ظلال الجميزة «قصة قصيرة»

ظلال الجميزة.. «قصة قصيرة»

ظلال الجميزة.. «قصة قصيرة»

 العرب اليوم -

ظلال الجميزة «قصة قصيرة»

بقلم - عمار علي حسن

حين أبلغنى باكيًا بأنهم قطعوا الجميزة وبنوا مكانها بيتًا عاليًا من حجر وأسمنت، استيقظت أحزانى، ووجدت نفسى أتضاءل فى مقعدى اللين، حتى عدت الطفل الذى كنت، أقف تحت ظلالها الوارفة، تملؤنى الهيبة والامتنان، لأصطاد وجوه أجدادى التى تتساقط من فوق فروعها العفية إلى حجرى، ثم أمد كفىّ فى الفراغ لتتلقى ثمارها الطرية، أفتح فمى وأرميها وألوكها متلذذا، وأذنى تنسكب فيها زقزقة العصافير الجذلانة، التى تلمس هامتى ثم تطير إلى أعشاشها هناك فى الهامات البعيدة.

سألته بصوت غارق فى الأسى:

ـ ألم يبق منها شىء؟

فأجاب فى توجع:

ـ حفرة ردموها على عجل، ثم رصوا فوقها بلاط يلمع.

ورأيت الشمس وهى تلمع على لحائها العريض الأملس، وأنا أرفع ذراعىّ كى أرى الثمار التى احمر لونها، تطلب الآكلين، فتحط فى ناظرى عصفورة مهيضة الجناح، كانت تحاول أن تثبت مخالبها الدقيقة على فرع دقيق منزلق، حتى اعتدلت واستقرت وبدأت تضرب منقارها فى ثمرة جميز، حمراء طرية، لكنها سقطت منها فوق رأسى. التقطها من على الأرض، ووضعتها على كفى، ورفعتها نحو العصفورة، التى رمت عينيها نحوى، لكنها لم تأت. استدارت، وأعطتنى ذيلها، وانهمكت فى نقر ثمرة أخرى.

كبرت، وسافرت إلى المدينة الكبرى المتوحشة، تعلمت وعملت وتزوجت وأنجبت وتسلل الشيب إلى رأسى، لكنى لم أنس الجميزة أبدًا، بل كانت تكبر فى نفسى، تقتحمنى كلما استعدت أيامى القديمة فى قريتى التى تنكمش بين الزروع والنخيل. أغمض عينى أحيانًا لأرى نفسى هناك بين عيال صغار، كبروا مثلى، لكنى لا أزال أراهم على حالهم القديمة، بجلاليبهم الكالحة التى وسخها كدح الحقول وتراب الشوارع.

ويأتينى صوت أبى:

ـ ولدنا فوجدناها، وسألنا آباءنا فقالوا لنا إن أجدادنا قد وجدوها، ولعبوا تحتها.

وكنت حين أجلس تحتها أتطلع إلى فروعها السمينة، فأرى كل وجوه الراحلين، أجدادى وأجداد كل العيال الذين جاءوا ليلعبوا تحت ظلالها المديدة، ويأكلوا من ثمرها اليانع فتجد بطونهم الخاوية شيئًا تهضمه، لم يكن فى البيوت التى يسكنها العوز.

كانت الوجوه تتوزع فوق الجذع المهيب، والفروع التى تمد أذرعها المتينة نحو الفضاء، لتغطى كل هذه المساحة الهائلة من الأرض البور، وماء البحيرة المعزولة، التى قيل لنا إن النيل قد أنجبها فى وقت الفيضان قبل بناء السد العالى، ثم انحسر عنها، لكنها كانت تذهب إليه فى الليل لتغرف منه عبر مسارب فى الأرض العميقة، جعلتها تظل كل هذا الزمن مملوءة بماء نظيف، وأسماك طازجة، وطيور بديعة الألوان كانت تنظر نحونا من قلب البوص ثم تختفى. وكنا أحيانًا نصنع لها كمائن كى نصطادها، لكن دون جدوى.

فى الظهيرة تفرش الجميزة ظلها الهائل فوق الماء، فنتجمع تحته من حرقة الشمس، ونلهو بألعاب مائية بسيطة اخترعناها، نطلق مراكب البوص، ونتقاذف اليقطين الخفيف، أو يقف بعضنا صانعين شبكة بأجسادهم، ويغطس آخرون ليلعبوا دور الأسماك، وتبدأ المطاردة.

كان بعضنا يخرجون سريعًا، يرتدون ملابسهم على عجل فتشرب الماء الراقد على أجسادهم، ثم يتسلقون الجذع الضخم، ليصلوا إلى الفروع العريضة، فيتخذونها مخادع لقيلولة هانئة.

لم أفعل مثلهم أبدًا، وأصعد فوقها، بل بقيت تحتها، فى الماء أو على اليابسة، أنظر إليها بإجلال كبير.

وكلما كنت أطمئن إلى أننى وحدى الذى بقيت عندها، بعد أن يجن الليل، ويتسرب العيال واحدًا تلو الآخر إلى بيوتهم، أسرع فى ممارسة هواية اصطياد وجوه الأجداد، المعلقة فوق الأغصان، أنادى من سمعت عنه بالاسم، مستعينًا بالأسماء الرباعية والخماسية لزملائى فى المدرسة الابتدائية. وأرى الوجوه تتساقط على مهل، وتحط فى حجر جلبابى، فأسأل أصحابها عن الجميزة فيقولون فى صوت واحد:

ـ لا نعرف من غرسها، لكن أجدادنا أخبرونا أنهم وجدوها على هيئتها هذه.

رجل طاعن فى السن كان يسكن على طرف قريتنا طالما زعم أمام الناس أن عمرها ثلاثة قرون.

وكنا نسأله عمن غرسها فيقول:

ـ جرف النيل وقت الفيضان قطعة من فرع جميزة كانت واقفة فى بلاد بعيدة، ولما انحسر الماء، نبت برعمها هنا، ليصير هذه الشجرة الكبيرة.

اعتبرناها هبة الله لبلدنا. نلعب تحتها، ونتسلى بحكايات فى الليل عن الجنيات التى تقف عارية فوق ناصيات فروعها فى الليالى القمرية. وتأتى البنات بعلب صغيرة من صفيح أو زجاجات ويجرحن جذعها فى هدوء، ثم يجمعن اللبن الذى يتساقط منها لعلاج ما علق بجلودهن من أمراض، ونحمل من ثمرها الوفير إلى بيوتنا فيأكل الجميع، وفى الليل يتجمع تحتها ماعز القرية بعد أن يتركه الفلاحون ليتنفس بعيدًا عن الحظائر الضيقة، فتعود الإناث عشارى من تيوس عفية شبعى من أكل الجميز المتساقط بسخاء.

كنت أراها من بعيد، وأنا عائد إلى قريتى من المدينة بعد غياب، أمد رأسى من نافذة القطار فتبدو لى أجمة داكن خضارها، تحط فى الفضاء الرحب على مرمى البصر. لا أرى البيوت الخفيضة، التى تدلنى على بلدى، لكن أراها هى، فأقول: لا تزال بلدى على قيد الحياة.

وحين أخبرنى صديق الزمن القديم أنهم قد قطعوها، ورموها فى البركة، ورصوا فوقها قشًا، سكبوا فوقه ترابًا وطينًا ليوسعوا أرضية بيت الحجر والأسمنت الذى بنوه، شعرت بأن قريتى قد غارت إلى الأبد، انشقت الأرض وبلعتها وأخذت معها كل وجوه الأجداد التى كانت تحرسنا. ووجدتنى أغوص فى مقعدى وأتصاغر، وأدفن نفسى فى ذكريات الزمن الذى كانت فيه الجميزة تعيش فتجلعنا نعيش تحتها وحولها، مشمولين بوافر ظلها وثمارها الحلوة، وموسيقى عصافيرها التى كانت تجعل الماء يرقص طربًا، فيغمر أجسادنا التى تسبح نحو الطرف الآخر من البركة، ثم تعود إلى ظلالها مطمئنة.

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ظلال الجميزة «قصة قصيرة» ظلال الجميزة «قصة قصيرة»



إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 07:35 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 العرب اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 07:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 العرب اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 09:46 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 العرب اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 14:18 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
 العرب اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 09:07 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 العرب اليوم - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 07:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 07:15 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 05:57 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

نجاة نهال عنبر وأسرتها من موت محقق

GMT 22:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتل 3 جنود لبنانيين في قصف إسرائيلي

GMT 09:48 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

بيب غوارديولا يوافق على عقد جديد مع مانشستر سيتي

GMT 18:37 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

واشنطن تفرض عقوبات على 6 قادة من حركة حماس

GMT 16:42 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

جماعة الحوثي تعلن استهداف سفينة في البحر الأحمر

GMT 08:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يُعلّق على فوزه بجائزة عمر الشريف

GMT 06:43 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!

GMT 11:51 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تليغرام يطلق تحديثات ضخمة لاستعادة ثقة مستخدميه من جديد

GMT 08:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

أحمد العوضي يكشف عن بطلة مسلسله بعد انتقاد الجمهور

GMT 06:02 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر

GMT 03:04 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مصر تطالب بتبني قرار لوقف إطلاق النار في قطاع غزة

GMT 06:00 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتلة صورة النصر

GMT 18:42 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مسلسل جديد يجمع حسن الرداد وإيمي سمير غانم في رمضان 2025

GMT 18:00 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

حسين فهمي يكشف سر تكريم أحمد عز في مهرجان القاهرة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab