أقاصيص قصيرة جداً

أقاصيص قصيرة جداً

أقاصيص قصيرة جداً

 العرب اليوم -

أقاصيص قصيرة جداً

عمار علي حسن

اتفاق

انتظرنى على باب المساء فأتيته صباحاً، أدوس قطع الليل بقدمىَّ. حين اقتربت منه زالت عن وجهه الكآبة، وعن عينيه الأرق، وقال:

- تأخرت علىَّ.

فقلت له وابتسامة عريضة تنير وجهى:

- بل جئتك فى الموعد الذى يجب أن نلتقى فيه لتشهد شمس النهار على ما نتفق عليه.

بدت على وجهه حيرة، وثار فى عينيه تساؤل:

- ألا تثق بى؟

أومأت برأسى وأجبته:

- كل ما تعهد به فى أول الليل ذاب تماماً عن آخره، وحين أشرقت الشمس لم تجد منه شيئاً.

نظر إلىَّ بخبث وقال ضاحكاً:

- تتصرف وكأن الليل لن يأتى مرة أخرى.

ثم مد يده ليعاهدنى بينما عيناه تتابعان انحدار الشمس نحو الغرب.

جوع

استبد بى الجوع حتى أشرفت على الهلاك. قمت أبحث عن شىء آكله فلم أجد سوى كسور يابسات ملقاة فى قعر سلة مهملات، مسنودة فى ركن مظلم.

مددت يدى لآخذ إحداها، فتسلقت كائنات دقيقة ساعدى، وعضنى فأر، ووخزتنى أرجل نمل شرس.

كانوا جميعاً منهمكين فى ملء بطونهم، لا يدرون شيئاً عن صاحب البيت الذى نفد طعامه، وضاعت نقوده منذ مدة، ويمنعه تعففه من أن يسأل الناس، ويتمنى فى هذه اللحظة لو سخطه الله فأراً أو نملة أو حتى جرثومة، كى يكفيه أقل القليل، ويستغنى عن العالمين.

صور

جلس الولد ذو الجسد المطلى بالشحوم والزيوت والطين وسط الأطباق اللاقطة المبعثرة على سطح البناية الشاهقة. حملق فى تجاويفها الناعمة التى يحط عليها غبار كثيف، فرأى رجلاً وسيماً يقبل امرأة جميلة، ولاعباً يركل كرة فتهوى بعيداً، وشجراً يهتز تحت مطر شديد، وعرائس من خشب وقطن تتراقص يمنة ويسرة، وأسداً يلتهم وعلاً، وضباعاً تربض بعيداً تنتظر انتهاءه من طعامه، وهدهداً يحلق فى سماء قريبة، ثم يهبط على مهل، ونهراً عذباً جارياً، ينجرح فى طريقه، فتظهر ترعاً وسيعة، ومسارب ضيقة، وشاباً يتشاجر مع قرينه على جسر عالٍ.

فرك الولد عينيه وهو يغمضهما، ثم فتحهما فجأة، وراح يخلع ملابسه على مهل، ليلقى جسده فى النهر، محاذراً من أن يراه الأسد والضباع، أو ينبئ الهدهد الشابين المتشاجرين بما فعل.

ثرثرة

جلس وحيداً على شرفة المساء يتحدث بكل ما يعلمه عن ماضيه الذى ولَّى. كان صوته يدوِّى ويخفت مع اشتداد الريح وانخفاضه. فلما انتهى من كلامه نظر إلى الأمام طويلاً، فوجد حروفاً تتأرجح فى دوامات تستدير ثم تنبعج وتستطيل، وتعود إلى هيئتها الأولى، وتعلو قليلاً فوق التراب الناعم، وتطير فى الهواء.

وسادة

رقصت الوسادة طرباً لأن رأس النائم عليها فى هدوء غارق فى حلم رائع، رأى نفسه فيه يطير فوق هامات النخيل العالى ويرفرف فى وجه النسيم العليل، بينما الناس تتباعد فى عينيه حتى تصير كنمل يدب نحو جحور تبدو ثقوب إبر يأكلها الصدأ.

إرهاق

أسبوع بلا نوم جعله يرى أشباحاً ترقص أمامه وخلفه، بينما صدره يضيق، ورجلاه تخوران، ورأسه يثقل تحت وطأة صداع حاد. مد يده وأمسك شبحاً، وداس عليه بأظافره، فسمع صرخة تردد صداها فى الغرفة الفسيحة الخالية، أتبعتها همهمة وهسهسة لم تلبث أن تلاحمت لتصير قولاً لا تخطئه أذن:

- أنا رسول السلطان.

امتلأ وجهه بدهشة جعلت صفاره يكتسى بحمرة عابرة، وسأل:

- أى سلطان؟

- النوم.

أراد أن يقهقه لكن عافيته لم تعنه، واكتفى بالقول:

- قررت أن أهزم سلطانك.

قهقه الشبح وقال وهو ينزع كتفه من الأظافر التى نشبت فيه:

- مغرور من يظن أن بوسعه العيش كما يريد.

قطة

ماءت وقفزت من النافذة إلى الشارع. وقفت تراقب السيارات التى تمرق غير حذرة، والناس الذين يتقاطرون على الرصيف المرصوف.

فجأة قررت أن تعبر نحو الجانب الآخر لتلحق بقطة أخرى كانت تنظر إليها فى لهفة، لكن سيارة بيضاء صدمتها، وأسقطتها بين عجلاتها، وسيارة حمراء دهستها، وزرقاء أكملت الدهس فتهشم رأسها وتفرطح جسدها وتناثرت أحشاؤها، وخضراء أخذت جزءاً منها فى منايم عجلاتها الأربع، وتوالت السيارات لتأخذ بقية الأجزاء فى منايم وحفائر مرسومة وسط الجلد السميك المنفوخ، حتى لم يبق منها شىء، بينما القطة الثانية واقفة مكانها يتضاءل جسدها، وينكمش فى صمت.

ذاكرة

أربعون ليلة كان علىَّ أن أقضيها وحيداً، أحملق فى جدران تشاركنى صمتى وغربتى. لم يجبرنى أحد على هذه العزلة، بل ذهبت إليها بإرادتى.

سئمت الكلام والسماع، ولم يعد هناك ما يدهشنى، بعد أن فعلت وجربت كل شىء، الطاعة والعصيان، الورع والفسوق، الرحمة والقسوة، الكدح والكسل، السير والقعود، الضحك والبكاء، الحب والكراهية، ولم يعد لدىَّ ما أضيفه للحياة.

أطفأت النور، وأغلقت الباب والنوافذ، وحملقت فى الفراغ، محاولاً أن أنسى كل ما يتعلق بالماضى، فى البيت والشارع والمكتب والسوق ومحطة القطار والمطار، لكن كل شىء راح يطاردنى، فأراه مرسوماً على الجدران، كما جرى، بل أضيفت إليه مشاهد أخرى، اقتحمت وحدتى وأفسدتها.

لحوم

لا تدرى قطع اللحم الضخمة المعلقة فى خطاطيف مثبتة فى واجهة محل الجزار أنها كانت قبل ساعة عجلاً يرعى ويجتر غير عابئ بشىء.

والجزار الذى يهوى بساطوره على كتل اللحم فيشقها لا يريد أن يتذكر أن القطع التى تتكوم تحت يده أطنان من العشب والعلف. والذين يتزاحمون لابتياع اللحم لا تشغلهم سوى بطونهم الخاوية، ولا يريدون أن يروا العجل الذى يقف جانباً يلوك حزمة برسيم، وينظر إلى الزحام منتظراً دوره فى الذبح، دون أن يعى أن اللحم المعلق أمامه هو لمن كان يقف إلى جانبه قبل ساعة واحدة.

arabstoday

GMT 07:18 2024 الأحد ,08 أيلول / سبتمبر

شريك المأوى

GMT 07:15 2024 الأحد ,08 أيلول / سبتمبر

لا تنتخبوا مرشحي المال الأسود

GMT 07:12 2024 الأحد ,08 أيلول / سبتمبر

“الكباريتي” رجل دولة من طراز مختلف

GMT 07:10 2024 الأحد ,08 أيلول / سبتمبر

لماذا نشعر بالقلق أكثر من أى وقت مضى؟

GMT 06:57 2024 الأحد ,08 أيلول / سبتمبر

يكسب دائمًا

GMT 06:52 2024 الأحد ,08 أيلول / سبتمبر

صفحة جديدة

GMT 06:44 2024 الأحد ,08 أيلول / سبتمبر

قضايا انتخابية 2024

GMT 06:39 2024 الأحد ,08 أيلول / سبتمبر

مرونة أم تنازل؟!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أقاصيص قصيرة جداً أقاصيص قصيرة جداً



النجمات العرب يتألقن أثناء مشاركتهن في فعاليات مهرجان فينيسيا

فينيسيا ـ العرب اليوم
 العرب اليوم - أشهر الجزر السياحية في فينيسيا لقضاء عطلة ممتعة
 العرب اليوم - إستخدام اللون الفيروزي في ديكور المنزل المودرن

GMT 05:16 2024 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

نخر الأنف قد يساهم في خطر الإصابة بمرض ألزهايمر

GMT 07:57 2024 السبت ,07 أيلول / سبتمبر

ما قبل الصناديق

GMT 18:31 2024 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

وفاة مدرب فرانكفورت في حادث سير

GMT 06:56 2024 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

الجيش الإيراني... الحسابات والأخطاء التقديرية

GMT 14:07 2024 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

انتشار واسع لـ حمى غرب النيل في أوروبا

GMT 14:09 2024 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 40878 شهيدا و94454 إصابة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab