صورتها في الماء

صورتها في الماء

صورتها في الماء

 العرب اليوم -

صورتها في الماء

عمار علي حسن

أغمض عينيه ليرى، بينما الحمار الذى يمتطيه يمضى فى طريقه صامتاً متطلعاً فى لهفة إلى حقل البرسيم الممتد عن يمينه. تحوَّل النهار أمام مقلهما الأربع إلى ليل، ورأى نفسه يدخل إلى هذا المكان الغارق فى الضوء الملوَّن، ليلمح الوجوه التى تلمع خلف الطلاءات الفاخرة، منتشية بنور الشهرة، والعيش المريح.

كان فتى ريفياً خجولاً ولا يزال، وكانوا هم فنانين كباراً، ولم يدُر بخلده وهو يتابع الأفلام والمسلسلات التى يلعبون فيها أدوار البطولة أن عينيه ستحطان على وجوههم دون أن تكون بينه وبينهم شاشات زرقاء وبيضاء، ومساحات شاسعة مملوءة بالدهشة والغربة واليأس.

لكن ها هو يدخل عليهم وفى يده حقيبة من جلد قديم رخيص، رمادية مزركشة بالقشور كسمكة ماتت وقددتها شمس الظهيرة، ينظر إليها فيغرق فى التردد والحذر، بينما تغرق أذناه فى صوت المخرج:

- راحة.

ورأته الممثلة الشهيرة فائقة الحسن، فأشرق وجهها بابتسامة آتية من أعماقها، ونادته:

- تعالَ يا «محمود».

أسرع إليها فتعثر فى أسلاك الكاميرات الملقاة على الأرض كثعابين يقظة، لدغته فأمسك بساقه اليسرى متوجعاً، وحاول أن ينهض، لكن قوته خذلته. قامت هى وسارت على مهل إليه، ومدت يدها وأخذت كفه، وجذبتها فى رفق. قام معها وفمه منفرج عن آخره فى ابتسامة صامتة، رقصت لها مقلتاه.

ها هى الابتسامة ذاتها تملأ وجهه الآن، ويراها فى لحظة عودته من شروده، مرسومة على صفحة الترعة، تهزها قليلاً شفطات الحمار وهو يعب كى يروى ظمأه الطويل، ويلمح بطرف عينيه وجه صاحبه يضحك، فيظن أنه يسخر من طريقته فى الشرب، فيتململ تحته، ويهم أن يتفافز ويرفس، ليرميه فى الماء، لكنه حين رأى وجه سيدة جميلة منسكباً من عينى صاحبه على صفحة الماء، يتراجع سعيداً، ويحملق أكثر فى الماء، ولا يريد أن يبرحه.

إنه وجه السيدة التى عطفت عليه وهو فى أول الطريق، لكن من أسف، كان أوله هو آخره، فعمله محرراً فنياً لم يستغرق سوى ثلاثة أشهر، وبعدها عاد إلى قريته مأسوراً بمواقف قليلة مرت بحياته الصعبة كحلم صيف.

كانت هى تلتقط المحررين الصغار، وتغدق عليهم من كرمها حتى يكونوا لها فى وجه منافساتها من نجمات الفن، وكانوا هم بلا سند، فأخلصوا لها، واصطادوا أخبارها من كل حدب وصوب، وجعلوا صغيرها كبيراً. هو ترك كل شىء وجلس عند قدميها يلملم كل ما تنطق به، حتى هذيانها يسجله فى تبتل.

فجأة راح كل شىء، ولم يعد هناك ما يدونه؛ فهى اعتزلت من دون سابق إنذار، بعد أن تزوجها رجل فاحش الثراء.

صاحَبها شهوراً قليلة فى أماكن التصوير، وذهب غير مرة إلى شقتها الفاخرة بحى الزمالك، وسافر معها مرتين، الأولى إلى الغردقة؛ حيث كانت تصور مشاهد خارجية لفيلمها قبل الأخير، والثانية إلى بيروت للغرض نفسه.

فى الرحلتين، انفتحت أمامه فرجة وسيعة على دنيا مدهشة له، ولم تخطر بباله من قبل، لكن ها هو كل شىء يعود إلى أصله، ليجد نفسه مغروساً من جديد فى وحل قراريط أبيه المؤجرة، وعلى طينها اللزج ترتسم أمام عينيه مشاهد متتابعة من أفلامه الأخيرة.

يجلس أحياناً تحت شجرة النبق التى تقف على رأس الحقل، ويسوى التراب الناعم بيديه، ويلتقط حطبة صغيرة، ويبرى طرفها بأسنانه وأظافره فيصير قلماً يكتب به على التراب كل ما يتخيل أنها تمليه عليه، أو تثرثر به فى أذنيه، وهو يدوّنه بسرعة شديدة.

وكان الحمار يراقبه، والجوع يأكله، مستغرباً ما يفعله صاحبه، وصفَّر بطنه من الفراغ، فشد الحبل حتى كاد يكسر الوتد، واستدار فجعل كفله فى محاذاة صفحة التراب، ومال عليها بحوافره، وضربها بقسوة، فساحت الحروف وصارت مبهمة مثل حال من كتبها.

الآن لا توجد حروف لا يفهمها الحمار، ولا تضنيه، إنما صورة فائقة الحسن على الماء تزغلل عينيه، فتقدم نحوها محاولاً أن يلثمها بشفتورتيه السمينتين، لكنها تتباعد فيغوص وراءها بينما صاحبه فوقه شارداً فى الوجه الحسن، الذى تبتلعه خيوط الماء الرقيقة، لا يدرى شيئاً عن البلل الذى زحف إلى فخذيه النحيلتين.

arabstoday

GMT 19:26 2025 الجمعة ,25 إبريل / نيسان

مواعيد إغلاق المقاهى.. بلا تطبيق

GMT 19:24 2025 الجمعة ,25 إبريل / نيسان

المطلوب

GMT 19:24 2025 الجمعة ,25 إبريل / نيسان

البابا فرنسيس والسلام مع الإسلام

GMT 19:23 2025 الجمعة ,25 إبريل / نيسان

الإحساس في كلام عبّاس

GMT 19:23 2025 الجمعة ,25 إبريل / نيسان

خيار الفاتيكان القادم: الكرازة أم التعاليم؟

GMT 19:21 2025 الجمعة ,25 إبريل / نيسان

السوداني والإخوة الحائرون

GMT 19:21 2025 الجمعة ,25 إبريل / نيسان

... والجامعيون أيضاً أيها الرئيس!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

صورتها في الماء صورتها في الماء



نانسي عجرم تتألق بالأسود اللامع من جديد

بيروت ـ العرب اليوم

GMT 17:37 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

أقصر الطرق إلى الانتحار الجماعي!

GMT 04:47 2025 الجمعة ,25 إبريل / نيسان

توقعات الأبراج اليوم الجمعة 25 إبريل / نيسان 2025

GMT 17:02 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

صعود طفيف لأسعار النفط بعد انخفاض 2%

GMT 10:33 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

نانسي عجرم تتألق بالأسود اللامع من جديد

GMT 17:34 2025 الخميس ,24 إبريل / نيسان

بقايا «حزب الله» والانفصام السياسي
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab