بعد حرب 1948، توزع كثير من الفلسطينيين على بلاد عربية شتى، صانعين ما يسمى «الشتات»، الذى لايزال قائمًا إلى يومنا هذا. بعضهم وجد مجتمعات تعامله كضيف يجب أن يُكرم إلى أن يعود إلى دياره، وأخرى تشفق عليه وتحدب وتتحمل وجوده دون سؤال عن موعد الرحيل، وثالثة لم تنظر إليه أبدًا على أنه غريب، إنما هو ابن البلد الأولى بالعناية والرعاية.
كان المجتمع المصرى فى مقدمة هذا الصنف الثالث، وهى سمة يحملها المصريون منذ أول التاريخ، حيث يفتحون أذرعهم لللائذ والمستجير والهارب بحق واللهفان والمستغيث والباحث عن ألفة وسلامة وأمن، أو أرض جديدة لفصل مختلف من حياته، فما بالنا لو كان هذا المستجير فلسطينيًا، يتعاطف المصريون مع قضيته، بل يعتبرونها قضيتهم المركزية، شأن الأغلبية الكاسحة من العرب وقتها!.
جاء والد الكاتب محمود يوسف خضر إلى القاهرة تاركًا بيته فى يافا مجبرًا، إثر هجوم الإسرائيليين المتوالى على مدن وبلدات فلسطين وقراها لدفع أهلها إلى الفرار وأخذ كل ما يملكون من بيوت وحقول ومصانع ومدارس... إلخ، فسكن حى «الضاهر» وفيه وُلد محمود عام 1956، وهو العام الذى كانت القضية الفلسطينية فيه حاضرة بقوة فى الأذهان والنفوس مع العدوان الثلاثى على مصر، ومشروع عبدالناصر العروبى.
هذا السياق المفعم بالحنين كان طاغيًا على كتاب «ضيف على الحياة» وهو يضرب نوعين من الكتابة بسهم واحد: السيرة الذاتية، وأدب الرحلات، لكن الكاتب جعل من تجواله فى بلاد الناس للعمل والنزهة والتعلم جزءًا لا ينفصل من مساره الحياتى، وجعل من طفولته وصباه فى مصر نقطة الانطلاق الأساسية وسنوات النشأة والتكوين التى لاتزال حاضرة فى نفسه، نلمسها فى لهجته وسمته وحكاياته القديمة. ويلخصها هو بعبارة شفاهية دافئة: «لم أُولد فى مصر فقط، بل أنا أُعد من المصريين»، أو كما ذكر فى الكتاب «كل غريب يأتى إلى مصر يتمصر».
لا يعطى الكتاب شهادة بعين آخر على حقبة من تاريخ مصر السياسى والاجتماعى والاقتصادى، بل هى بعين الذات، لا تختلف عن تلك التى حفلت بها السير الذاتية لمصريين وُلدوا فى الآونة نفسها، وشهدوا مصر فى عهدى عبدالناصر والسادات، بكل شؤونها وشجونها.. ولذا ينجذب «خضر» إلى التفاصيل الصغيرة: هندسة الشوارع، وهيئة البيوت، وما تبيعه الحوانيت، والباعة الجائلون، وعلاقة الجيرة والصداقة والزمالة فى السكن والدراسة واللعب.
لا تنفصل هذه الرؤية الكلية عنه وهو يقوم برحلاته المتعددة فى مشارق الأرض ومغاربها، وفى شمالها وجنوبها، فيما بعد، إذ كانت عينه دائمًا تراقب الطبيعة والطبائع معًا، فيصف لك ما رآه لتراه معه، ولو بعد زمن، وكأنه يحمل على كتفه كاميرا تسجل كل شىء، ثم يتركها لينصت إلى من حوله، فينقل لك ما يشغل الناس، ويرسم لك الكثير من ملامح الطقوس اليومية فى الأفراح والأتراح، وفى الأعراس والمآتم، وفى الصفاء والكدر.
ورغم أنه هو بطل الرحلات أو الحكايات، بحكم أنه راويها، نجده يفسح الطريق لكثيرين كى يشاركوه، سواء كانوا من علية القوم أو من بسطاء الناس، بل يوسع للأشياء لتحتل مكانها، وفق انجذابه إليها، وتفاعله معها، وانفعاله بها، فنجد الرقصات والحفلات وحلقات الذكر وسلو البدو وأهل الحضر، وأصناف الأطعمة والأشربة، التى تختلف من بلد إلى آخر، وتنبئ جميعها بالطرق التى يتآلف بها الإنسان مع ظروفه، ويتكيف مع أحواله، ويتغلب على مصاعبه، ويحل مشكلاته.
يتنقل بنا الكتاب بين قارات أربع، من الصحراء الجرداء التى لها جمالها الخاص، إلى الوديان العامرة بالخضرة، ومن حياة التقشف البسيطة إلى عيش رغيد فى قلب الحضر، ومن دول العالم الثالث، الفقيرة والنامية، إلى دول العالم الأول الغنية، دون أن يشعرك فى أى لحظة بانسحاق حيال الغنى أو التحضر المظهرى، أو القشرة الملونة التى تُغلف بعض المدن، ودون أن تحس معه أنه مقتنع بهذا التقسيم الخاضع لـ«المركزية الأوروبية»، إذ طالما رأينا أناسًا فى الصحارى لهم من القيم والأعراف ما يفوق فى محاسنه وفضائله تلك التى تعشش فى رؤوس وقلوب سكان ناطحات السحاب فى المدن العصرية. لا يضيع هذا من رأسه وهو يطوف بنا من مصر إلى الجزائر وتونس والمغرب وكندا والدنمارك وتركيا وأيرلندا الجنوبية وسلطنة عمان وغيرها.
لا ينسى «خضر» أن يبدأ من حيث انتهى، فيحط راحلته فى آخر الكتاب على أرض القاهرة، التى يعود إليها باحثًا عن سلواه ونجواه القديمة المتجددة، برفقة أصدقاء جدد، فيمد الخيط على كامل طوله عبر ستة عقود كاملة من الزمن، تغيرت فيها الأحوال، وجرت فى النهر مياه كثيرة، لكن مصر، التى سكنت مقلتى محمود وقلبه، لم تزل عند حالها الأولى، التى تفتحت عيونه عليها، وهى مسألة يدركها هو بخبرته، التى علمته أن المجتمعات القديمة لا ينفصل حاضرها عن ماضيها، وأن المصريين لم ولن يكفوا عن فتح أذرعهم للغريب، سواء جاء باحثًا عن ملاذ، أو راغبًا فى سياحة أو تعليم.
قلت لمحمود خضر فى تواصل بيننا عبر «واتس آب» إن الفصل الأول من كتابه نواة رواية أدبية، أتمنى أن يكتبها يومًا ما، فتأتى حافلة بالكثير من التفاصيل والمواقف والمفارقات والبشر والأشياء، وأعتقد أنه سيفعل هذا فيما بعد، مدفوعًا بحنين جارف إلى زمن القاهرة قبل نصف قرن، وبقدرته الواضحة على الوصف المتأنى، ورسم الشخصيات، وبناء الحكايات، وجذب القارئ إلى نص فيه الكثير من الفن والمعنى.