مرة أخرى يأتى تقرير الثروات العالمى فى عدده الجديد للعام 2015 ببيانات صادمة عن الاختلال المروع فى توزيع الثروات فى العالم. وقبل عرض وتحليل تلك البيانات لابد من التأكيد على أن عدالة توزيع الدخل ليست ترفا اجتماعيا بل هى ضرورة لاستمرارية وتواصل النمو الاقتصادي. وهذا ليس حكما قيميا بل حقيقة اقتصادية تتصادم مع النزوع الشره للاستحواذ على الناتج والثروات من قبل الرأسمالية بالذات فى طبعتها المتوحشة المتحللة أو المعفاة من المسئولية الاجتماعية.
وكلما تحسنت عدالة توزيع الدخل والثروة فى أى مجتمع فإن حصة الطبقات الدنيا من الدخل تزيد وتتحول إلى طلب فعال على السلع والخدمات مما يحفز منتجيها فى أى اقتصاد نشط إلى تأسيس استثمارات جديدة لإنتاج السلع والخدمات التى يوجد طلب فعال عليها. وهذه الاستثمارات وإنتاجها تعنى زيادة الناتج ونموه. كما أنها تعنى توظيف عاملين جدد وتوزيع دخول جديدة عليهم مما يخلق طلبا فعالا جديدا يحفز استثمارات أو توسعات استثمارية جديدة فى دورة لا تنتهى طالما كانت هناك عدالة فى توزيع الناتج بين العاملين وأرباب العمل. وهذه التفاعلات المتراتبة تسمى مضاعف الاستثمار وهو محرك فعال للنمو الاقتصادى المتواصل. لكن كما ورد آنفا فإن عدالة توزيع الدخل تصطدم بهوس الاستحواذ لدى الطبقة الرأسمالية التى تهيمن على غالبية الناتج وتكبل الطلب الفعال طالما كانت حاكمة ومهيمنة ومتحررة من ضغوط الشعب عليها وبخاصة فى ظل النظم الاستبدادية والمعادية للحريات.
ومن الضرورى الإشارة أيضا قبل عرض وتحليل تقرير الثروات العالمى إلى أن هناك فارقا كبيرا بين الدخل والثروة. والدخل هو ما يحصل عليه الإنسان سنويا من عوائد عمله إذا كان يحصل على دخله من العمل، أو من حقوق الملكية إذا كان دخله يتأتى من أملاكه أو من استثماراته التى يوظف فيها آخرين سواء تعامل معهم بشكل عادل أو استغلهم لتحقيق أرباح استثنائية. وبديهى أن الإنسان يستخدم جزءا كبيرا من دخله فى تمويل استهلاكه هو وأسرته من السلع والخدمات. والبعض لا تتوفر لديه إمكانية للادخار إلا فى أضيق الحدود التى تتيح امتلاك الأصول الضرورية للحياة من أدوات وأجهزة وربما مسكن، والبعض الآخر يدخر جزءا من دخله أو يستخدمه بدرجات متفاوتة فى شراء أصول عقارية أو صناعية أو زراعية أو خدمية. ومن تلك المدخرات والاستثمارات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة تتراكم الثروات للأفراد.
أما بالنسبة للأمم فإن التباين في الثروات بين البلدان ارتبط منذ بداية التاريخ وحتي ظهور الرأسمالية بالتباين في حظ كل بلد من الموارد الطبيعية الموجودة لديه أو التي يسيطر عليها، وقدرته علي استغلالها من خلال العمل والعلم والتطور التقني.
ومع ظهور وتعاظم قوة الرأسمالية ارتبطت بعهد أسود من الغزو والاحتلال والاغتصاب الأوروبي لموارد البلدان الأخري. وتم استغلال تلك الموارد في مجال الصناعة من خلال التقنيات الإنتاجية الجديدة التي ارتبطت بالنظام الرأسمالي. وتزايدت علي نحو سريع الفجوة بين الدول التي أثرت علي حساب وباحتلال واستغلال موارد الآخرين، كما فعلت غالبية الدول الأوروبية والولايات المتحدة واليابان، والدول التي خضعت للاحتلال واغتصاب مواردها والسطو حتي علي قوتها البشرية في بعض الحالات الأكثر تطرفا ودناءة. كما ساهم الاحتشاد الادخاري والاستثماري لبعض البلدان في شراء مستقبل أكثر ثراء حتي ولو بالتضحية بترف الاستهلاك في الحاضر كما هو الحال في بلدان آسيا الناهضة.
كما أن آليات السيطرة التي رسختها الدول الاستدمارية التي احتلت واغتصبت البلدان الأخري حتي بعد انتهاء عهد الاحتلال العسكري المباشر أسهمت في استمرار تزايد فجوة الثراء التي تفصلها عن البلدان الأخري. وتركزت تلك الآليات في الاحتكار التكنولوجي والتقييم غير العادل لأسعار السلع بما يفضي إلي تقييم مبالغ فيه للسلع التي تنتجها الدول المهيمنة وشركاتها، مقارنة بالسلع التي تنتجها الدول النامية. أما الولايات المتحدة فتنفرد باستغلال وضعية عملتها كعملة احتياط دولية تتم تسوية الجانب الأكبر من التعاملات بين الدول من خلالها، في نهب باقي دول العالم والحصول علي سلع وخدمات الدول الأخري مقابل مجرد أوراق نقدية يتم إصدارها بلا غطاء نقدي أو إنتاجي.
وتقرير الثروات العالمي معني بالتحديد بقياس الثروات المتراكمة لدي الراشدين (الذين بلغوا سن الرشد) في العالم. وتشير بيانات تقرير الثروات العالمي (2015) الصادر عن بنك الائتمان والاستثمار المصرفي السويسري (Credit Suisse Investment Banking)، إلي أن عدد الراشدين في العالم بلغ 4772 مليون نسمة عام 2014، وأن مجموع الثروات العالمية التي يمتلكونها بلغت نحو 250,1 تريليون دولار.
تزايد اختلال توزيع الثروات عالميا
يشير تقرير الثروات العالمي (2015) إلي أن 0.7% من الراشدين في العالم أي نحو 34 مليون شخص يملكون ثروات هائلة تزيد لكل شخص منهم عن مليون دولار. ويمتلكون مجتمعين نحو 112.9 تريليون دولار، أي ما يوازي 45.2% من إجمالي الثروات العالمية عام 2015. وكانت تلك النسبة قد بلغت نحو 44% في عام 2014، بما يعني أن تركز الثروات في يد الأثرياء يتزايد مسجلا المزيد من الاختلال في توزيع الثروة بكل ما ينطوي عليه من ظلم اجتماعي. أما باقي الراشدين في العالم أو 99.3% منهم والذين يبلغ تعدادهم نحو 4738 مليون راشد فيملكون مجتمعين نحو 54.8% فقط من الثروات العالمية.
ولو تأملنا الشريحة الأكثر ثراء في العالم أي الـ 0.7% من الراشدين في العالم وعددهم 34 مليونا والتي تملك 45.2% من الثروات العالمية سنجد أن 29.76 مليون شخص يملك كل منهم ما يتراوح بين مليون دولار وخمسة ملايين دولار. وهناك نحو 2.5 مليون شخص يملك كل منهم ما يتراوح بين 5 ملايين دولار و01 ملايين دولار. وهناك 1.34 مليون شخص راشد يملك كل منهم مايتراوح بين 10 ملايين دولار ونحو 50 مليون دولار. وهناك 74.4 ألف شخص يملك كل منهم ما يتراوح بين 50 مليون دولار و 100 مليون دولار. وهناك 44.9 ألف شخص يملك كل منهم ما يتراوح بين 100 مليون دولار ونحو 500 مليون دولار. أما أثري الأثرياء أو الـ 4.5 ألف الباقين من قمة هرم الثراء فإن كل منهم يملك أكثر من 500 مليون دولار.
وتلي هذه الشريحة من الأثرياء ثراء فاحشا، شريحة ثرية أخري تضم أعالي الطبقة الوسطي والأثرياء وتشكل 7.4% من الراشدين في العالم بتعداد بلغ 349 مليون شخص ممن يملك كل منهم ثروة تتراوح بين 100 ألف دولار، ومليون دولار. ويملك هؤلاء نحو 98.5 تريليون دولار بما يوازي 39.4% من إجمالي الثروات العالمية.
ولو جمعنا ثروات أغني 0.7% من الراشدين في العالم علي هذه الشريحة الغنية التي تليها أي الـ 7.4% بما مجموعه 8.1% من الراشدين في العالم فإن إجمالي ثروات المجموعتين سيبلغ نحو 211.2 تريليون دولار بما يوازي نحو 84.6% من مجموع الثروات العالمية، تاركين نحو 15.4% فقط من الثروات العالمية لنحو 91.9% من مجموع الراشدين في العالم.
وفي المجموعة الأكثر ثراء ممن يمتلك كل منهم 50 مليون دولار فأكثر هناك 61.3 ألف شخص من أمريكا الشمالية وغالبيتهم الساحقة من الولايات المتحدة الأمريكية. وهناك 29.9 ألف شخص من أوروبا، و15.9 ألف شخص من دول آسيا والمحيط الهادئ بدون الصين والهند.ويتبقي لباقي دول العالم بما فيها الهند والصين 16.7 ألف شخص ممن يملك كل منهم 100 مليون دولار فأكثر.
ويتركز 46% من مليونيرات العالم في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها التي يوجد بها 15.66 مليون مليونير. وإذا كانت جذور الثراء في ذلك البلد مرتبطة بالكم الهائل من الموارد الموجودة في الأراضي الأمريكية التي استولي عليها المستوطنون الأوروبيون بعد أن أبادوا السكان الأصليين في جريمة تاريخية مروعة، فإن استمرار وتعزز ذلك الثراء ارتبط بالتقدم والاحتكار التقني وهيمنة الشركات الأمريكية علي قطاعات مهمة من الاقتصاد العالمي في مجالات صناعات الأسلحة والأدوية والطائرات والسيارات وأجهزة الحاسوب وشركات النفط. لكن كل تلك المصادر للقوة الاقتصادية والثراء تراجعت لتفسح المجال أمام مصدر آخر للثراء علي حساب العالم بدون جهد أو عمل وهو استغلال وضعية الدولار كعملة احتياط دولية في الإثراء غير المشروع علي حساب العالم.
وتأتي بريطانيا في المرتبة الثانية بنحو 7% من مليونيرات العالم بتعداد بلغ 2.36 مليون مليونير. وتأتي اليابان في المرتبة الثالثة بنحو 6% من مليونيرات العالم بتعداد بلغ 2.13 مليون مليونير. وتأتي فرنسا وألمانيا في المرتبة الرابعة والخامسة بنسبة واحدة هي 5% من مليونيرات العالم لكل منهما. وتأتي الصين في المرتبة السادسة بنحو 4% من مليونيرات العالم وبتعداد بلغ 1.33 مليون مليونير. وتأتي إيطاليا وكندا في المراتب السابعة والثامنة والتاسعة بنحو 3% من مليونيرات العالم لكل منهم وبتعداد بلغ نحو 980 ألف مليونير لكل منهم. وتأتي سويسرا في المرتبة العاشرة بنحو 2% من مليونيرات العالم وبتعداد بلغ 667 ألف مليونير، وبنفس النسبة تحتل السويد المرتبة الحادية عشرة. أما تايوان وأسبانيا فلدي كل منهما 1% من مليونيرات العالم. ويوجد 12% من مليونيرات العالم في باقي بلدان العالم مجتمعة.
ويلاحظ أن الدول الرأسمالية الكبري التي تتمتع منذ زمن طويل بوضع اقتصادي مهيمن عالميا والتي احتلت واغتصبت ثروات بلدان أخري ما زالت تملك الحصة الأكبر في قائمة مليونيرات العالم.
قارات الفقر.. الوجه الآخر لجزر الثراء الفاحش
مقابل جزر الثراء الفاحش هناك قارات شاسعة من الفقر والبؤس. ، ويشير تقرير الثروات العالمي إلي أن نحو 71% من الراشدين في العالم بتعداد بلغ 3386 مليون شخص عام 2014 يملكون ثروات تقل عن 10 آلاف دولار لكل منهم بمجموع 7.4 تريليون دولار بنسبة 3% فقط من مجموع الثروات العالمية. وهؤلاء الراشدون يعولون أنفسهم وأسرهم. وبالتالي فإن نصيب كل فرد من أسر هؤلاء الراشدين من الثروة يقل عن ثلث رقم العشرة آلاف دولار في المتوسط وبعضهم لا يملك شيئا يذكر. وهؤلاء يتضمنون الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطي، والفقراء الذين يبلغ دخل الفرد منهم أقل من دولارين، والفقراء فقرا مدقعا الذين يبلغ دخل الفرد منهم أقل من 1.25 دولار في اليوم.
أما الذين ينتمون للطبقة الوسطي التي تشكل نحو 21% من الراشدين في العالم بتعداد بلغ 1003 ملايين شخص ممن تتراوح ثرواتهم بين 10 آلاف دولار ونحو 100 ألف دولار، فإنهم يمتلكون مجتمعين نحو 31.3 تريليون دولار بنسبة 12.5% من إجمالي الثروات العالمية. وكما هو واضح فإن حجم الطبقة الوسطي يتراجع مفسحا المجال أمام تزايد أعداد الأقل دخلا أو الفقراء بالمقارنة مع المتوسط العام للدخل والثروة في العالم.
ورغم أن عهود الاحتلال والنهب الاستدماري الأوروبي للدول النامية قد ساهمت في تكريس فوارق هائلة في الدخل بين الدول الرأسمالية الغنية والبلدان النامية، إلا أن العملية تواصلت بعد ذلك بعدة طرق. والطريقة الأولي هي تخفيض أسعار منتجات البلدان النامية من السلع والخدمات في الأسواق الدولية، مقارنة بأسعار السلع والخدمات التي تخصصت الدول الرأسمالية الكبري في إنتاجها بحيث يكون معدل التبادل الدولي لسلع وخدمات الدول النامية مع سلع وخدمات الدول المتقدمة في صالح الأخيرة. والطريقة الثانية تتعلق بالاحتكار التقني والمبالغة في قيمة ورسوم استخدام التقنيات التي تنتجها تلك البلدان، مع مقاومة تطورها تقنيا من خلال الاستحواذ علي أهم العقول الموجودة لديها. وذلك الاستحواذ يتم من خلال توفير بيئة علمية وامتيازات مالية لعقول الدول النامية لجذبها بصورة تلقائية. ويساعد علي ذلك سيطرة الجهل في الكثير من الدول النامية وعدم الاهتمام بالبحث العلمي مما يشكل مناخا طاردا تلقائيا لأهم العقول في تلك البلدان. وفي الحالات التي تتوفر فيها سلطة حاكمة تدرك أهمية العلم وتوفر بيئة مناسبة للبحث العلمي وتعزز الدوافع الوطنية لدي عقولها، فإن الدول المتقدمة وأجهزة استخباراتها لم تتورع عن ارتكاب جرائم التصفية ضد بعض علماء الدول النامية. لكن العديد من الدول النامية استطاعت حماية علمائها وتعزيز مسيرتها العلمية وحققت بالتالي تقدما فارقا علي كافة الأصعدة. وأبرز النماذج لذلك هي الصين والهند.
أما الطريقة الثالثة فتتعلق باستغلال وضعية عملات الدول الكبري كعملات احتياط دولية تتم تسوية التعاملات الدولية من خلالها وبصفة خاصة الدولار الذي يهيمن علي قرابة 60% من سلة الاحتياطيات الدولية من النقد الأجنبي. حيث يتم الإفراط في الإصدار النقدي الأمريكي بدون غطاء ذهبي أو إنتاجي، وتكون النتيجة أن الولايات المتحدة تحصل علي سلع وخدمات العالم مقابل مجرد أوراق. وبالارتباط مع هذه الطريقة فإن عملات الدول النامية مقدرة بأقل من قيمتها الحقيقية. ورغم ذلك لا يكف صندوق النقد والبنك الدوليان عن المطالبة بالمزيد من تخفيض أسعار تلك العملات.
وتشير بيانات البنك الدولي في تقريره عن مؤشرات التنمية في العام (2015) إلي أن الناتج القومي للدول المتوسطة والمنخفضة الدخل المحسوب بالدولار طبقا لأسعار الصرف السائدة بلغ 24.8 تريليون دولار عام 2014، وهي تعادل 31.7% من الناتج العالمي في العام نفسه. أما الناتج القومي لتلك البلدان والمحسوب بالدولار طبقا لتعادل القوي الشرائية لعملاتها مع الدولار الأمريكي، فإنه بلغ 51.5 تريليون دولار تعادل 47.6% من الناتج العالمي المحسوب بنفس الطريقة. أي أن الدول المتوسطة والمنخفضة الدخل مجتمعة تفقد نحو 15.9% نقطة مئوية من حصتها من الناتج العالمي بسبب اختلالات وانحرافات أسعار الصرف وابتعادها عن أسعار الصرف المثالية المرتبطة بتعادل القوي الشرائية للعملات.
وهذا يعني أن قدرة المستثمرين والسياح من الدول الرأسمالية الكبري صاحبة العملات الحرة الرئيسية علي شراء الأصول والسلع والخدمات في الدول النامية أعلي كثيرا من قدرتهم علي شراء السلع والخدمات والأصول في بلدانهم بنفس الكمية من النقود.
ومن المؤكد أنه في حالة توجه الدول المتوسطة والمنخفضة الدخل للاستغناء عن العملات الحرة الرئيسية وعلي رأسها الدولار في تسوية التزاماتها الدولية والاعتماد علي عملاتها المحلية طبقا لتعادل القوي الشرائية بينها، سوف تفقد الدول الغربية الكبري وعلي رأسها الولايات المتحدة مصدرا رئيسيا للإثراء اللصوصي علي حساب العالم. وسيشكل ذلك مفتاحا لإعادة توزيع الناتج والثروات بين الدول بصورة تتسق مع ما تنتجه كل دولة من سلع وخدمات حقيقية. لكن إعادة توزيع الثروات داخل كل دولة تتطلب تبني سياسات اقتصادية-اجتماعية تحقق العدالة في توزيع الدخل، وتحديدا سياسات الأجور والضرائب والإنفاق العام علي الصحة والتعليم والدعم والتحويلات الاجتماعية.
كانت الأمم المتحدة قد أوصت بتخصص الدول الغنية 0.7% من دخلها لمساعدة الدول الفقيرة كنوع من التكافل والتعويض عما أصاب تلك البلدان الفقيرة من تخريب للبني الاجتماعية فيها في عهود الاحتلال والنهب الغربي لها، لكن أحدا لم يلتزم بتلك النسبة مما أدي لتزايد التفاوت في الثراء بدلا من تجسير الهوة بين الفقراء والأثرياء. وداخل الدول الفقيرة والمتوسطة الدخل نفسها هناك حالة من الانقسام الطبقي الفظ، حيث تسيطر حفنة من الأثرياء وأصحاب النفوذ علي القسم الأكبر من ثروة الأمة تاركين الغالبية الساحقة في أوضاع معيشية صعبة بدرجات متفاوتة. وفي غياب قيم العدل والتكافل والنهوض المشترك، بل ومحاولات الدول الغربية المتقدمة تخريب وتدمير الدول المعارضة لها، من الطبيعي أن نتوقع تصاعد التوترات الإقليمية والدولية. ومن الطبيعي أيضا أن تتزايد حدة العنف الاجتماعي والجنائي والسياسي والطائفي والعنصري في داخل البلدان المنقسمة طبقيا بحدة وغلاظة والتي لن تجد مخرجا من ذلك سوي بالعدل وفتح آفاق المشاركة والحياة بصورة عادلة أمام الجميع.
الاختلال الموروث في مصر وضرورة الإصلاح
ورثت مصر من العقود الأربعة الماضية اختلالات كبيرة في توزيع الثروة. وتلك الاختلالات تزايدت علي نحو خاص في عهد الديكتاتور المخلوع مبارك، وهي تحتاج إلي إصلاحات كبيرة لمعالجتها وتحقيق حلم الشعب بالعدالة الاجتماعية. وكان تقرير الثروات العالمي قد اشار في العام الماضي إلي أن أغني 10% من السكان الراشدين كانوا يملكون نحو 61% من الثروة في مصر عام 2000، وارتفعت حصتهم إلي 65.3% عام 2007، ثم إلي 73.3% من إجمالي الثروات في مصر عام 2014. وهذا النمط من الاستحواذ علي الثروات يضع مصر بين الدول الأكثر سوءا في توزيع الثروات مقتربة من النموذج الأمريكي الذي يستحوذ فيه أغني 10% من الراشدين علي قرابة 75% من الثروة الأمريكية، والنموذج التركي الذي يستحوذ فيه أغني 10% من الراشدين علي 77.7% من الثروة التركية.
وتشير بيانات تقرير الثروات العالمي لعام 2015 إلي أن الطبقة الوسطي في مصر كان تعدادها 5.7 مليون شخص من الراشدين عام 2000، وتراجعت إلي نحو 2.9 مليون فقط في عام 2015. وهذا التراجع ليس نمطا عالميا بل إن مصر واحدة من الحالات الخاصة في هذا الشأن، فعلي الصعيد العالمي ارتفع تعداد الراشدين المنتمين للطبقة الوسطي بنسبة 30.6% بين عامي 2000، و 2015. وكل ذلك يضع مهام ثقيلة أمام الدولة والشعب لإصلاح هذا الخلل ضمن سياق اقتصادي-اجتماعي أوسع نطاقا لإصلاح اختلالات توزيع الثروة وتمكين الفقراء من توليد وحيازة الدخل عبر تشغيلهم أو دعم مشروعاتهم الصغيرة والتعاونية، وإصلاح النظام الضريبي الذي يعتبر الآلية الرئيسية لإعادة توزيع الدخل، وإصلاح نظام الدعم والتحويلات ودعم الخدمات الصحية والتعليمية العامة لمصلحة الفقراء ومحدودي الدخل.