فى وصف حضرة صوفية

فى وصف حضرة صوفية

فى وصف حضرة صوفية

 العرب اليوم -

فى وصف حضرة صوفية

عمار علي حسن

بعد صلاة العشاء جاء ثلاثة رجال يرتدون جلابيب بيضاء، رفعوا حُصَر الديس والقش والحلفا، وأحضروا ثلاثة جرادل مملوءة بماء قراح، ورشوا الأرض برذاذ خفيف، ثم فرشوا الحصر، ووضعوا سجادة خضراء ذات عُقد وشراشيب بنية على هيئة قباب مساجد عتيقة. وجاء رجل رابع يحمل مجمرة، ونفخ فيها ففاح البخور، وعطَّر المكان.
ووزع خامس كتاب «دلائل الخيرات» على الحصر فى صفوف، وعلق سادس مزيداً من الفوانيس بعد أن ملأها بالكحول، ودس فى جوفها رتائن جديدة، ففج النور الأبيض وتلألأ، وحوّل ليل المكان إلى نهار.
وهلَّ الشيخ أخيراً، رجل بهىُّ الطلعة هو، يخبُّ فى بياض الثوب والعمامة واللحية الشهباء القصيرة التى تطوّق وجهاً قمحياً تتوسطه عينان وسيعتان. وكانت تمشى خلفه أخلاط من الرجال، بدناء ونحفاء، طوال وقصار، كان أحدهم يمسك دفاً محفورة على جوانبه بعض أسماء الله الحسنى، يهزه فيُحدث شخللة وصهللة، فتتراقص البهجة، وإلى جانبه رجل ذو وجه مثلثى يمسك ناياً يتلوى بين أصابعه، فتتقاطر منه آلام محبوسة من أنين الحضرة الفائتة.
جلس الرجل المهيب فى الصدارة، وتوزع المقبلون معه على الحصر، ولحق بهم آخرون، وجلس كل منهم أمام نسخة من الكتاب، ومدوا أيمانهم وأمسك كل بكتابه، وبدأ الشيخ فى القراءة وأصوات مريديه تصاحبه، فتصنع لحناً شجياً. وأول ما قرأوا كان أول الكتاب الذى بأيديهم:
«بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنى نوَيتُ بالصلاة على النبىِّ، امتثالاً لأمركَ، وتصديقاً لنبيِّكَ محمد، ومحبَّة فيه وشوقاً إليه، وتعظيماً لقدره، ولكونه أهلاً لذلك فتقبَّلها منى بفضلك وإحسانك، وأَزِلْ حجاب الغفلة عن قلبى، واجعلنى من عبادك الصالحين. اللهم زِدْهُ شرفاً على شرفه الذى أوليته، وعِزَّاً على عِزِّه الذى أعطيته، ونوراً على نوره الذى منه خلقته، وأعْلِ مقامه فى مقاماتِ المُرسلين، ودرجته فى درجاتِ النبيِّين، وأسألك رضاك ورضاه يا ربَّ العالمين، مع العافية الدائمة، والموتِ على الكتاب والسنَّة والجماعة، وكلمتى الشهادة على تحقيقها، من غير تبديل ولا تغيير، واغفر لى ما ارتكبته بفضلك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين، وصلّى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين».
وبعد أن انتهوا من القراءة قام أحد المريدين وفى يده مشنة من الخوص، وراح يوزع قراقيش معجونة بالملح والكمون على الذاكرين، كل منهم التقط واحدة، وقضمها متلذذاً. ودار عليهم بعده رجل يحمل إبريقاً مملوءاً بماء الورد وكوباً صغيراً من النحاس، فشربوا وذاب الطعم فى حلوقهم.
وقام الشيخ فقاموا فى صفين متوازيين، وهم يهزون أكتافهم فى لطف حتى تعتدل الجلابيب عليها، وصوَّبوا عيونهم نحو شيخهم، فحطَّ عينيه عليهم فى نظرة واحدة وهو يبتسم، ثم ضرب كفيه، وراح يطوح رأسه يميناً ويساراً وصوت يخرج من قلبه: «الله حى.. الله حى»، فطوَّح المريدون رؤوسهم ورددوا وراءه، ثم دقَّ الدف مختلطاً بنشيج الصدور، وناح الناى، فانجرحت النفوس، وتخلت عن مشاغل الدنيا، وتجلت بأنفس ما فيها.
وجاء صوت المنشد عذباً مشحوناً بمعانٍ سامية:
«والله ما طلعت شمس ولا غربت... إلا وحبك مقرون بأنفاسى
ولا خلوت إلى قوم أحدثهم... إلا وأنت حديثى بين جلاسى
ولا ذكرتك محزوناً ولا فرحاً... إلا وأنت بقلبى بين وسواسى
ولا هممت بشرب الماء من عطش... إلا رأيت خيالاً منك فى الكاسِ
ولو قدرت على الإتيان جئتكم... سعياً على الوجه أو مشياً على الراسِ».
وطارت القلوب فى روعة الشعر والتذوق، متأرجحة بين مسرَّة الدف ووجع الناى، وصفت السماء فوق الرؤوس، وراحت تسحب روائح البخور الزكية، وتنصت إلى عذب الكلام الذى تشدو به حنجرة ندية، تفيض العيون لسماعها، ويصل الخشوع إلى ذروته.

 

arabstoday

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 03:56 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 03:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 03:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 03:42 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 03:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 03:37 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

فلسطين وإسرائيل في وستمنستر

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فى وصف حضرة صوفية فى وصف حضرة صوفية



GMT 10:34 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
 العرب اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 13:32 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 العرب اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 10:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
 العرب اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 03:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 06:15 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط وإزالة الحواجز إلى قصرَين

GMT 04:01 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 20:58 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

الجيش الأميركي يقصف مواقع عسكرية في صنعاء

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

موسكو تسيطر على قرية بمنطقة أساسية في شرق أوكرانيا

GMT 14:19 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إلغاء إطلاق أقمار "MicroGEO" الصناعية فى اللحظة الأخيرة

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

وفاة جورج إيستام الفائز بكأس العالم مع إنجلترا

GMT 17:29 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

سائق يدهس شرطيا في لبنان

GMT 14:06 2024 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

إصابات بالاختناق خلال اقتحام الاحتلال قصرة جنوبي نابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab