أتابع منذ سنوات دراسات د. محمد أبوالفضل بدران، المختلفة واللافتة في مجال التصوف الإسلامى، ولاسيما أنه يضع يده على أحد كنوزه الكبرى وهو «الأدب الصوفى»، حيث لغته وحكاياته وخيالاته وصوره وشطحاته وذائقته وقيمه وأفكاره ومساراته العجائبية والروحية في آن.
وبصحبة هذا تابعت أيضا أشعاره، ثم تدابيره وتصرفاته حين كان عميدا لكلية الآداب بقنا، التابعة لجامعة جنوب الوادى، ونائبًا لرئيس الجامعة، ورئيس هيئة قصور الثقافة وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة، وهما منصبان مر بهما مرور الكرام، لا عن قلة كفاءة ولكن لأن الظروف وقتها كانت تفتح الباب واسعا أمام تغييرات سريعة وفجائية.
كما أنه أستاذ زائر بجامعة بون الألمانية، وسبق له التدريس في جامعة بوخوم الألمانية أيضا، وهو محكّم خارجى لترقيات الأساتذة بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وعضو لجان ترقيات بعدد من الجامعات العربية.
ومن يطالع السيرة الذاتية للرجل يجدها عامرة بكل ما يطمئن إلى أحقيته في أن يكون أستاذا جامعيا بحق، هو في حد ذاته، وكذلك في عيون تلاميذه.. وقد أخبرنى أحدهم ذات يوم بكثير عن قدرات الرجل، سواء في تخصصه الأكاديمى أو في إدارة المواقع التي تبوأها.
فهو صاحب المؤلفات المهمة مثل: «دور الشعراء في تطور النقد الأدبى حتى القرن الثانى الهجرى» و«قضايا النقد والبلاغة في تراث أبى العلاء المعرى» و«رؤى عروضية» و«أدبيات الكرامة الصوفية» و«النقد الأدبى البيئى» و«الخضر في التراث العالمى» و«موت النص.. جدلية التحقيق والتخييل في النص الشعرى في ضوء النقد الأدبى»، ومؤلفات مع آخرين مثل: «النصوص الأدبية» و«العرب والألمان» و«تحليل النصوص الأدبية» و«مرفأ الحكايات»، إلى جانب أكثر من ثلاثين بحثًا منشورة بمجلات علمية وأدبية ونقدية عربية وعالمية.
وله ثلاثة دواوين شعر هي: «النوارس تحكى غربتها» و«لا تلتفت إلى الوراء» و«معلقة الخروج ساليدا».. علاوة على كل هذا، قام بتحقيق كتاب «العروض لعلى بن عيسى الربعى النحوى»، كما اختير المتحدث الرئيس بالمؤتمر العلمى الدولى للمؤسسة العالمية هُمْبُولْت Alexander von Humboldt Stiftung ببحث تحت عنوان «الماء يكتسب لون الكأس.. إشكالية العلاقة بين العرب وأوروبا» 2001.
وأبوالفضل بدران عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اللجنة العلمية لجائزة الشيخ زايد للكتاب، وهو محاضر متميز، إن أنصتَّ إليه جذب انتباهك، وإن فكرت في قوله وجدت به من العمق والجدة والجدية ما يستحق الالتفات والتقدير، أما إن طالعت كُتبه فسترى فيه باحثا جادا، إن أخذ بمسألة حفر فيها عميقًا ورآها من مختلف زواياها وترك بها بصمة لا تخفى على خبير، وهو أمر يعود بالأساس إلى تكوينه المنهجى الجاد والصارم.
وكنت قد قرأت بعض أبحاث ومقالات بدران، فراقت لى، ثم وصل إلىَّ كتاباه «الخضر في التراث العالمى» و«أدبيات الكرامة الصوفية.. دراسة في الشكل والمضمون»، فعكفت عليهما، فزادانى اقتناعًا بما أضافه الرجل إلى هذا المسار المعرفى الذي يحظى باهتمامى، وهو المتعلق بتجليات التصوف في الأدب والفنون والاجتماع والسياسة والفلسفة، وهى مسألة لا تزال بحاجة إلى مزيد من الفحص والدرس.
وكنت قبل شهور في جلسة لبعض الكتاب والنقاد والشعراء، وأتوا على ذكره، فراح أحدهم يشرح لى كيف أن أبوالفضل بدران لديه حس سياسى عالٍ، وكفاءة إدارية لا تخفى على من يتابعه، فتعجبت من أمر الرجل، لأن مهارته هذه لم تجعل مقامه يطول في منصب رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة أو منصب أمين عام المجلس الأعلى للثقافة، بل في الحقيقة إننى تعجبت من أمر المثقفين الذين لم يمهلوا الرجل وقتًا كافيًا كى يظهر مهاراته وقدراته، فعاملوه على أنه غريب عليهم لمجرد أنه لم يكن يومًا من رواد صالونات القاهرة ومقاهيها ودهاليز إداراتها الثقافية والأكاديمية.
نعم.. لقد ظُلم بدران، لأنه لم يمنح الفرصة الكافية، ووقع ضحية صراعات صغيرة، ورآهُ البعضُ يشكل خطرًا عليهم، فتاريخه في المعرفة والإدارة واتصاله بالخارج أكبر بكثير منهم، وطموحه كان يطل من عينيه.. ولهذا تم التخلص منه سريعا ليعود مرة أخرى إلى الجنوب المنسى، الذي يكافح بدران ومَن معه من النقاد وأساتذة الأدب والشعراء وكتاب القصة والرواية والمسرح من أبناء الصعيد إلى أن ينفضوا عن وجهه هذا النسيان، وينقلوه من الهامش إلى المتن.
ربما كان بدران يريد أن يطول به المقام في هذين المنصبين، اللذين انتقل معهما إلى أبواب فرصة للحضور الثقافى والإدارى والسياسى في القاهرة، التي تستأثر بكل شىء، وتبدو هي «الرأس الكاسح» بينما بقية البلاد هي «الجسد الكسيح»، حسب تعبير جمال حمدان.. لكنى أعتقد أن البحث العلمى والعمل الأكاديمى في حاجة أشد إلى بدران وأمثاله، ولاسيما بعد تفريغ جامعتنا من أغلب الأساتذة الأكفاء، إما لضعف في المستوى أو لهجرة خارجية سعيا وراء الرزق.
عرفت قبل أيام أن بدران من المرشحين لنيل جائزة الدولة التقديرية في الآداب، وأنه قد وصل إلى القائمة القصيرة التي سيتم التصويت على أسمائها بعد أيام.. وأعتقد أن الرجل يستحق هذه الجائزة، فهو جدير بها لإنتاجه العلمى المتميز، وخدمته مسار التعليم الجامعى. وقد تكون الجائزة هي أقل اعتذار يمكن أن يُقدم إلى هذا الرجل من المثقفين.. أو بمعنى أدق من مديرى الثقافة، لأنهم لم يمهلوه وأجهضوا فرصة كاد ينتهزها ليظهر قدراته في خدمة الثقافة وأهلها، وكان يجب أن يُعطاها كاملة مثل غيره