ليل وجوع

ليل وجوع

ليل وجوع

 العرب اليوم -

ليل وجوع

عمار علي حسن

خرج فجأة من قطعة العتمة الراقدة تحت الجدران العالية، التى تظلل بائعة الجرائد البدينة فى شارع «قصر العينى»، هكذا وجدناه أمامنا واقفاً يلهث دون أن نعرف من أين أتى، ولمَّا خلص إليه الضوء الذى ينبعث من لمبات الشارع، انكسر على وجهه الحليبى المتشرب حمرة لم تنل منها سنوات عمره الطويلة.

كان رأسه مدفوناً فى صدره، وشعره الأصفر القصير المجعد، يشاكس خيوط النور والعتمة، التى تتصارع فوق هامات الواقفين. مد يداً مرتعشة فى طرفها خمسة جنيهات، دون أن يرفع بصره نحو أى أحد فينا. كان جسده يرتج، ويهطل من فمه لعاب غزير ويتناثر، فجفل منه اثنان، وتراجعا خطوات إلى الخلف.

اقترب أحدهما منه وسأله:

ـ أى جريدة تريد؟

لكنه لم يرد. حاول أن يحرك شفتيه بأى حروف دون جدوى، فمال بجسده قليلاً، فظننا أنه يريد أن يلتقط صحيفة. مدت البائعة يدها وسحبت منه ورقة النقود، وحاولت أن تضع فى يده صحيفة «الأهرام»، هكذا استنتجت أن العجائز أمثاله لا بد أن يطلبوا مثلها. لم يقدر على أن يقبض عليها، فسقطت من يده على الأرض.

اعتقدنا أنه يريد غيرها، فوضعنا صحيفة جديدة فى يده، لكنها سقطت أيضاً. وهكذا أخذت الصحف تتساقط، وهو يحرك جسده، بما جعلنا نعتقد أنه لا يرغب فى التى أعطيناها له، ويطلب غيرها.

وذهب أحد الواقفين إلى فرشة المجلات الراقدة إلى جانب الصحف، وراح يرفع واحدة تلو الأخرى، لكن المجلات انزلقت تباعاً من يده، وصنعت كومة تحت قدميه، أطلت منها صور كثيرة لساسة كبار، وفنانين، ولاعبى كرة قدم.

أحدنا جرى إلى الخلف، والتقط كرسياً خشبياً قديماً، وثبته بحجر صغير حتى يستقر، ثم حاول أن يجلسه عليه، لكنه تشبث بوقفته، ودفع قدميه فى الأرض أكثر، فهدأ ارتعاشه قليلاً، إلا أن يده زادت من ارتعاشها، حتى تصور أحد الواقفين أنه سيلطمه على وجهه، فتراجع إلى الخلف فجأة، متعثراً فى كومة الصحف، وكاد يسقط فوق رأسه البائعة.

أعاد الرجل الكرسى إلى مكانه، وانهمكت البائعة فى جمع الصحف والمجلات الساقطة، يداها على الورق، وعيناها ذهبتا إلى الشارع، حيث وقفت سيارة، مد صاحبها يده طالباً شراء بعض الصحف، وبان فى سحنته ضجر شديد.

شعر الرجل بأن الجميع أخذوا ينصرفون عنه، تاركين إياه واقفاً، بعد أن أعادوا الجنيهات الخمسة إلى أطراف أصابعه، فراح يمد نقوده من جديد، وهو يهمهم بحروف غير مفهومة. الذين عادوا للاهتمام به هذه المرة كانوا أقل بكثير من سابقتها. لكنه تمكن من أن يعيد الكل إليه، حين رفع رأسه قليلاً، وصوب نظرة خاطفة إلينا، ونفخ صدره، فانتفخت عروقه، وتوقفت يداه عن الارتعاش برهة، وهى ترتفع نحو فمه، ثم دقت على شفتيه بقوة، وسمعنا حرفى «الجيم» و«العين».

احترنا قليلاً، لكن أحدنا، وكان يقف على بعد خطوات فى مواجهة الرجل، نطق وقال:

ـ الرجل جائع.

ثم جرى إلى مطعم فى الجانب الآخر من الشارع، وهو يقول له كى يطمئنه:

ـ ثانية واحدة.

لكن الرجل مضى صامتاً. حاولنا أن نمهله حتى يأتى إليه الطعام، إلا أنه غمغم بقوة، وتحول الرذاذ على شفتيه إلى رغاء، بينما أخذ صدره يفور من الغيظ. خليَّنا بينه وبين الطريق، فسار بخطوات وئيدة، حتى ابتلعته قطعة الظلام راقدة تحت مظلة موقف الباصات، يرقد تحتها متشرد عجوز ملفوف فى أسماله، وصوت شخيره يصل إلى أسماع كل الواقفين يفتحون عيونهم واسعة، ليطالعوا عناوين صحف الغد.

arabstoday

GMT 18:40 2025 الخميس ,13 آذار/ مارس

بدايات

GMT 18:39 2025 الخميس ,13 آذار/ مارس

النهايتان

GMT 06:32 2025 الخميس ,13 آذار/ مارس

سوريا المستقبل… لا تقسيم ولا إيران

GMT 06:29 2025 الخميس ,13 آذار/ مارس

سوريا: تحدّيات الاستقرار والوحدة

GMT 06:18 2025 الخميس ,13 آذار/ مارس

متى يلحق العراق بالتغيير في لبنان وسوريا؟

GMT 06:10 2025 الخميس ,13 آذار/ مارس

عبير الكتب: طه حسين والفتنة الكُبرى

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ليل وجوع ليل وجوع



الملكة رانيا بعباءة بستايل شرقي تراثي تناسب أجواء رمضان

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 18:58 2025 الخميس ,13 آذار/ مارس

أحمد العوضي يكشف كواليس قبوله "فهد البطل"
 العرب اليوم - أحمد العوضي يكشف كواليس قبوله "فهد البطل"

GMT 06:29 2025 الخميس ,13 آذار/ مارس

سوريا: تحدّيات الاستقرار والوحدة

GMT 11:42 2025 الأربعاء ,12 آذار/ مارس

تليين إيران أو تركيعها: لا قرار في واشنطن؟

GMT 07:01 2025 الأربعاء ,12 آذار/ مارس

فرصة كي يثبت الشرع أنّه ليس «الجولاني»...
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2025 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab