبير فى تصريف المياه فى النيل بعد أسوان قد انعدم وفى مثل هذه الظروف من استقرار تدفق المياه يتلاشى النحر وتصبح شواطئ النهر أكثر استقرارا ويمكن الوصول الى مزيد من التحكم فى حالة النحر بواسطة انشاء قناطر اضافية على النيل بين القاهرة وأسوان .
4ـ انشاء السد العالى يؤدى لتزايد انتشار البلهارسيا والملاريا . وقد ذكر "وايزلي" أن هذين المرضين متوطنان فى البلاد الحارة عامة وأن التقدم فى الاقتصاد المصرى بما يؤدى لارتفاع مستوى المعيشة سوف يؤدى لتحسن مستوى الصحة العامة وسبل الوقاية من الأمراض .
5ـ تزايد الملوحة فى التربة بسبب تراكم الأملاح الناتج عن تبخر المياه السطحية بمعدلات عالية فى بحيرة ناصر . وأشار "وايزلي" فى هذا الصدد الى أن ذلك أمر يمكن تلافيه بتهيئة الوسائل اللازمة لصرف المياه من التربة وإعادة المياه الجوفية مرة أخرى للنهر، وذكر أن لدى وزارة الرى فى مصر برنامج مستمر لعمل شبكات لصرف المياه من الأراضي، يساهم فى تمويله صندوق النقد الدولى .
وأشار "وايزلي" فى النهاية الى أن "السد العالى يعتبر ولاشك من عجائب الهندسة الحديثة والأهم من ذلك أنه يلبى احتياجات الشعب كما أنه يعد مشاركة رائعة بين المهن الهندسية فى كل من مصر والاتحاد السوفيتى وكذا المهندسين من بلاد أخرى شاركت فى وضع تصميمات المشروع فى مراحله الأولى وهو بذلك يضمن أحسن مافى الفن الهندسى من إبداع وسلامة التنفيذ ، ولاشك أنه لا يوجد مشروع هندسى غير السد العالى أعطى كثيرا لعدد وفير من الناس كانوا فى أشد الحاجة الى التشجيع والمعاونة من الشعوب المتطورة فى العالم ، وأنه من الأفضل للذين يقللون من شأن هذا المشروع الكبير أن ينظروا اليه من الناحية الصحيحة وبالتركيز الصحيح.
ومن ناحية أخرى كتب الدكتور وليم هيوز انطباعاته عن زيارة مصر وسدها العالى تحت عنوان "تأملات فى أسوان" وقد ورد فيها "ان صحافتنا الأمريكية كانت تجنح بصفة عامة الى وصف مشروع السد العالى بأسوان بعبارات بها روح التعالى أو عبارات تقلل من شأنه" ثم يعدد د.هيوز المزايا الاقتصادية التى حققها مشروع السد العالى لمصر وعلى رأسها زيادة الرقعة الزراعية وتوليد الكهرباء والحماية من الفيضانات ، ويؤكد أن المشاكل التى تمخضت عنه يمكن معالجتها ، وهى لا تقارن بالمزايا التى حققها . ويؤكد فى النهاية "أن السد العالى فى أسوان هو بلا شك أحد العجائب الهندسية فى عصرنا الحاضر ويعود على مصر بفائدة اقتصادية هائلة.
السد العالى فى الميزان
بلغ الحجم الصافى للمياه التى وفرها هذا المشروع العملاق نحو 19 مليار متر مكعب من المياه عند أسوان بعد خصم الفواقد بالتبخر، وتحصل مصر منها على 7.5 مليار متر مكعب، بينما يحصل السودان على 11,5 مليار متر مكعب. وقد أتاح نصيب مصر من هذه المياه، زيادة الرقعة المنزرعة بنحو 1.3 مليون فدان. كما أدى إلى تحويل رى الحياض الى نظام الرى المستديم. كما أدى لرفع إنتاجية المحاصيل الزراعية من خلال تحسين حالة الصرف وضمان مياه الرى فى الأوقات الملائمة للمحاصيل. كما يتم توليد نحو 1.4 مليون كيلووات/ساعة من المحطة الكهربائية التى أنشئت على السد العالى بتكلفة تقل كثيرا عن تكلفة محطة حرارية واحدة، وهى كمية من الكهرباء توفر على مصر قرابة 15 مليار جنيه سنويا فى الوقت الراهن. كما تم تحسين الملاحة فى النيل سواء لنقل البضائع أو لنقل السياح فى رحلاتهم النيلية. كما أدى إلى حماية مصر من أخطار الفيضات المدمرة التى كان يتم تخصيص نحو 100 ألف مهندس وعامل لمواجهتها خلال شهور الفيضان.
وبالرغم من ضخامة الفوائد الاقتصادية والاجتماعية التى جنتها مصر من وراء السد العالى ، إلا أن دوره فى حماية مصر من دورات الجفاف الرهيبة يعد بحق المأثرة التاريخية للسد العالى بالنظر إلى الآثار المرعبة لدورات الجفاف على البشر والزرع والثروة الحيوانية فى مصر.
وخلال سنوات الجمر من عام 1979 إلى عام 1987 لعب السد العالى أعظم أدواره فى حماية مصر من جفاف كان من الممكن أن ألا يبقى ولايذر لو لم يكن السد العالى قد بني. وبالنظر الى أن مخزون البحيرة كان 133 مليار متر مكعب عند مستوى 177.75 مترا عام 1979، انخفضت الى 125 مليار متر مكعب عام 80/1981 ثم واصل المخزون انخفاضه مع السحب حتى بلغ نحو 37 مليار متر مكعب عند منسوب 149.4 متر فوق مستوى البحر عام 1988 قبل بدء الفيضان فى يوليو، ونظرا لأن التخزين حتى منسوب 147 مترا توازى نحو 31.6 متر مكعب يعتبر تخزين ميت مخصص لاستيعاب ترسيب الطمى فى البحيرة على مدى 500 عام فإن المخزون الحى للبحيرة قد وصل الى نحو 5.4 مليار متر مكعب فقط قبل أن يأتى الغوث فى الفيضان العالى الذى حدث فى صيف العام 1988 والذى رفع منسوب بحيرة ناصر الى نحو 168 مترا توازى مخزون قدره 89.2 مليار متر مكعب منها 31 مليار متر مكعب مخزون ميت ليبقى نحو 58.2 مليار متر مكعب مخزون حي.
المهم هنا أن مصر سحبت من مخزون بحيرة ناصر نحو 4 مليارات متر مكعب من المياه بين عامى 1976 ، 1980 ثم سحبت نحو 88 مليار متر مكعب من مخزون البحيرة فيما بين عام 1981 الى عام 1988 أى بمعدل 11 مليار متر مكعب سنويا ولنا أن نتصور حال الزراعة والصناعة فى مصر لو لم يكن السد موجودا يوفر لمصر من مخزون بحيرته هذا الكم الهائل من المياه على مدى سنوات الجمر التى اكتوت بها بلدان منابع النيل بينما لم نعان منها بفضل سدنا العالى ومخزون بحيرة ناصر .
ورغم وجود بعض الآثار الجانبية للسد العالى مثل الإطماء فى بحيرة ناصر، فإنه يمكن تحويلة لأثر إيجابى باستخدام الطمى المتراكم فى البحيرة كتربة شديدة الخصوبة تغطى بها أراضى الاستصلاح، أو يصنع منها الطوب الأحمر. أما النحر الناتج عن سرعة جريان المياه الخالية من عوالق الطمي، فإنه يمكن معالجتها من خلال تبطين منحنيات النهر والترع ودعم بغالى الكباري، وتكاليفها جميعا لا تساوى شيئا بالمقارنة مع فوائد السد العالي. أما تبخر المياه من مسطح بحيرة ناصر والذى ثبت أنه يقل عن 10 مليارات متر مكعب سنويا، فإنه كان محسوبا بدقة عند إنشاء السد الذى يوفر بعد ذلك كميات ضخمة من مياه الفيضان كما أشرنا آنفا.
كذلك فإن إنشاء السد العالى أدى لتفاقم مشكلة ارتفاع مستوى المياه الجوفية والملوحة فى بعض الأوقات. وكان العديد من المختصين يرجعون هذه المشكلة الموجودة قبل بناء السد العالى الى ارتفاع منسوب المياه فى النيل فى فترة الفيضان، ومع انشاء السد العالى واستقرار منسوب المياه فى النيل على مدار العام عند مستوى أعلى من المتوسط السنوى لمنسوب المياه فى النيل قبل اقامة السد العالى ولكنه أقل كثيرا من منسوب المياه فى فترة الفيضان ... مع هذا الوضع الجديد ساهم السد العالى فى ارتفاع منسوب المياه الجوفية، وأيضا بسبب ادخال مياه الشرب لكل القرى دون أن تكون لديها شبكة للصرف الصحى حيث يتم الصرف عبر خزانات أرضية تساهم فى رفع مستوى المياه الجوفية، وليست القرى فحسب التى لا توجد فيها شبكة صرف صحي، وإنما يوجد الكثير من الامتدادات العمرانية العشوائية فى المدن الكبرى وبخاصة القاهرة والاسكندرية، تلك العشوائيات التى لاتوجد بها مجار وبالتالى يتم الصرف الصحى عبر خزانات أرضية فى تلك الأحياء تساهم فى رفع مستوى المياه الجوفية.
وبالرغم من الآثار السلبية التى يؤدى اليها ارتفاع منسوب المياه الجوفية مثل تطبيل الأراضى الزراعية الا أنها ليست مشكلة بلا حل، فهناك الكثير من السبل لمعالجتها مثل ترشيد استخدام مياه الرى وزيادة مشروعات الصرف المكشوف والمغطى لسحب تلك المياه الجوفية وتخليص الاراضى الزراعية من آثارها السلبية وإعادة معالجتها للإستفادة منها كلما كان ذلك ممكنا. كما أن تطوير شبكة الصرف الصحى ومدها الى كل مكان فى مصر يمكن أن يساهم فى تحسين نوعية المياه الجوفية وتقليل آثارها السلبية على الأراضى الزراعية .كذلك فإن بناء السد العالى وتناقص كمية المياه التى تذهب للبحر فضلا عن خلوها من الغالبية الساحقة من الطمى الذى كانت تحمله قبل بناء السد العالي، أدى إلى زيادة نحر الشواطئ فى المناطق القريبة من مصبى نهر النيل فى البحر المتوسط عند رشيد ودمياط. وقد استدعى ذلك تدعيم الشواطئ فى تلك المناطق بكتل خرسانية لحمايتها، وربما يحتاج الأمر لمزيد من الدراسات والجهود لمواجهة هذه المشكلة.
وربما كان غرق قرى ومناطق النوبة وتعرض بعض آثارها للانغمار بمياه بحيرة ناصر قبل إنقاذ تلك الآثار هو أسوأ الآثار الجانبية للسد العالي. لكن إقامة السد العالى فى موقعه الذى أقيم به مما أدى لغرق قرى ومناطق النوبة القديمة لم يكن اختيارا بقدر ما كان ضرورة نظرا لأنه أنسب المواقع لإقامة السد العالى كما أثبتت الدراسات العلمية للمنطقة من أسوان وحتى حدود السودان الشقيق. ورغم أن غرق قرى وأراضى النوبة القديمة قد خلق بعض المرارات لدى أبناء مصر الذين كانوا يعيشون فيها إلا أن ذلك كان ضرورة لحماية مصر وشعبها بما فيه النوبيون من مخاطر الفيضان والجفاف، وكان ضرورة للاستفادة من النتائج الاقتصادية الهائلة للمشروع لصالح مصر وشعبها من النوبة الى الاسكندرية. وربما يكون إعطاء الأولوية لأبناء النوبة فى تمليك الأراضى فى منطقة توشكا وشواطئ بحيرة ناصر لإعادة توطينهم قرب موطنهم الأصلي، إجراءً ملائما لتعويضهم عن تحمل تبعات بناء سد مصر العالى فى موقعه الذى أدى إلى تهجيرهم.