القوى الناعمة والجاليات الأجنبية

القوى الناعمة والجاليات الأجنبية

القوى الناعمة والجاليات الأجنبية

 العرب اليوم -

القوى الناعمة والجاليات الأجنبية

بقلم : مصطفي الفقي

شاءت ظروف عملى الجديد أن أتواجد فى مدينة «الإسكندرية» ثلثى الوقت أسبوعياً، وبدأت أتأمل تلك المدينة التاريخية، التى كانت عروساً لـ«البحر المتوسط» وملاذاً للحضارات وملتقًى للثقافات، وأحزنتنى كثيراً تلك التطورات التى حلت بها والتغييرات التى طرأت عليها، فـ«عروس البحر الأبيض المتوسط» ارتبط اسمها بفتوحات «الإسكندر المقدونى» وغزواته وحروبه عندما قصد موقع قرية «راقودة» ليبدأ مشروعه الكبير بإنشاء إمبراطورية تصل إلى بلاد (فارس)، فأوعز إليه مستشاروه بأن يذهب إلى «واحة سيوة»، حيث «معبد آمون» ليعلن نفسه ابناً للإله تقرباً إلى المصريين وخطباً لودهم، وعلى الرغم من وجود عشرات المدن فى أركان الدنيا الأربعة باسم «الإسكندرية»، فإن «إسكندرية مصر» هى الأصل، والتى ينتسب إليها غيرها، إنها تلك المدينة التى شهدت عصور ازدهارها عندما عاشت فيها جاليات أجنبية من يونان وطليان وأرمن ويهود وشوام، فكانت بحق أيقونة على شاطئ «المتوسط»، ولقد ظلت حتى نهاية النصف الأول من القرن العشرين مدينة جميلة رائعة، حتى إنه إذا كانت هناك سفينة تسعى فى عباب البحر المتوسط، فإن القبطان كان يتجه بها مسرعاً إلى «الإسكندرية» ليتنسم من حضارة الإغريق والرومان وقبلهما الفراعنة العظام وبعدهما الحقبة القبطية، ثم العصر الإسلامى، الذى ازدهرت فيه المدينة وتألقت، وكنا نفاخر بتلك المدينة الفريدة فى نوعها، المتميزة بموقعها، فهى مدينة «مكتبة الإسكندرية»، التى أنشأها «بطليموس الأول»، والتى تعرضت لحريق أتى عليها، والذى مازال المؤرخون يختلفون فى تفسيره، كما ظل «فنار الإسكندرية» هادياً لمَن يركبون البحر ويرتادون عباب الماء، فى ظل الظلام الذى يسيطر على جوه الرهيب بعدما تغيب الشمس.

وقد شهدت «الإسكندرية» ازدهاراً مستمداً من القوى الناعمة لـ«مصر»، فـ«بابا الأقباط» هو «بطريرك الإسكندرية»، والجماعات الدينية الإسلامية و«الفرق الصوفية» تخرج منها أيضاً، فقد كانت بحق مدينة الثراء الثقافى والرقى الإنسانى، حتى إن أول صدور لصحيفة «الأهرام» بدأ من «الإسكندرية» قبل «القاهرة» بعدة سنوات، ولقد كان المجتمع السكندرى نموذجاً للاختلاط الرائع بين الثقافات والديانات، بل الحضارات أيضاً، حتى إن فيها آثاراً فرعونية ويونانية ورومانية وقبطية وإسلامية، عرفت المدينة المساجد الكبرى والكنائس القديمة والمعابد، التى لاتزال شاهداً على سماحة المصريين واحترامهم للآخر، ولو أن «مصر» لم تواجه ما واجهته فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى من تحديات خارجية لتغير مجرى التاريخ واختلفت الحياة عما هى عليه، فلاتزال سجلات العائلات الأجنبية معروفة بأسمائها فى تلك المدينة المصرية التاريخية، التى أصبحت فى بعض مراحلها الأخيرة مرتعاً للتطرف ومسرحاً لعمليات إرهابية تبدو بعيدة تماماً عن شخصية تلك المدينة العالمية، التى ضمت الأجناس والأعراق والأديان بلا تفرقة، وما أكثر اللحظات التى أتأمل فيها تلك المدينة، التى صحت ذات صباح على طلقات المدفعية من البوارج البريطانية تقصف ذلك الثغر الجميل، بداية لاحتلال أجنبى جثم على صدر مصر أكثر من ثلاثة أرباع قرن، فكانت هى حائط السد المنيع أمام القوى الغاشمة والعدوان الذى لا يتوقف، إنها المدينة التى عرفت «سعد زغلول» زعيماً شعبياً و«عبدالناصر» قائداً وطنياً، حتى دوّت الرصاصات، التى أطلقها شاب إخوانى فى نوفمبر عام 1954.

فكانت إيذاناً بالطلاق الكامل بين ثورة يوليو وجماعة «الإخوان المسلمين»، ولا عجب، فهى المدينة التى انطلقت منها أول برقية تأييد للثورة المصرية عام 1952، حتى خرج الملك السابق فى الباخرة «المحروسة» متجهاً إلى «إيطاليا»، حيث منفاه الأخير، وكان وداعه كريماً ومتحضراً، حتى أطلقت له المدفعية واحدة وعشرين طلقة، وعُومل كالملك الذى يذهب فى نزهة قصيرة...

ثم يعود، ولكنها كانت نهاية قرن ونصف القرن من حكم «الأسرة العلوية» بما لها وما عليها، لذلك فإن «الإسكندرية» هى بحق متحف للزمان والمكان وشاهد تاريخى على عظمة «مصر» وأمجاد شعبها، ولقد أحزننى كثيراً أن عدداً كبيراً من قصورها الرائعة قد جرى هدمه فى العقود الأخيرة لكى ترتفع بديلاً عنه أبراج عالية، شوهت إلى حد كبير جمال المدينة و«كورنيش» الثغر، الذى تطل عليه عمارات شاهقة، نحَر البحر واجهاتها فى تشويه وإهمال ظاهرين، فضلاً عن المقاهى الشهيرة فى وسط المدينة، والتى لم تعد كسابق عهدها كما كانت قطعة مما عرفناه فى العواصم الأوروبية الكبيرة، إننى أطالب- باسم القوى الناعمة المصرية فى الأدب والفن والعلم والمعرفة- بأن يعود إلى «الإسكندرية» رونقها وبهاؤها حتى تصبح مركز جذب للجاليات الأجنبية من جديد، لأن التعددية هى دليل تحضر، كما أن التنوع هو تعبير عن طبيعة الحياة وفلسفة الوجود، ولقد اخترت مدينة «الإسكندرية» نموذجاً لانطلاق القوى الناعمة المصرية واحتضان الجاليات الأجنبية، لأننى أدرك أننا قد خسرنا كثيراً بخروج الأجانب من بلادنا، فقد كانوا عنصر رقى ومؤشر تحضر خسرناه دون مبرر، وسوف نتطلع إلى يوم قريب يزدهر فيه الوطن وتسطع نجومه ويعود بريق الزمن الجميل إلى أرجائه الواسعة وأرضه الطيبة وشعبه العريق.

arabstoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القوى الناعمة والجاليات الأجنبية القوى الناعمة والجاليات الأجنبية



إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الفخامة والحداثة بأسلوب فريد

عمّان ـ العرب اليوم

GMT 07:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا
 العرب اليوم - تحوّل جذري في إطلالات نجوى كرم يُلهب السوشيال ميديا

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية
 العرب اليوم - وجهات سياحية راقية تجمع بين الطبيعة الساحرة وتجارب الرفاهية

GMT 07:39 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات
 العرب اليوم - كيف تختار الأثاث المناسب لتحسين استغلال المساحات

GMT 21:12 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
 العرب اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 08:12 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية
 العرب اليوم - التغذية السليمة مفتاح صحة العين والوقاية من مشاكل الرؤية

GMT 02:48 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات
 العرب اليوم - المحكمة العليا الأميركية ترفض استئناف ميتا بقضية البيانات

GMT 08:36 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

أطعمة ومشروبات تساعد في علاج الكبد الدهني وتعزّز صحته

GMT 02:40 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

القهوة والشاي الأسود تمنع امتصاص الحديد في الجسم

GMT 06:59 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فلسطين و«شبّيح السيما»

GMT 07:22 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

دراسة تحذر من أن الأسبرين قد يزيد خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:52 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

كفاءة الحكومة

GMT 06:45 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

لبنان يقترب من وقف النار

GMT 10:19 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

جهود هوكستين: إنقاذ لبنان أم تعويم «حزب الله»؟

GMT 16:54 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا تتعاون مع الحوثيين لتجنيد يمنيين للقتال في أوكرانيا

GMT 02:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

11 شهيدًا في غارات للاحتلال الإسرائيلي على محافظة غزة

GMT 06:56 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

فرصة إيرانية ــ عربية لنظام إقليمي جديد

GMT 19:23 2024 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

ميادة الحناوي تحيي حفلتين في مملكة البحرين لأول مرة

GMT 03:09 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عدوان جوي إسرائيلي يستهدف الحدود السورية اللبنانية

GMT 07:58 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

اندلاع حريق ضخم في موقع لتجارب إطلاق صواريخ فضائية في اليابان

GMT 07:53 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

ألمانيا تحاكم 4 أشخاص بزعم الانتماء لـ "حماس"

GMT 06:54 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

النموذج السعودي: ثقافة التحول والمواطنة

GMT 07:10 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

تحذير أممي من تفشي العنف الجنسي الممنهج ضد النساء في السودان
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab